ملخص
في اليوم العالمي للمدن تطل مدن عربية مختالة بما أصبحت عليه وتتوارى أخرى محرجة أو منهكة خلف تلال من ركام الحروب أو أطنان من الصبات الخرسانية. تقف مدن عربية على مرمى حجر مما تعتبره الأمم المتحدة ومتخصصون التوسع العمراني وتشييد المدن الحديثة نموذجاً يحتذى ومثالاً يتحتم على الجميع السير على نهجه بينما تلهث أخرى لتتماسك وتتمكن من الوقوف.
لم تعد عبارة "المدن العربية" تعني شيئاً محدداً، أو تدل على ملامح معينة، أو معالم مميزة. بينما في الماضي كان متخصصو التنمية العمرانية مهمومين بالتحولات الداخلية في المجتمعات العربية، والعوامل الخارجية ذات الصلة بالعولمة الاقتصادية، وآثارها في المدن العربية، وبنيانها الاقتصادي والاجتماعي والعمراني.
مئات الاجتماعات وآلاف الأوراق والبحوث تم إنجازها للبحث في هذه المدن العربية المتفردة، من ناحية التاريخ والجغرافيا والاجتماع والثقافة، التي تختزن طاقات هائلة محركة للتنمية الاقتصادية من جهة، ومن جهة أخرى تواجه تحديات متزايدة من عنف وتهميش وفقر وإجحاف، وهو ما ينتج منها تناقضات في الأشكال المعمارية والأنماط الحضرية المختلفة.
مواءمة بين المكان والزمان
لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أجرت دراسات عدة حول وضع المدينة العربية، وما تواجهه من تناقضات في سعيها إلى التوسع العمراني والحداثة.
مثل هذه الجهود والهموم مضى عليها ما يزيد على عقد ونصف العقد، هذه الأعوام كانت كفيلة بنقل المدن العربية من مرحلة المواءمة بين المكان والزمان والتفرد والبناء والتوسع، إلى مرحلة أمر واقع جديد هو خليط من الإنجاز العظيم، والإخفاق الرهيب، ولا يخلو الأمر من اندثار ملامح وبزوغ أخرى تتمثل إما في نسق معماري بالغ الحداثة، أو في دمار كلي أتى على البنى التحتية والفوقية وما بينهما.
اليوم تطل مدن عربية مختالة بما أصبحت عليه، وتتوارى أخرى محرجة أو منهكة خلف تلال من ركام الحروب، أو أطنان من الصبات الخرسانية.
في هذا اليوم، تقف مدن عربية على مرمى حجر مما تعتبره الأمم المتحدة ومتخصصو التوسع العمراني وتشييد المدن الحديثة نموذجاً يحتذى، ومثالاً يتحتم على الجميع السير على نهجه، بينما تلهث أخرى لتتماسك وتتمكن من الوقوف.
نموذج ما ينبغي أن تكون عليه المدن في العرف الأممي هذا العام يرتكز على تعزيز الابتكار والتحول الرقمي من أجل التحضر المستدام، ويعتبر التكنولوجيا الرقمية أداة أساسية للتعامل مع التحديات التي تواجهها المدن عام 2025، مع وضع الناس في بؤرة الاهتمام.
"المدن الذكية المتمحورة حول الإنسان" عنوان الاحتفاء بمدن العالم اليوم. اليوم العالمي للمدن في 2025 هو الأكثر إقراراً بالقوة التحويلية للتقنيات الرقمية التي تعيد تشكيل مدن العالم بسرعة كبيرة. التحولات الحضرية المتزامنة مع التحولات الرقمية تدفع المدن والقائمين عليها إلى الاعتماد الأكبر على الحلول الرقمية لحل مشكلات السكان، ورفع مستوى الجودة في حياته، والتناول الأمثل هو تطويع التقنيات الرقمية وأدواتها في بناء المد وتوسعاتها الحضرية لتناسب حاجات السكان، ومع أخذ الآثار الاجتماعية والبيئية في الحسبان.
دوار المدن العربية
النظر إلى المدن العربية في اليوم العالمي للمدن يصيب بالدوار، فمن مدن تعتقدها نيويورك لولا اختلاف الطقس وملابس المارة، إلى أخرى اختفت معالمها الثقافية والتراثية خلف سواتر خرسانية وقلاع أسمنتية، وثالثة حائرة بين ماضيها وحاضرها، ورابعة تحولت أحياؤها إلى ركام لا يرقى إلى أطلال.
الصراعات التي ضربت – وبعضها ما زال يضرب - عدداً من المدن العربية خلفت وراءها حجماً مذهلاً من الدمار، من الصومال واليمن إلى ليبيا وسوريا ومنهما إلى غزة والسودان، لا تسمح فداحة الركام لأي من نماذج المدن الذكية كما ينبغي أن تكون، أو صديقة الإنسان بحسب ما تنص أدبيات العمران الراقي بالتطرق إلى بال السكان أو سياسات المسؤولين أو أولويات الممولين والمتبرعين.
اليوم، يبدو الحديث عن مذاق المدن ونكهتها، وعمرانها المتسق مع شخصيتها، وعمران البناء وخصوصية التاريخ، ومواد التشييد وطبيعة الطقس، بينما جهود إعادة إعمار مدن في سوريا وليبيا واليمن أقرب ما يكون إلى العيب أو الانفصال عن الواقع.
النظرية والمثالية
النظرية والأفكار المثالية – بحسب أدبيات ووثائق منظمات عدة مثل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)- تشير إلى أنه من الطبيعي أن تولي خطوات وجهود إعادة الإعمار بعد الحروب الأولوية للحاجات الملحة، وأهمها السكن والخدمات الأساسية من غذاء ومياه نظيفة ومستشفى وغيرها، لكنها تشير في الوقت نفسه إلى أن اعتبار التفكير في العمارة ومنهجها في هذا التوقيت أمراً غير لائق هو اعتقاد خاطئ. المنظمات الأممية، وتلك المتخصصة في العمران الحضري والحضاري تعتبر العمارة جزءاً لا يتجزأ من إعادة الإعمار.
وتعد إعادة البناء ذات المنهج والفكرة والهدف من الأمور التي تساعد على التعافي الاجتماعي في المدن التي ضربتها الصراعات والحروب، كذلك فإنها تداوي هويتها الثقافية وتدعم استقرارها على المدى الطويل، والعكس صحيح، إذ يؤدي إهمال أو التغاضي عن الاعتبارات المعمارية والتخطيط الحضري المناسب إلى عواقب اجتماعية وجمالية تمتد آثارها عقوداً.
تقرير حال المدن العربية الأحدث الصادر عن "برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية" (2022) يشير إلى التحولات السريعة التي تشهدها المدن العربية، أكثر من نصف سكان المنطقة العربية يعيشون في مناطق حضرية يتوقع لها أن تستمر في النمو في الفترة المقبلة. ويشير التقرير إلى الصراعات الكثيرة التي ضربت دولاً في المنطقة العربية، إضافة إلى تغير المناخ، وهما ما أديا إلى موجات من النزوح والهجرة على مستوى المدن والأحياء، وكذلك العابرة للحدود.
عامل الهجرة واللجوء
بعيداً من الجدل المحتدم بين فريق يشكو ويئن من الأحمال والضغوط الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي يتسبب فيها المهاجرون واللاجئون من دولة عربية إلى أخرى، أو من مدينة عربية إلى أخرى بسبب الصراعات، وآخر يعتبر الهجرة واللجوء قيمة مضافة إلى مدينة أو دولة المقصد حيث المهاجرون واللاجئون يسعون بالضرورة إلى تحسين معيشتهم، وهو ما ينعكس إيجاباً على المجتمع، فإن سمة طاغية في عدد من الدول العربية هي نزوح السكان بسبب الحروب والصراعات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما مدن دول عدة في المنطقة تعاني عواقب الصراع العربي - الإسرائيلي على مدى ما يزيد على سبعة عقود، تفجرت صراعات في سوريا وليبيا واليمن والعراق والسودان، مع استمرار تفجر موجات من الصراع في الأراضي الفلسطينية، وجميعها يلقي بظلاله على مدن عربية في دول مجاورة، بين موجات هجرة ولجوء وآثار اقتصادية واجتماعية، أثر كثير منها في نمو هذه المدن وتوسعها العمراني. هذه الصراعات تحول من دون تحقيق أهداف التنمية المستدامة في كثير من المدن العربية، سواء في الدول التي يجري فيها الصراع، أو في الدول المجاورة التي تستقبل أعداداً كبيرة من النازحين واللاجئين، وهو ما يفاقم أزمات السكن والصحة والتعليم وغيرها.
تغيرت ملامح المدن
في اليوم العالمي للمدن تغيرت ملامح ومعالم كثير من المدن العربية، لا في دول الحروب والصراعات فحسب، لكن في الدول المجاورة. يختلف البعض في تصنيف هذا التغيير بين من يراه تغييراً للأفضل حيث اندماج اللاجئين والمهاجرين مع المجتمع المحلي، ونمو أعمال تضم الجميع في لفتات إنسانية جميلة، ومن يعتبره تغييراً للأسوأ والأصعب إذ ارتفاع إيجارات المساكن، والضغط على خدمات الصحة والتعليم، لا سيما في الدول ذات الدخل المنخفض.
وبعيداً من الاختلاف الأيديولوجي والإنساني، تبقى معالم الأحياء والمدن المتغيرة شاهد عيان على تحولات ديموغرافية تشكلها أنماط من الهجرة الديناميكية، ومنها ما يستمر أعواماً وعقوداً، وربما لا يعود المهاجرون إلى بلدانهم حتى بعد انتهاء الحروب وتحسن الأوضاع.
مدن عربية عدة من التي استقبلت أعداداً ضخمة من الهاربين من نيران الحروب والصراعات، وهي أعداد تصل إلى الملايين، اضطرت إلى التوسع غير المخطط، فنشأت أحياء فقيرة جديدة على حدود الأحياء الفقيرة أصلاً، وتوسعت قاعدة السكن العشوائي وما يتصل به من بنى تحتية عشوائية أيضاً.
مظهر المدن
يشار إلى أن المستشار الألماني فريدريش ميرتس قال قبل أيام إنه يصحح أخطاء حدثت في السابق خاصة بسياسة الهجرة، "لكن ما زلنا نواجه هذه المشكلة في مظهر المدن، ولذلك يعمل وزير الداخلية الاتحادي على إتاحة وتنفيذ عمليات الترحيل على نطاق واسع".
وعلى رغم مما أثارته عبارة ميرتس عن "مظهر المدن" (قاصداً المهاجرين واللاجئين) من زوبعة وغضب، ومنها ما أدى إلى تظاهرات في بعض المدن الألمانية، فإن موقع "دويتش فيلله" الألماني أشار إلى أن 63 في المئة من الألمان قالوا إن ميرتس محق في تصريحاته، وقال 29 في المئة إنه غير محق، وذلك بحسب استطلاع رأي أجراه معهد "فالن" لقياس مؤشرات الرأي.
هشاشة الصراع
تعد المنطقة العربية من أكثر المناطق هشاشة وصراعاً في العالم، بحسب تقرير حال المدن العربية، مع العلم أن التقرير نشر قبل اندلاع حربي غزة والسودان الضاريتين. خمس سكان شمال أفريقيا والشرق الأوسط قرب مناطق صراع رئيسة، و63 في المئة من العرب، أي 266 مليون نسمة، يعيشون في بلدان معرضة لخطر كبير من الكوارث الإنسانية. إنها المنطقة التي لم تعش مرحلة أو عقداً منزوع الصراع منذ الحرب العالمية الأولى، وهو ما يلقي بظلاله على مدنها، بصورة أو بأخرى.
المدن العربية لا يقف جميعها على قلب مدينة واحدة في ما يختص بالتوسع العمراني، المؤكد أن توسعاً عمرانياً ما يحدث في غالب المدن، لكن يمكن رصد مسارين أساسيين، وإن كانا متناقضين، الأول هو ما تشهده مدن عربية، لا سيما في دول الخلج العربي من توسع عمراني يكاد يتطابق ورؤية "الأمم المتحدة" للمدينة الذكية التي ترتكز على الإنسان، والتي كشفت عنها لمناسبة اليوم العالمي للمدن.
دول مثل السعودية والإمارات وعمان وقطر، إضافة إلى مصر حيث العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العلمين الجديدة، تقدم نماذج بالغة الحداثة والعصرية والمتبعة لقواعد المدن الذكية واقتصاداتها.
مدن أشباح ذكية
تجدر الإشارة إلى أن بعض الأصوات تعارض أو تنتقد مفهوم المدن الذكية الذي يتم تطبيقه "بحذافيره" ومن دون النظر إلى خصوصية المدن، والفروق في حاجات سكان كل مدينة، وقدراتها الاقتصادية، وأولويات الإنفاق، وغيرها، محذرين من أن تجاهل هذه العوامل يعرض بعض المدن الذكية للتحول إلى مدن شبه ذكية، نظراً إلى عدم مواءمتها الظرف الراهن.
في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2022 نشرت "اندبندنت عربية" تحقيقاً موسعاً من تسع دول عربية عنوانه "المدن العربية... جبال الأسمنت الشامخة"، تم فيه التطرق إلى "ثقل التخطيط العمراني" في عدد من المدن العربية، أو بالأحرى قلته وأحياناً انعدامه، والآخذ في الكشف عن وجوه قبيحة عدة.
كما أشار إلى كثير من المدن العربية التي بدأت مثالية، تفي بحاجة سكانها وتوفر لهم الخدمات الأساسية وكذلك الثانوية عبر بنى تحتية وفوقية جيدة، ثم وجدت نفسها في حال يرثى لها بعد أعوام من هجرة داخلية غير مدروسة، وزيادة سكانية غير محسوبة، وأخيراً موجات نزوح ولجوء متواترة، وأدى ذلك إلى نمو عمراني غارق في العشوائية.
ألغام عمرانية
في القلب من التمدد العشوائي تكمن ألغام عمرانية واجتماعية واقتصادية تنتظر اللحظة المناسبة لتنفجر، تقسيم طبقي للمناطق الحضرية، من يملك ينعم بمسكن ومن لا يملك يحتمي بمأوى.
لذلك يبدو المسار الثاني السائد في كثير من التوسع العمراني في مدن عربية هو المسار العشوائي، وفيه تتحول أطراف المدن إلى مناطق آخذة في التمدد غير المدروس، والتوسع غير المخطط، وذلك تحت ضغط الزيادة السكانية مع بقاء الموارد محلك سر، والهجرة المستمرة من الريف للمدينة بحثاً عن أعمال هامشية في أسواق غير نظامية، وكذلك الهاربون من نيران صراعات وحروب عبر الحدود.
الواقع العربي
في اليوم العالمي للمدن، وعلى رغم أنه يسلط الضوء على المدن الذكية التي تركز على الإنسان، وعلى التوسع العمراني الذي يستفيد أقصى درجات الاستفادة من الأدوات التقنية والتكنولوجيات الحديثة بصورة تفيد كل سكان المدن، من دون تمييز أو إقصاء، إلا أن واقع الحال العربي يحتم كذلك الإشارة إلى ظاهرة "المدن المنقسمة"، إنها ظاهرة "الناس اللي فوق" و"الناس اللي تحت" في المدينة الواحدة، حيث سور المنتجع يفصلهما، أو تقسيم عمراني يخصص هذه الأراضي لمن يملك، وتلك لمن لا يملك، وبينهما هوة سحيقة، تتمثل في عدم وجود مواصلات، أو بعد جغرافي أو حصرية دخول لمن يملك. وبالطبع هذه تتمتع ببنى تحتية كفؤة وحديثة وذكية، وتلك تكتفي بما تيسر من بنى قديمة تجري صيانتها في أضيق الحدود، وغالباً، تترك لمصيرها.
في اليوم العالمي للمدن يتذكر العرب المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع ابن خلدون الذي نبه البشر إلى معنى "العمران البشري"، وشرح وفصل وفسر أثر البيئة والعمران في البشر، وكيف أن اختلاف أشكال وأنماط العمران نتيجة طبيعية لاختلاف أنماط حياة البشر. في هذا اليوم يتذكر العرب من سلط الضوء على جوهر العمران، باعتباره فهماً لطبيعة وانعكاس حياة الناس العادية، وارتباط تفاصيلهم الحياتية مع المدينة وعمرانها ومساحاتها، إنه جوهر العمران الذكي، سواء كانت المدينة ذكية أو غير ذكية.