ملخص
كل من شهد المعركة لم يصدق جسارة هؤلاء الشبان، فبعد اشتباك عنيف وغير متكافئ أدى إلى مصرعهم وجرح 23 شخصاً آخرين تمكنوا من صد الهجوم ودحره في النهاية، ومنذ بدأ التوغل في الأراضي السورية الحدودية تكاد هذه تكون المعركة الدفاعية الوحيدة، وجاءت تطوعية من مزارعين سوريين يعملون في أراضيهم قاتلوا بأسلحتهم الفردية نيران الـ"ميركافا".
في الثالث من أبريل (نيسان) الماضي كان تسعة شبان من بلدة نوى في الجنوب السوري على موعد مع الموت دفاعاً عن أرضهم بعد تصديهم لقوة عسكرية إسرائيلية تضم مدرعات وناقلة جنود حاولت التقدم نحو موقع يطلق عليه "حرش سد الجبيلية" الواقع بين مدينة نوى وبلدة تسيل في ريف درعا الغربي.
كل من شهد المعركة لم يصدق جسارة هؤلاء الشبان، فبعد اشتباك عنيف وغير متكافئ أدى إلى مصرعهم وجرح 23 شخصاً آخرين تمكنوا من صد الهجوم ودحره في النهاية، ومنذ بدأ التوغل في الأراضي السورية الحدودية تكاد هذه تكون المعركة الدفاعية الوحيدة، وقد جاءت تطوعية من مزارعين سوريين يعملون في أراضيهم قاتلوا بأسلحتهم الفردية نيران الـ"ميركافا".
يروي عطا الله السقر والد أحد الشبان التسعة والملقب بـ"أبو بسام" بحرقة ما حدث لـ"اندبندنت عربية"، إذ أقدم ابنه عيسى برفقة مجموعة متطوعة مستخدمين أسلحة خفيفة ومن دون أي تخطيط على مواجهة قوة معتدية مدججة بالسلاح الثقيل، وحين انسحبت أرسلت طائرات مسيّرة وباغتتهم لتفتح نيرانها على المجموعة بعد تجمعهم لسحب أحد الجرحى.
ويقول قائد أحد الفصائل يدعى عماد أبو فيصل إن "شجاعة الشبان باتت محفورة في ذاكرة البلدة ولا يمكن أن ننساهم، ولن يستطيع العدو أن يمر إلا على أجسادنا".
في الأسبوع الأول لسقوط النظام السابق في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) عام 2024 سيطرت قوات الجيش الإسرائيلي على مساحة تجاوزت 300 كيلومتر مربع، وتوسعت لاحقاً في المحاور الشمالية عقب انسحابها من منطقة حوض اليرموك لتصل المساحة إلى 364 كيلومتراً مربعاً.
وعلى رغم المساحة الشاسعة التي توغلت بها خلال هذه المدة الزمنية، مستفيدة من انهيار صفوف الجيش السوري المفاجئ بعد سقوط الأسد، فإن الغنيمة الكبرى بالنسبة إليها هي تمركزها على قمة جبل الشيخ الاستراتيجية، حيث تطل على ثلاث دول (سوريا ولبنان وفلسطين)، وقال وزير الأمن الإسرائيلي يسرائيل كاتس في ذلك الوقت "إذا سمحت دمشق لقوات معادية لإسرائيل بالدخول وتعريض المصالح الأمنية للخطر، فستدفع الثمن باهظاً للغاية".
البازلت يتكلم
على الطريق إلى الجنوب لا تخفي الصخور النارية نفسها حين تطوي المركبة طريق درعا باتجاه بلدة نوى في الجنوب السوري، بينما الهدوء الحذر يلف المكان مع مخاوف لا تتوقف من قبل الأهالي، فالبلدة لا تبعد أكثر من 10 كيلومترات من الحدود الفلسطينية، وكانت تقاسي بصورة شبه يومية من استفزازات متكررة من قبل القوات الإسرائيلية، ولكنها اليوم تعيش أجواء التوتر مع السويداء، المحافظة المتاخمة لها، منذ اندلاع أحداث اقتتال قبل أشهر، حين استعرت نار الفتنة الطائفية والمذهبية بين مكونات المحافظتين.
وبدا واضحاً لـ"اندبندنت عربية" حجم الدمار بين البيوت التي أعاد المزارعون إعمارها، واختلط الدمار بين ما ارتكبه النظام البائد والقصف الإسرائيلي الذي طاول مواقع مدنية أثناء غارات سلاح الجو في تل أبيب، والقضاء بالتالي على 80 في المئة من قدرات الجيش وأسلحته الاستراتيجية، وسخرت إسرائيل لهذا الغرض ما يربو على ألف غارة معظمها في المحافظات الحدودية في درعا والقنيطرة وريف دمشق وضربات متفرقة في ريف السويداء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحكي الناشط المدني من درعا ياسر الخطيب عن انكفاء التوغل واندحاره عن مدينته منذ الأشهر الأولى مقابل توسعه في ريف القنيطرة، و"إن صح تركه الأرض في درعا في حال سبيلها فإنه لم يُخلِ السماء، إذ لا يتوقف الطيران الإسرائيلي عن التحليق بخروقات يومية سواء عبر طيران حربي أو حوامات، علاوة على الطيران المسيّر"، مؤكداً أن "كل تلك المحاولات ورقة ضغط باتجاه فتح ممر للسويداء، ولكن الأمر لن ينجح".
"درعا لن تقبل أي اتفاق على تقسيم سوريا"، هكذا يجزم الخطيب، ويوضح أن الظروف الدولية التي تحيط بسوريا هي التي جعلت هذا التوغل ممكناً، ولكنه يثق بالدولة السورية التي تفاوض بمنطق القوة بحسب تعبيره، وكشف عن اتساع حالات الخطف في درعا، ولا سيما الأطفال عبر عصابات الاتجار بالأعضاء المتعاملة مع إسرائيل.
وثمة تخوف من قبل المدنيين مع انتشار السلاح بصورة واسعة في مدينتهم وما يمكن أن يخلفه من فوضى وفلتان أمني، وتشير المعلومات الأولية إلى أنه مع الأيام الأولى لسقوط النظام السابق تحرك متعاملون مع أفرع الاستخبارات (الأمن السياسي وأمن الدولة والأمن العسكري) واستولوا على قطع عسكرية وباعوها إلى مجموعات مقاتلة في السويداء.
ومع توجيه السؤال لأمنيين طلبوا عدم ذكر أسمائهم حول ترك السلاح بصورة عشوائية بين المدنيين بهذه الطريقة، أكدوا أن الأمر مرتبط بانتهاء ملف السويداء، وحل هذا الملف سينعكس تحسناً على واقع درعا الأمني.
قضم الأراضي
في الأثناء تواصل تل أبيب تحصين مواقعها والدفع بقواتها العسكرية لتقضم مزيداً من الأراضي في القنيطرة ودرعا، مما يخالف اتفاق فض الاشتباك الموقع في الـ31 من مايو (أيار) عام 1974 بين إسرائيل وسوريا بإشراف الأمم المتحدة، وتبرر انتشارها وتوغلها في قرى وبلدات عدة في القنيطرة ودرعا بشعورها بتهديدات تمس أمنها القومي بعد وصول إسلاميين متشددين إلى سدة الحكم في سوريا.
وفي القنيطرة بدا المشهد أكثر تعقيداً، فبالتواصل مع أهالي المحافظة ممن ظلوا في بيوتهم بلا نزوح، أكدوا تخوفهم مما يحدث، وهم يخضعون اليوم للسيطرة الإسرائيلية ويشاهدون الجنود ودورياتهم التي تنصب الحواجز الجوالة، فضلاً عن الدهم والتفتيش للمنازل، مما يثير الرعب والخوف في نفوس الأطفال والنساء.
وما زاد الأمر سوءاً تجريف الآليات الإسرائيلية للأراضي الزراعية والمحميات الطبيعية التي أنشئت خلال تسعينيات القرن الماضي بهدف الحفاظ على التنوع الحيوي والبيئي في القنيطرة، وذكر شاهد عيان فضل عدم الكشف عن هويته، أن الآليات جرفت جزءاً كبيراً من غابة جباتا الخشب، علاوة عن إفسادها محاصيل المزارعين التي يعتمد أهالي المنطقة عليها في عيشهم ورزقهم، وقال "دمروا بساتين الكرز والتفاح".
وفي حرش قرية جباتا الخشب بدأت منذ أسبوعين عمليات إزالة وقطع أشجار السنديان والبلوط المعمرة وأشجار مهددة بالانقراض، وفي أحدث توغل تقدمت قوة عسكرية تضم أربع دبابات من منطقة الحرية باتجاه قرية أوفانيا في ريف القنيطرة الشمالي، بالتزامن مع دخول آليتين عسكريتين إلى الموقع نفسه، ووصلت إلى محيط تل الأحمر وعين النورية.
ونقلت وكالة "سانا" الرسمية للأنباء تقارير عن توغل 10 آليات إلى مدخل قرية عين النورية، وتوقفت بعض الوقت عند المفرق المؤدي إلى بلدات طرنجة وجباتا الخشب وخان أرنبة ونبع الفوار. واليوم الخميس دخلت قوة مؤلفة من خمس سيارات إلى قرية بئر عجم ونصبت حاجزاً أمام مقسم القرية قبل أن تنسحب.
في المقابل، ومنذ الساعات الأولى للتوغلات قبل قرابة العام اندلعت تظاهرات في القنيطرة طالب فيها السكان بانسحاب القوات الإسرائيلية من قراهم وأراضيهم، مع موجة انتقادات لعدم تحرك الجيش السوري للرد على هذه الانتهاكات السافرة.
ويقول متخصصون إن موقف الحكومة يصب في إطار سعيها إلى عدم تسخين المشهد المعقد في الجنوب السوري، ولا سيما اشتعال أحداث السويداء، والحاجة إلى ترتيب البيت الداخلي للجيش الجديد المنشغل بضم الفصائل العسكرية كافة تحت راية واحدة، وما تبعها من عقبات لدمج قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال الشرقي، مما يجعل الدخول في صراع مع إسرائيل وفتح جبهة جديدة أمراً غير ممكن في الأقل حالياً.