Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عوالم صغيرة" تنبض في مخيلة 6 فنانين يجمعهم معرض

من فتحة العين إلى عالم الداخل: الفن مساحة للخيال والحرية

رسمة للفنانة زينة أبي راشد من سلسلة كتاب "النبي" لجبران خليل جبران (خدمة المعرض)

ملخص

في قلب كل رسام، تنبض عوالم صغيرة، فضاءات لا ترى إلا بالعين الداخلية، معلقة بين الواقع والخيال. هي مساحات يصبح فيها الإيماء واللون والكلمة والصمت، قارات قائمة بذاتها، حيث يتكثف كل شيء: عاطفة عابرة، ذكرى بعيدة، أو خيط ضوء ينساب على جلد الزمن.

المعرض الذي يقام حالياً في غاليري جانين ربيز (الروشة- بيروت، حتى الـ22 من نوفمبر "تشرين الثاني" 2025)، تحت عنوان "عوالم صغيرة"، يجمع شتات الأسرار وحبات الذاكرة والتخيلات والخربشات واللمعانات والتجارب العابرة التي يتقاسمها ستة فنانين: زينة أبي رشد، وكارول بوربان، وفرنسوا سارغولوغو، وهنيبعل سروجي، وسوين تسانغ، وألان فاسويان. يكشف كل عمل عن لحظة من مسار الخلق الفني لدى صاحبه، حين تتعلق المشاعر العابرة بين الرؤى الفردية للتعبير والصدى الرهيف للشعر، فلكل منهم أسلوبه الخاص، كما جاء في مقدمة المعرض: "غير أن الصدى الغنائي يظهر كخيط ناظم بين الأعمال، ويستمر على نحو غير متوقع، في عالم يزداد قتامة".

الواقع أن الاهتمام بـ"العوالم الصغيرة" للفنان قد بدأ منذ أوائل القرن الـ20 مع ثورة الحداثة، حين تحول التركيز من المشهد الخارجي إلى العالم الداخلي للفنان، ومن الواقع المنظور إلى البنية الذهنية والروحية للأشياء. وكان بول كلي Paul Klee)) من أوائل الذين جسدوا هذا التحول، فقد رأى في اللوحة كوناً مصغراً، تنبض فيه الكائنات والأشكال كما لو كانت في حال نشوء دائم. في أعماله، تتحول النقطة إلى كوكب، والخط إلى مجرى حياة، واللون إلى اهتزاز داخلي للعالم. هذا النزوع إلى خلق كون ذاتي مصغر جعل من كلي نموذجاً رائداً لما سيطوره لاحقاً الفنانون المعاصرون الذين سعوا إلى بناء "عوالم صغيرة" خاصة بهم، تستقل عن الواقع المادي وتستند إلى الحس التأملي، والذاكرة، والخيال كمصادر لرؤية كونية جديدة.

وفي هذا السياق تبرز أهمية الإضاءة على التجارب غير المعلنة التي يزاولها الفنانون الستة المعاصرون (من جنسيات لبنانية وفرنسية)، القادمون من مسارات وثقافات وتوجهات متنوعة، ليكشفوا عن مشاعرهم وتجاربهم ورؤاهم، من خلال وسائط وخامات مختلفة: من الرسم والنحت وفن التجهيز إلى العمل الطباعي والكولاج وفن الحرق. والمفارقة أن غالبيتهم مميزون بأعمال ذات أحجام صغيرة، فيما عرف بعضهم بنزعته إلى تمثيل عوالمه على مساحات كبيرة. غير أن قيمة العمل الفني لا تقاس بحجمه، بل بما يعبر عنه من تجربة مستقلة تنم عن الجرأة والارتجال وحرية التعبير بلا رقابة ذاتية، ففي انفراد الفنان بذاته يتكثف كل شيء: تتحول الخربشات الصغيرة، والخطوط الدقيقة، والألوان الصامتة، إلى كون مصغر، تتقاطع فيه المشاعر والرؤى، وتنسج التجارب صمتاً حياً.

ضباب الذاكرة

لا نشعر أمام لوحات فرنسوا سارغولوغو (سلسلة: والقمر يمضي بعيداً)، أننا أفلتنا عالماً كبيراً، لفرط ما تختزنه لوحاته الصغيرة من عوالم داخلية عاطفية وخيالية غنية بالتفاصيل والاستذكارات، كما تحيل إلى الأمكنة الغارقة في الطبيعة أو في الخلاء الكوني. إنها مناظر حلمية تتجلى على شكل رقعة غير منتظمة الأضلاع، بأسلوب شعري نابع من ثقافة بصرية وموروث فني ضخم (وغير واع) ورثه عن والدته الفنانة ايفيت أشقر، ومن شغفه بالتقنيات البصرية التي تمنحها الصورة الفوتوغرافية، فضلاً عن ولعه بجماليات الصورة السينمائية ذات الرؤى الخيالية الغامضة، المستوحاة أحياناً من إيحاءات فيليني.

تتناول ممارسته الفنية بصورة أساسية جوانب مختلفة من الهوية، والمنفى، والأسئلة التأملية والاجتماعية، وتداعيات الحروب وذكريات مدينته الأم – بيروت - وما يرافقها من شعور بالفقد والحنين. عن سلسلة "القمر يمضي بعيداً" كتب يقول: "تبحر الجزيئات المتوهجة كالسفن العملاقة المعلقة في اتساع السماء، على حافة الزمن، عما قريب لن يبقى سوى شظايا من تاريخنا. أتقدم بعناد عبر ضباب الذاكرة، حيث تحمل كل موجة ندبة من الماضي وتعيد كتابة حكايتنا. وبينما تتأرجح السماء بين النور والظلمة، واعدة بحقيقة هشة... أجد قلبي يتعثر".

يتقاسم ساغولوغو المقيم في فرنسا شغفه العميق بالفن مع زوجته الفرنسية الفنانة كارول بوربان، التي تقدم في المعرض مجموعتها بعنوان "نزهة الحجارة"، وهي منحوتات صغيرة مدهشة بظرافتها، ليست سوى المادة الخام للحجارة التي نحتتها الطبيعة وجمعتها الفنانة كي تعيد اكتشافها عبر لمسات بسيطة من التوليف والتلوين، فتحولها إلى مخلوقات صغيرة تبدو وكأنها خرجت من أسطورة قديمة أو من حلم طفولي. في أعمالها تحتفظ الحجارة بملمسها الخام وذاكرتها الجيولوجية، لكنها تكتسب حياة جديدة حين تقف على "أرجل" من صلصال أو تتزين بلمعة لون. تبدو هذه الكائنات الحجرية كأحفوريات خيالية أو كائنات أولى من زمن بدائي، تجمع بين البراءة والدهشة، وبين ما هو طبيعي وما هو مصنوع. بهذا المزج تستحضر الفنانة روح القطع الأثرية القديمة التي كانت تجسد الإنسان والحيوان في أبسط أشكالهما، لكنها تمنحها خفة وشاعرية معاصرة تفتح باب الخيال والتأمل في علاقة الإنسان بالطبيعة وبأصول الفن ذاته.

الطبيعة في بعدها الغيبي

الأقلي والبسيط الممتنع هو هنيبعل سروجي في تجهيزاته ولوحاته القماشية الصغيرة التي تحيلنا من حيث لا ندري إلى صيرورة الطبيعة، وإلى رائحة الحطب وألوان النار والنبات البري، والأشجار والغيوم العابرة بين السماء والأرض. إنها الطبيعة في بعدها الغيبي والتأملي، كما تتجلى في فنون الشرق الأقصى، بما تمنحه من هدوء وصمت وسكينة. وسروجي أستاذ في جمع المتفرقات، يوظف قصاصات القماش كقطع من الذاكرة قابلة للتجريب والتفكيك والقص والتوليف والتثقيب. ولا يخرج في أعماله عن طرائقه المعتادة في صوغ أفكاره. فهو يسيطر على النار في عملية الحرق، كما يسيطر على اللون، ويستطيع أن يوهمك بأن الظلال القابعة في الطبيعة ما هي سوى ضباب آتٍ من طفولة بعيدة عاشها في قريته عين السنديانة، حيث يبدو كل شيء ممكناً، وهو يرى العالم من خلال ثقب كبير على شكل دائرة، كعين مفتوحة على عالم الداخل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما الفنانة سوين تسانغ (زوجة هنيبعل سروجي)، فهي تقدم نظرة داخلية تأملية، لعوالم الزهور، في مجموعة من اللوحات المائية، تهمس بحوار رقيق بين النبتة ووعائها، كاشفة عن رؤية لـ"طبيعة صامتة صغيرة"، في حين تبدو تجارب الكولاج كشظايا ملونة من كيمونو، تلعب على التناقض بين الامتلاء والفراغ، في سعي إلى توازن تحمله سيولة الأشكال الكثيفة والمعتمة ذات الحواف الحادة. وتمثل البذور الناشئة فكرة التجدد، وما يسعى إلى الإزهار نحو الضوء، تعبيراً عن قوة نظام الحياة الذي يتراءى في أصغر نبتة في الطبيعة.

في عمله "النمو" (Growing Up)، يقيم الفنان ألان فاسويان دائرة من الشخصيات المنحوتة بأحجام وخامات وألوان مختلفة، تتجاور فيها الطفولة مع النضج، والأنثوي مع الذكوري، والرمزي مع الواقعي. تتخذ الدائرة هنا شكلاً رمزياً يوحد التنوع، لتصبح الفضاء الذي يحتضن فكرة النمو بوصفها رحلة مشتركة، لا خطاً مستقيماً. فالدائرة، في معناها العميق، ليست مجرد ترتيب مكاني، بل استعارة لزمن يتكرر ويتجدد، حيث كل كائن يقف في موقعه بين البداية والنهاية، بين الحجر الأصلي في المركز والهيئات البشرية التي تحيط به كامتداد للحياة وتحولاتها. إنها دائرة الوجود الإنساني التي تعيدنا إلى أصل المادة، وإلى هشاشة التكوين وبساطته في آن واحد.

ومن عالم الشرائط المصورة بالأسود والأبيض تطل زينة أبي رشد، لتقدم ست رسومات مقتطفة من صفحات الرواية المصورة، التي أنجزتها انطلاقاً من النص الكامل لكتاب "النبي" لجبران خليل جبران، وتروي أبي رشد بهذه المناسبة، كيف تلقت عرضاً عام 2022، من دار النشر سيغيرز (Seghers) لإعداد هذا الكتاب الذي شكل لها تحدياً مثيراً. فقد استغرق الغوص في النص الكامل لتحفة جبران عاماً كاملاً، لاستكشاف إيقاعاته وصوته ونبرته وتعرجاته، إلى أن تمكنت من تجسيد شخصية المصطفى ووصاياه في 360 صفحة من الرسوم بالأبيض والأسود.

هذه العوالم الصغيرة لدى الفنانين الستة لا تسعى إلى العظمة، بل تتفتح في خفاء النظرة ورعشة المعنى، لتذكرنا بأن الإبداع، قبل أن يكون صرخة نحو الكون، هو أولاً تنفس داخلي، وملاذ من صخب الخارج.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة