ملخص
سلك الفارون من جحيم الفاشر طرقاً برية وعرة سيراً على الأقدام نحو منطقة "طويلة" التي تحولت إلى ملاذ آمن لنازحي هذه المدينة المنكوبة بعد وقت وجيز من إعلان "الدعم السريع" اجتياحها، حيث تنتشر الخيام البالية ومساكن القش على نطاق واسع وتؤوي نحو 3 آلاف نازح.
عاش العالقون من سكان مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور، أوضاعاً إنسانية معقدة عقب سقوطها في يد قوات "الدعم السريع"، وسط مشاهد تضج بها مواقع التواصل الاجتماعي، أثارت غضباً وسخطاً واسعين، شملت انتهاكات جسيمة طاولت المدنيين من قتل عشوائي رمياً بالرصاص وإعدامات وإبادة جماعية على أساس عرقي.
ولم يكتف عناصر "الدعم السريع" بتصفية المدنيين فحسب، بل وثقها بعضهم بكاميرات هواتفهم النقالة، في تحد صارخ للقوانين والمواثيق الدولية التي تحظر قتل المدنيين.
وسلك الفارون من جحيم الفاشر طرقاً برية وعرة سيراً على الأقدام نحو منطقة "طويلة" التي تحولت إلى ملاذ آمن لنازحي هذه المدينة المنكوبة بعد وقت وجيز من إعلان "الدعم السريع" اجتياحها، حيث تنتشر الخيام البالية ومساكن القش على نطاق واسع وتؤوي نحو 3 آلاف نازح وصلوا إليها خلال الفترة الممتدة من الـ18 إلى الـ27 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، بينهم نحو 381 أسرة، في وقت لا تزال أعداد النازحين في تزايد هرباً من تفاقم سوء الأوضاع ووحشية الانتهاكات.
في غضون ذلك أطلقت "غرفة طوارئ طويلة" نداءً إنسانياً عاجلاً إلى المنظمات الدولية والإقليمية والوطنية، لتقديم الدعم والمساعدة العاجلة للنازحين الذين يتدفقون إلى المنطقة بأعداد كبيرة على مدى الساعة.
وقالت الغرفة في بيان إن المنطقة تشهد تزاحماً متزايداً، مشيرة إلى أن النازحين الجدد يعيشون أوضاعاً إنسانية بالغة السوء في ظل النقص الحاد للغذاء والمياه الصالحة للشرب، وظهور حالات سوء التغذية، وأوضاع حرجة بين المرضى والمصابين.
ودعا البيان إلى توفير الدعم الإنساني لتخفيف معاناة النازحين، مشيراً إلى أن الوضع الراهن يتطلب تحركاً سريعاً وتنسيقاً فعالاً من جميع الجهات ذات الصلة.
لاحقاً أعربت الأمم المتحدة في بيان عن قلقها إزاء أحداث الفاشر، والتقارير الموثوقة عن ارتكاب انتهاكات على نطاق واسع من بينها عمليات إعدام المدنيين الأبرياء، ومهاجمة المواطنين على طريق الهرب، ومداهمة المنازل مع وضع العوائق التي تمنع وصولهم إلى بر الأمان.
تمسك بالحياة
تقول عائشة عبدالرحمن، إحدى الناجيات من الانتهاكات، وهي أم لخمسة أطفال، "خرجنا من الفاشر سيراً على الأقدام نحو منطقة طويلة وسط وابل من القذائف والرصاص، يسيطر علينا الرعب والخوف، إذ لم نتمكن من حمل شيء من أغراضنا ولا حتى القليل من الماء والأكل، وكل همنا الهرب وحماية أنفسنا من القتل والحرق"، وأضافت عبدالرحمن "أثناء الفرار تعرضنا للضرب والتعذيب من قوات ’الدعم السريع‘ التي تنتشر في كل الاتجاهات وعلى امتداد الطريق المؤدي إلى طويلة، فهي تستهدف النازحين بمختلف أنواع الانتهاكات، وشاهدنا أمامنا شباباً يقتلون بالرصاص وبعضهم يذبح ونساء تشنق، ويعلقن بالأشجار".
وتابعت الناجية "على رغم ما رأيناه من مجازر تدمي القلوب، فإن الناجين الذين وصلوا طويلة بخاصة بعد مجازر الفاشر يتمسكون بالحياة على رغم المعاناة ولا يدرون ما المصير الذي ينتظرهم، كونهم يتقاسمون اللقمة البسيطة لسد رمقهم، التي في الغالب تتكون من العصيدة" وهي أكلة شعبية شائعة في دارفور تصنع من دقيق الذرة والماء، "إلى جانب وجبة العدس والبليلة، فغالبية النازحين هنا يتناولون وجبة واحدة في اليوم من أجل البقاء على قيد الحياة، وفي نظري هذه معجزة في ظل الوضع الراهن".
ذهول وصدمة
من جانبها، قالت حياة يعقوب التي وصلت إلى معسكر "ود العمدة" في طويلة، "وصلت طويلة مع أطفالي الثلاثة فراراً من المعارك الشرسة والانتهاكات الفظيعة التي يصعب وصفها، فقد مررنا بأوضاع كارثية عندما كنا عالقين طوال أشهر الحصار في الفاشر، واضطررنا إلى خندق داخل البيت نأوي إليه عند اشتداد القصف لحماية أنفسنا، كحال أهل المدينة عامة، مهما وصفت فإن ما مررنا به لا مثيل له في المعاناة"، وتابعت "في اليوم الأول لسقوط الفاشر كنت أعد شاي الصباح لأطفالي وفجأة سمعت أصوات أسلحة على غير العادة، وحين حاولت الخروج من الخندق رأيت أعداداً من جنود ’الدعم السريع‘ داخل فناء المنزل بسياراتهم القتالية محملة بالمدافع، حينها أيقنت أن الأمر سيكون أكثر صعوبة، وكان من الضروري الهرب عندما أدركنا أن هذه القوات سيطرت بالفعل على المدينة وتمارس القتل وتروع السكان".
وواصلت يعقوب "أثناء سيرنا نحو طويلة الذي كان محفوفاً بالأخطار، قتل ابني الأكبر البالغ من العمر 18 سنة، وتركته جثة على الأرض، وبعدها أصيب زوجي بطلق ناري ولا أعرف مكانه حتى الآن، فأنا بحق حزينة ومفجوعة".
وزادت المتحدثة "رأينا أعداداً لا تحصى من القتلى بصورة جماعية شملت كل الفئات العمرية من دون مراعاة منهم للنساء أو الأطفال أو كبار السن، فهذه المشاهد المؤلمة أصابتنا بالصدمة والذهول من فظائع بشعة لا تمت إلى الإنسانية بصلة حين يتم تصفية النازحين بدم بارد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أبعاد عرقية
إلى ذلك يقول النازح جلال عيسى إن "قوات ’الدعم السريع‘ أطلقت الرصاص علينا بعدما أحكمت سيطرتها على الفاشر، وكان هناك تصفيات لمواطنين عزل ذات أبعاد عرقية، فأنا تعرضت للضرب المبرح والسباب بألفاظ نابية، فهذه القوات في غاية من الوحشية"، وأوضح عيسى "زوجتي وأبنائي ماتوا عطشاً في الطريق بسبب مطاردة قوات ’الدعم السريع‘ لهم، ولم يتحملوا مشقة السير على الأقدام لمسافة تصل إلى 50 كيلومتراً، فضلاً عما يتعرضون له من توقيف لساعات عدة من قبل تلك القوات التي نصبت ارتكازات على طول الطريق لإذلال المدنيين وتجنيد الشباب والرجال، وإطلاق الرصاص على النازحين من دون أن يرف لهم جفن، ناهيك بضرب النساء والفتيات بالسياط والعصي وإجبارهن على الانفصال عن أسرهن".
كارثة إنسانية
في السياق أوضح محمد يحيى، المتطوع في تكايا طويلة، أن "أوضاع النازحين الذين وصلوا إلى معسكرات طويلة لا يمكن وصفها إلا بالكارثية، وأن أكثر ما يحتاجون إليه الآن هو الطعام ومياه الشرب والمأوى، لا سيما أن الخيام باتت لا تسع الوافدين بينما يقيم معظمهم تحت ظلال الأشجار، وآخرون لجأوا للإقامة مع ذويهم".
وأشار يحيى إلى أن التكايا بدأت تتلقى المساعدات من المنظمات وباشرت بإعداد الوجبات، إلى جانب تقديم الدعم العلاجي للمصابين الذين تعرضوا للإصابات أثناء ملاحقتهم بواسطة عناصر "الدعم السريع".
وأردف أن "حجم الحاجات يفوق ما قدم حتى الآن في ظل جهود المنظمات الدولية المتمثلة في ’اليونيسيف‘ التي ظلت تقدم المساعدات للأطفال الذين يعانون سوء التغذية، و’أطباء بلا حدود‘ التي تقدم الرعاية الصحية للنساء الحوامل والمرضعات واللاتي أدركهن المخاض أثناء النزوح، فضلاً عن أن الأوضاع تزداد سوءاً مع تصاعد موجات النزوح"، ولفت المتطوع إلى أنهم يواجهون نقصاً حاداً في التمويل والإمداد، وهناك حاجة عاجلة إلى المواد الغذائية والأدوية ومستلزمات لتضميد الجروح، إلى جانب خيم للإيواء تفادياً لانهيار الوضع الإنساني.
تدهور الأوضاع
على صعيد متصل قال المتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين في إقليم دارفور، آدم رجال، "هناك نحو 360 أسرة تضم 1117 فرداً فروا من الفاشر ووصلوا بالفعل إلى منطقة طويلة هرباً من تدهور الأوضاع المعيشية"، وأضاف رجال أن "إجمال عدد الأسر النازحة ارتفع إلى 831 أسرة تضم 3038 شخصاً غالبيتهم يعيشون في ظروف إنسانية بالغة القسوة دون توفر الخدمات الأساسية".
وأوضح أن "الأسر التي التحقت بمعسكرات طويلة حديثاً تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الحياة، وهم في حاجة ماسة إلى الغذاء والدواء وخدمات الحماية والدعم النفسي والاجتماعي بسبب مشاهدتهم مآسي مرعبة أثناء النزوح، وغيرها من المساعدات الإنسانية الطارئة".
ودعا المتحدث باسم منسقية النازحين واللاجئين، الأمم المتحدة ووكالاتها والمنظمات المحلية والدولية إلى التحرك العاجل لتقديم الخدمات المنقذة للحياة لهؤلاء النازحين الذين يعيشون ظرفاً مروعاً وصعباً للغاية.