Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إشكالات وشم الجسد كما تتجلى تاريخيا في دراسة فنية

سرد توثيقي للظاهرة في فرنسا 1770-1960 من عالم السجون إلى مباريات الجمال والسينما

من مسابقة ملكة جمال الوشم في فرنسا (سوشيل ميديا)

ملخص

بات وشم الجسد اليوم في العالم ظاهرة لافتة جداً ومثيرة للسجال، يؤيدها بعضهم ويدافع عنها، ويرفضها بعضهم الآخر، معتبراً إياها تعدياً على الجسد الإنساني. لعل كتاب الفنان والمؤرخ الفرنسي ميكايل دو پواسي "تاريخ الوشم في فرنسا 1770-1960"، الصادر حديثاً في باريس عن منشورات "سوي" (2025)،  قد يمثل نوعاً من المساهمة التاريخية والعلمية في هذا السجال، وهو ليس مجرد توثيق بصري وزمني للوشم، بقدر ما هو سيرة مزدوجة له وللرجل، الذي كرس حياته لفهمه وحفظه ونقله إلى فضاء الثقافة الرفيعة.

يعيد دو پواسي هذا الكتاب الفريد رسم المسار التاريخي لظاهرة الوشم، من لحظة اكتشافه في مجتمعات بعيدة إلى لحظة الاعتراف به كفن رفيع داخل المؤسسات الثقافية الفرنسية وغير الفرنسية، بعد أن اجتاح أجساد ملايين من الرجال والنساء حول العالم، على رغم بعض المحرمات التي تحيط به. والوشم عبارة عن صور وزخارف وعلامات دائمة تنقش على الأجساد عبر وخز الطبقة العليا من الجلد بإبرة، ثم حقنها بالأصباغ فلا تزول.

يقول لنا دو پواسي إن البحارة الغربيون، مع توسع الرحلات البحرية الأوروبية منذ أواخر القرن الـ18، اكتشفوا في المحيط الهادئ الجنوبي مجتمعات تمارس الوشم كطقس اجتماعي وجمالي وروحي يعبر عن شعائر حياتية كالزواج والتقدم بالعمر والموت، أو عن علامات ورتب ورموز دينية، أو عن التمائم والتعويذات بقصد دفع الشر أو جلب الخير، فأصبح شائعاً بينهم، لا سيما أنه أسهم بالتعرف على هويتهم في حال الغرق. فلما عادوا لفرنسا حملوا إذاً على جلودهم صوراً من هذه المجتمعات والجزر البولينزية البعيدة، بحيث صارت أجسادهم خريطة لرحلاتهم، وشاهداً على اللقاء بين العوالم والحضارات المختلفة. هكذا ظهر في الموانئ الفرنسية أول "الوشامين العموميين" الذين مارسوا مهنتهم بين البحارة والعمال، ثم انتقلت هذه الممارسة إلى المدن الكبرى، إذ امتزجت بالثقافة الشعبية وبأسواق القرى والمهرجانات وحفلات السيرك.

يتوسع كتاب دو پواسي في وصف كيفية تحول الوشم إلى لغة بصرية يعبر من خلالها المهمشون في المجتمعات كافة، كالمساجين والمتمردين والعاهرات، عن جراحهم ومآسيهم كما لو أن أجسادهم مرآة تعكس ذكرياتهم الشخصية أو الأحداث الحربية أو الرموز السياسية والدينية التي  تعبر عن الذات والهوية. ويقول لنا إن هذه الرسوم والنقوش غالباً ما أطلق عليها الشارع الفرنسي اسم "زهرة الرصيف"، أي العلامة التي تزين جسد الطبقات الدنيا من الناس كما تزين بعض الزهور التي تنبت بين حجارة الرصف والشوارع والطرقات والأرصفة. ذلك أن الوشم حمل وظيفة نفسية عميقة كمقاومة الملل، والتطهر من الحزن والعواطف والمشاعر السلبية المكبوتة، واستعادة معنى الوجود من خلال الجسد نفسه.

تحولات الوشم

يغطي الكتاب قرنين من التحولات التي جعلت الوشم ينتقل من عتبات السجون والمواخير إلى صالات السينما والمجلات الفنية، فعلى تتابع صفحاته الـ288، يعرض دو پواسي مئات الصور والوثائق المأخوذة من أرشيفه الخاص، ليقدم لقرائه نظرة تاريخية غير مسبوقة عن تاريخ الوشم في فرنسا، مظهراً لنا كيف أصبح الجسد في الثقافة الغربية المعاصرة "لوحة حية" تعكس تحولات الذوق والهوية والحرية الفردية.

لكن ميكايل دو پواسي لا يكتفي بدور المؤرخ، ذلك أنه قبل كل شيء وشام عالمي ذاع صيته بفضل أسلوبه الفريد الذي يمزج بين فن الزجاج المعشق في العصور الوسطى والرمزية اليابانية التي لعب الوشم فيها دوراً مهماً. فخلف صالونه الصغير في مدينة پواسي بالقرب من باريس، يخفي الرجل عالماً من الرموز والكتب والتماثيل، وجدراناً تغطيها مخطوطات وألوان، ومتحفاً مصغراً للوشم في السجون، أعده بنفسه تمهيداً لمعرض يحضر لإقامته قريباً.

هذا الفنان الذي بدأ مسيرته مصوراً صحافياً عام 1991 اكتشف شغفه بالوشم مصادفة أثناء عمل ميداني، فترك التصوير والتحق بأكاديمية الرسم ليتقن فنون الظل والخط. وبعد فترة قضاها في الجيش الفرنسي كان خلالها يوشم زملاءه الجنود، انتقل إلى عالم الاحتراف، متنقلاً بين باريس ومونتريال ولوس أنجلس ونيويورك، إذ أعاد تعلم الحرفة من جذورها. وفي نهاية التسعينيات، استقر على أسلوب خاص به ينظر إلى الوشم كفن مقدس يعيد للجسد هيبته الرمزية القديمة.

هذا المزج بين التاريخ والفن جعل دو پواسي يحظى بلقب "مايكل أنجلو الوشم"، إذ يخصص هذا الوشام اليوم عمله لـ20 زبوناً فقط في السنة، غالبهم من المؤرخين وعلماء الفنون الذين يقصدونه من كل أنحاء العالم، يتشارك وإياهم في النقاش حول تاريخ الرموز ومعنى الجمال، وموقع الوشم في الثقافة الفرنسية، تلك الثقافة التي كثيراً ما تأرجحت بين رفض الجسد وتقديسه.

ذاكرة فنية

لم يتوقف دو پواسي عند ممارسة الوشم فحسب، بل تحول إلى حافظ لذاكرة هذا الفن. فأنشأ "المتحف الفرنسي الافتراضي للوشم"، الذي جمع فيه آلاف الوثائق والصور القديمة، كما يترأس تحرير مجلة متخصصة في هذا الفن، علماً أنه حصل عام 2023 على ميدالية من "الأكاديمية الفرنسية للفنون والعلوم والآداب"، في أول اعتراف رسمي من مؤسسة ثقافية مرموقة بالوشم كفن قائم بذاته. وقد مثلت هذه الجائزة حدثاً تاريخياً في مسيرة الاعتراف بالممارسات الشعبية كجزء من التراث الفني الفرنسي، بعد أن عمل كثيرون على نقل الوشم من صورته "السفلية" إلى مكانته بين الفنون، مما جعل الناس بحسب الكتاب يدركون أن الوشم ليس تزييناً جسدياً فحسب، بل لغة بصرية تحمل ذاكرة الإنسانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يخبرنا الكتاب كذلك أن الإنسان قبل الكتابة، كان ينقش رموزه على جسده، وأن الوشم هو استمرار لتلك اللغة الأولى التي تربط بين الذاكرة والجسد.

 على تتابع الصفحات يكشف دو پواسي أيضاً عن رؤيته الفلسفية للوشم، فهو بحسبه ليس فناً نخبوياً، لكنه ليس أيضاً مجرد موضة. هو في آن واحد فن شعبي وروحي، يجمع بين التعبير الفردي والانتماء الجماعي. ولهذا يرى أن الوشم يجب أن يظل قريباً من الناس، حتى وهو يدخل المتاحف الكبرى مثل "متحف الفن الحديث في نيويورك" الذي دعاه أخيراً إلى المشاركة في معرض دولي حول هذا الفن المثير. ولعل هذه الخطوة ترمز، في رأيه، إلى اكتمال الدورة، بحيث أن الفن الذي ألهم الوشم، أصبح الوشم اليوم ملهمه.

يدرس الكتاب إذاً المرحلة التي شهدت انتقال الوشم من فضاء الممنوع إلى فضاء الجمال، ومن الهامش إلى الاعتراف المؤسساتي. ففي نظر ميكايل دو پواسي، لا يمكن للوشم أن ينفصل عن تاريخه الاجتماعي. فبينما يسعى بعض الفنانين إلى جعله فناً نخبوياً، يصر هو على الاحتفاظ بجذوره الشعبية، تلك التي ولدت في الشارع والسجن والميناء. لهذا ينظم معارض داخل السجون الفرنسية، ليس فقط لعرض أعماله، بل أيضاً لتعليم النزلاء تاريخ هذا الفن وأصوله الصحية والجمالية. وما العودة للسجون بحسبه إلا عودة للينبوع الأول، الذي منه ولد الوشم الحديث في فرنسا.

بهذا المعنى، يصبح كتاب "تاريخ الوشم في فرنسا" شهادة مزدوجة على رحلة الجسد في مواجهة السلطة والهوية، وعلى نضال فنان من أجل إنصاف الجسد نفسه كحامل للفكر والجمال. فكل وشم هو قصة، وكل قصة تحفر على الجلد لتبقى، كما تبقى النقوش على جدران الكهوف القديمة. فمن خلال هذه الرؤية، يقدم دو پواسي للوشم مكانته الحقيقية كفن إنساني، لا يكتبه الحبر فقط، بل تكتبه الحياة نفسها على أجساد البشر ولو عد الوشم موضوعاً مثيراً للجدل، إذ تتباين حوله المواقف بين من يراه تعبيراً عن الحرية والجمال، ومن يعده انتهاكاً للجسد أو تقليداً غريباً عن المدنية والثقافة.

اقرأ المزيد

المزيد من كتب