ملخص
جال الموسيقي الفرنسي عكتور برليوز في الريف الإيطالي فأبهره كما حدث مع الشاعر الإنجليزي لورد بايرون من قبله، ولكن في اتجاه تأملي بادي الرومانسية نقل إليه ذكريات خاصة متمازجة مع ذكريات بايرون، ولكن ضمن إطار أبعاد رأى الموسيقي أنها تضعه في قلب مساعيه الفكرية التي تتألف من توجهات متناقضة إنما متكاملة
في عام 1834 أعلن الموسيقي الفرنسي هكتور برليوز (1803 -1869)، صاحب "السيمفونية الغرائبية"، أنه مقدم على عمل موسيقي جديد يسير فيه على خطى ذلك العمل الكبير السابق له، مؤكداً أن العمل الجديد لا ينبع هذه المرة من تجربته الوجودية العاطفية الذاتية التي أملت عليه سيمفونيته الكبرى باكراً منذ عام 1833، بل من اقتراح توافق عليه مع "أعجوبة العزف" على الكمان، باغانيني، الذي سيقوم في العمل بعزف مقطوعات عدة منفردة، مما يتيح بالتأكيد اعتبار العمل شراكة بينه وبين هذا العازف الكبير على عكس ما يحدث في "السيمفونية الغرائبية"، إذ يتفرد هو بالإبداع بحيث تبدو تلك السيمفونية وكأنها جزء من سيرته الذاتية.
بل إن برليوز زاد يومها مؤكداً أن له وباغانيني شريك ثالث في العمل هو الشاعر الإنجليزي لورد بايرون الذي يعود له الفضل في ولادة ذلك الموضوع، الذي كتبه على شكل قصيدة خلال تجواله في ربوع إيطاليا. ونعرف أن العمل سيحمل في النهاية عنوان "هارولد في إيطاليا"، بعدما كان سيعنون أول الأمر "آخر لحظات ماري ستيوارت".
والحال أننا سنكتفي هنا بهذه السطور مما أعلنه برليوز في ذلك الحين، بالنظر إلى أن المشروع الأول قد اختفى خلال المرحلة التالية، ولا سيما بعد أن استنكف باغانيني عن السير فيه، في وقت كان برليوز نفسه قد قام بجولة في الريف الإيطالي بهرته كما كانت قد بهرت بايرون من قبله، ولكن في اتجاه تأملي بادي الرومانسية نقل إليه ذكريات خاصة متمازجة مع ذكريات الشاعر الإنجليزي الكبير، ولكن ضمن إطار أبعاد رأى الموسيقي أنها تضعه في قلب مساعيه الفكرية التي تتألف من توجهات متناقضة إنما متكاملة سيعبر عنها دارسوه ومن بعد ظهور القصيدة السيمفونية الجديدة في عام 1834 وتقديمها للمرة الأولى في باريس، بإشارتهم إلى أن برليوز قد تلمس في نص بايرون الشعري، مما جعله يستعيد فكرة قديمة له تتعلق بالبنوة بين الشعر والموسيقى من خلال "وحدة الحال" التي استساغها بين بايرون وبينه.
ثنائيات مريحة ومربحة
ويقيناً أن ما عناه برليوز في حديثه عن تلك "البنوة" كان ما وفرته له قصيدة بايرون حين اشتغاله عليها من مزاوجة بين شمس إيطاليا الجنوبية، وضباب الشمال الأوروبي، وتفاعل بين الشعر الإنجليزي وإبداع فرجيل والنهضويين الآخرين، وتلاق بين هاملت وروميو، واندماج يكاد يكون تاماً، بين فيرونا، مدينة روميو وجولييت، والسينور قلعة الدنمارك التي اشتهرت من خلال حكاية هاملت الشكسبيرية.
وهذا كله بحسب تعبير الموسيقي الذي حتى وإن كان قد ضجر كثيراً خلال جولته الإيطالية، تمكن في نهاية الأمر، وبفضل قصيدة بايرون - المعنونة أصلاً، "الفارس هارولد"، تمكن من أن يعود من تلك الرحلة بما سيسميه هو نفسه، انطباعات شديدة الدفء.
ومن هنا وبفضل انطباعات الشمس الحارقة تلك، نراه لا يبالي كثيراً بخروج باغانيني من المشروع، بل رأى أن ذلك الخروج قد أتاح له أن يحدث تعديلات جمة يستغني فيها عن اللحظات المتخمة بالعزف المنفرد، على الكمان، التي كانت قد فرضت نفسها من أجل باغانيني وآلته "الستراديفاريوس" الرائعة، محلاً مكانها مصاحبة على الأوبوا (الآلتو) تبدو مندمجة في السياق الأوركسترالي من دون أن تشكل معه نوعاً من كونشرتو تبادلي بين الآلة والأوركسترا. وسيقول برليوز لاحقاً إنه حتى وإن كان قد أسف لتخلي باغانيني عن المشاركة، فإنه لم ينزعج أبداً من النتيجة التي انتهى إليها العمل. "بل كان الأمر مدهشاً بالنسبة إلي، إذ إن ذلك التغيير قد فتح أمامي آفاقاً رائعة بدأت تغازلني، فيما كنت وأنا أشتغل على ’هارولد في إيطاليا‘، منكباً على التحضير لعملي المقبل، الذي سيكون إيطالي الهوى بدوره". وهو بالطبع أوبراه "بنفينيتو تشيليني" التي رأى فيها الباحثون والنقاد تمهيداً مشرقاً للغوص أكثر وأكثر من جانب برليوز في المناخات الإيطالية، وربما كنوع من رد الجميل للإيطاليين الذين كانوا، وقبل "هارولد في إيطاليا" مباشرة، قد منحوه جائزة روما التي كانت تعتبر أكبر جائزة تمنح لموسيقي مرة كل عام.
تحيات بادية التنوع
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تألفت تلك "القصيدة السمفونية" إذاً، من أربع حركات تتراوح بين التكامل والتناقض كما حال الرغبات التي هيمنت على الملحن خلال العمل عليها، غير أن من اللافت أن الحركات الأربع بدت ذات طابع رمادي اللون، وإن بدرجات متفاوتة بالنسبة إلى تلوينية العمل وإيقاعاته. حتى وإن كان الموسيقي قد أبدى تمسكاً عنيداً بالفكرة الثابتة التي تسير العمل ككل.
ولعل اللافت أكثر من أي شيء آخر هنا هو أن الملحن قد استعار من عمل سابق له بصورة مباشرة، وهو افتتاحية أوبرا "روب روي" التي كان لا يزال يشعر بالاستياء لإخفاقها نقدياً وجمالياً، حين عرضت للمرة الأولى في العام السابق، استعار عدداً من الألحان والجمل الموسيقية، مع حرصه في الوقت نفسه على جعل عمله الجديد يبدي نوعاً من التحية لسابقه الكبير وأستاذ الجميع في التلحين السيمفوني، بيتهوفن، وتحديداً من خلال اقتباسات من سيمفونية هذا الأخير التاسعة، ليمزجها كلازمات موزعة على الحركات الثلاث الأولى وبخاصة عند بداية خاتمة عمله.
والغريب أن "هارولد في إيطاليا" قد استقبلت حين قدمت للمرة الأولى في صالة الكونسرفاتوار الباريسي في الـ23 من نوفمبر (تشرين ثاني) 1834 بإعجاب شامل لم يقلل من شأنه ومن تأثيره في الموسيقي، كونه تلقى في خضم ذلك رسالة تدعوه إلى الانتحار "بالنظر إلى الفشل السريع الذي لاقتها 'هارولد في إيطاليا' مموسقة بصورة يمكن اعتبارها تشويهاً لشعر بايرون واستغلالاً بائساً له".
ويمكننا هنا أن نفهم أسباب عدم اهتمام برليوز بتلك الرسالة في وقت كان قد أسكره نجاح قصيدته السيمفونية، الجماهيري والنقدي، وبات مرتاحاً وواثقاً من أنه سيمضي في طريق الصواب مرة أخرى في عمله "الإيطالي" التالي، حول حياة الفنان والجوهرجي النهضوي تشيليني. فهو في نهاية المطاف تمكن من التمازج مع الشعر الإنجليزي والشمس الإيطالية، ولم يكن هذا بالأمر السيئ بالنسبة إلى فرنسي رومانطيقي أمضى حياته قبل ذلك باحثاً عن آفاق مفتوحة أمامه.