ملخص
يكشف فيلم "بيت الديناميت" عن هشاشة الردع النووي في عصر تتسارع فيه التهديدات الصاروخية، موضحاً أن دقائق معدودة قد تفصل بين قرار الحياة والموت لقادة القوى الكبرى، في ظل عالمٍ تتلاشى فيه يقينيات الحرب الباردة ويزداد خطر المواجهات "الهجينة" تعقيداً وغموضاً.
في فيلم كاثرين بيغلو الجديد، المعنون "بيت الديناميت" A House of Dynamite، يكون أمام رئيس أميركي 18 دقيقة فقط ليقرر ما إذا كان الصاروخ المتجه نحو الولايات المتحدة يشكل تهديداً نووياً أم لا، وما الذي ينبغي أن يُسمح به كرد فعل. غير أن استبعاد هذا السيناريو بوصفه غير محتمل لم يعد ممكناً. فمع الهجمات الروسية شبه الليلية بالصواريخ الباليستية على أوكرانيا، وإطلاق الصواريخ من إيران واليمن ضد إسرائيل، لم تعد هذه الهجمات ضرباً من الخيال، بل أصبحت الوضع الطبيعي الجديد.
اضطرت الحكومات في أنحاء أوروبا، وخصوصاً داخل الدول التي تمتلك السلاح النووي مثل بريطانيا وفرنسا، إلى إعادة اكتشاف مجموعة من المبادئ والسلوكات التي وضعت خلال الحرب الباردة ثم نسيت بعد عام 1990. فإذا كنت في هولندا وصاروخ نووي يتجه نحوك، فلن يكون أمامك سوى قليل لتفعله، ولن تستطيع الرد، في حين يجد رئيس الوزراء البريطاني أو الرئيس الفرنسي نفسه أمام قرار مصيري يشبه تماماً الموقف الذي واجهه الرئيس الأميركي في الفيلم.
عند التفكير في ما قد تعنيه أحداث "بيت الديناميت" بالنسبة إلى المملكة المتحدة، ثمة فرق واحد واضح: رئيس الوزراء آنذاك لن يملك 18 دقيقة تقريباً، بل جزءاً من ذلك. لكن الوضع في بريطانيا مختلف، فحين تطلق روسيا صاروخاً باليستياً من جيب كاليننغراد، لن يكون أمام رئيس الوزراء سوى ست دقائق تقريباً قبل أن يصل الصاروخ إلى لندن، وربما 10 دقائق إذا أطلق من عمق الأراضي الروسية. الوقت إذاً لا يعمل لمصلحة أي رئيس وزراء، فالساعة تدق بسرعة ويجب اتخاذ القرار فوراً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إذا أطلق صاروخ باليستي باتجاه المملكة المتحدة، فستأتي التحذيرات الأولى من الأقمار الاصطناعية الأميركية المخصصة لرصد عمليات الإطلاق، مثل نظام الأشعة تحت الحمراء الفضائي Space-Based Infrared System (SBIRS)، أو من شبكة الإنذار المبكر بالرادار الموجودة في قاعدة فيلينغديلز الجوية الملكية في مقاطعة يوركشير، التي تعمل على مدار الساعة وتغطي حتى غرب روسيا.
وفي غضون ثوانٍ، يبلغ مقر سلاح الجو الملكي في هاي ويكومب ووزارة الدفاع، ثم مكتب رئيس الوزراء. وإذا كان الصاروخ أطلق من منطقة معروفة مثل كاليننغراد، فسيعرف مصدره بسرعة، لكن الغاية منه ونوع الرأس الحربي سيبقيان مجهولين. ومع ذلك يمكن للرادارات تتبع المسار وتحديد ما إذا كان الصاروخ سيصيب هدفاً داخل بريطانيا أم لا.
تستطيع هذه الرادارات أيضاً تمييز نوع الصاروخ بدقة، بل تحديد ما إذا كانت بصمته الحرارية أو التقنية تنتمي إلى سلاح مخصص عادة لحمل رأس نووي. لكن تظهر هنا شكوك جديدة: فإذا أطلق صاروخ من نوع "أوريشنيك" من الأراضي الروسية، فهل يمكن التأكد أنه يحمل رأساً تقليدياً فقط؟ أم يجب افتراض أنه نووي؟ والعكس صحيح، فإذا رصدت روسيا إطلاق صاروخ "ترايدنت" من الغرب، فستعتبره سلاحاً نووياً وتتصرف على هذا الأساس.
قد يفاجئ ذلك بعضاً، لكن عندما تطلق الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا صواريخها النووية لأغراض اختبارية فإنها تخطر بعضها مسبقاً قبل إجراء أية تجربة بصواريخها النووية لتجنب سوء الفهم.
ويتضمن هذا الإخطار نشر إشعارات طيران "نوتامز" Notams تنصح الطائرات والطيارين بتجنب مناطق السقوط المحتملة. أما كوريا الشمالية فغالباً لا تفعل، مما يثير قلق اليابان وكوريا الجنوبية كل مرة تطلق فيها صاروخاً، إذ لا يعرف هل هي تجربة أم "هجوم فعلي".
هل تستطيع المملكة المتحدة اعتراض أي صاروخ متجه إليها؟ ما لم تكن هناك مدمرة من طراز "تايب 45" Type 45 تابعة للبحرية الملكية في الموضع المناسب لمحاولة اعتراضه، كل ما يمكن للقوات البريطانية فعله هو مراقبة الصاروخ الوارد. وعلى عكس ما يصوره "بيت الديناميت"، ليس لدى المملكة المتحدة شبكة دفاعية تعمل على مدار الساعة للتعامل مع مثل هذا التهديد.
في تصريحات حول تهديدات الصواريخ للمملكة المتحدة، قال عدد من وزراء الدفاع بلا مبالاة إن مثل هذا التهديد سيتعامل معه الناتو بصورة جماعية. لكن في محادثات مع أعضاء في الناتو يمتلكون أنظمة أرضية قادرة على اعتراض الصواريخ الباليستية، قيل لي إن دولاً مثل بولندا وألمانيا وهولندا لم تبرم اتفاقات ثابتة تلزمها بالتصدي للصواريخ الباليستية نيابة عن المملكة المتحدة. وتبرمج الأنظمة الدفاعية عادة على تجاهل أي صاروخ لن يصيب أراضيها. وهذا تماماً ما يفعله نظام "مقلاع داود" الإسرائيلي، الذي لا يعترض الصواريخ الحوثية إذا كانت ستسقط في البحر المتوسط وليس في إسرائيل.
سيناريو "بيت الديناميت" اليوم يتعارض مع أسلوب حكم ساد خلال العقود الماضية. باستثناء أحداث الـ11 من سبتمبر، لم تقع أزمات تتطلب اتخاذ قرارات فورية - كان الوقت دائماً متاحاً لرؤساء الوزراء والرؤساء للتحدث والمناقشة وطلب المشورة والتفكير قبل اتخاذ قرار، وحتى استخدام الخطوط الساخنة للتواصل مع الخصوم.
يسهل تصور أي زعيم وطني أنه عند مواجهة الافتراض الذي يطرحه "بيت الديناميت" يتساءل عما إذا كان واقعياً أن يضطر لاتخاذ قرار في 15 دقيقة، لكن هذا هو الوقت المتاح عملياً. داخل الولايات المتحدة، سينقل الرئيس بطائرة مارين وان (مروحية) إلى قاعدة أندروز الجوية للصعود إلى طائرة الرئاسة (بوينغ 747) ليصبح في الجو وبعيداً من الخطر المباشر. الأمر نفسه لا ينطبق على رئيس وزراء المملكة المتحدة، في أفضل الأحوال سينقل إلى الملجأ تحت مبنى وزارة الدفاع.
المشكلة أمام كير ستارمر، أو من يكون رئيساً للوزراء وقت حدوث أزمة من هذا النوع، أن احتمالات وقوع مثل هذا الحدث أصبحت الآن أكثر من أي وقت حتى أيام الحرب الباردة. انظر إلى أحداث منطقة البلطيق في أواخر سبتمبر (أيلول) وأوائل أكتوبر (تشرين الأول) عندما شوهدت طائرات مسيرة مجهولة فوق المطارات والقواعد الجوية - طائرات مسيرة الآن، وصواريخ في المرة المقبلة؟
إذا افترضنا، وربما بصورة صحيحة، أنها روسية أو مرتبطة بروسيا، فإن هذا النوع من العدائيات "تحت عتبة المواجهة المباشرة" sub-threshold warfare الذي يصعب إثباته ويسهل إنكاره يحدث مستويات رهيبة من عدم اليقين. قد يثير الاستغراب أن يعد حدث مثل إطلاق صاروخ باليستي عملاً عدائياً "تحت عتبة المواجهة المباشرة"، لكن يقينيات الحرب الباردة تلاشت.
بالمقارنة، خلال أيام الحرب الباردة، إذا رصد رادار أميركي صاروخاً قادماً من اتجاه معين، فكنت تعلم أنه صادر عن الاتحاد السوفياتي أو عن غواصة روسية مزودة بصواريخ باليستية - وهذه ليست الحال اليوم. هل يمكن لسفينة من "أسطول ظل" أن تطلق صواريخ أو سرباً من الطائرات المسيرة على أهداف بريطانية من موقع بحري بعيد؟ احتمالات ذلك ارتفعت من ضئيلة جداً إلى عالية - وسيكون من الصعب للغاية إثبات من أطلقها. فإلى من سترد؟
ولا يمكن أيضاً التأكد من أن الطائرات المسيرة من نوع "شاهد" تحمل فقط رؤوساً تقليدية، فقد تكون مزودة بشحنات كيماوية أو بيولوجية (تعد من أسلحة الدمار الشامل شأنها شأن السلاح النووي). كانت العقيدة العسكرية في السابق تعد أن الاستخدام الواسع للأسلحة الكيماوية يعادل استخدام سلاح نووي ويستوجب الرد النووي. أما اليوم، فالعقيدة لم تعد واضحة.
خلال عام 1983، وقع حادثة شبيهة بما صوره الفيلم، حين رصد ضابط دفاع جوي سوفياتي على شاشاته ما بدا كأنه خمسة صواريخ أميركية متجهة إلى الاتحاد السوفياتي. آنذاك كانت التوترات عالية عقب إسقاط السوفيات طائرة ركاب كورية. كان لا بد من اتخاذ قرار خلال دقائق عما إذا كان هذا إطلاقاً أميركياً فعلياً ضد موسكو ولم يكن هناك نظام دفاع صاروخي متقدم كما لدى الولايات المتحدة اليوم في فورت غريلي، ألاسكا. لحسن الحظ قرر العقيد أن "الصواريخ" على الرادار كانت إنذاراً كاذباً وتبين أنه كان على حق. لكن لو اتخذ قراراً مغايراً...
مع ذلك، بالنسبة إلى المملكة المتحدة، التي لا تملك نظام دفاع صاروخي مخصصاً، الخيار الفعال الوحيد المتاح لرئيس الوزراء هو الرد بإطلاق صواريخ ترايدنت النووية من إحدى الغواصات المنتشرة، ضمن دورية دائمة كوسيلة ردع. يمكن الاتصال بالغواصات الباليستية المغمورة عبر أنظمة راديو منخفضة التردد جداً، لكن بحسب عمق غوص الغواصة، فالاتصال ليس مضموناً ولا سريعاً. لكن إذا قرر رئيس الوزراء أن التهديد نووي وأن مصدره، على سبيل المثال، روسيا، فيمكن إرسال رسائل إلى غواصة من فئة فانغارد الموجودة في دورية الردع لتنفيذ أي رد يقرر.
وفي حال تعذر التواصل، فسيلجأ قائد الغواصة في الموقع إلى "رسالة الملاذ الأخير" الموجودة في خزانة آمنة على متن الغواصة. هذه الرسالة، التي يكتبها رئيس الوزراء القائم بالسلطة، تعطي القائد تعليمات حول ما يفعل إذا لم يكن هناك رابط بسلسلة القيادة في المملكة المتحدة. قد تنص على أن ينفذ إطلاقاً نووياً معيناً فوراً ضد قائمة أهداف محددة - لكن لا أحد يعلم ما الذي كتب في تلك الرسائل الأربع (واحدة لكل غواصة). وتتطلب العملية مراقبة يومية لشبكات اتصال متعددة (كانت تتضمن الاستماع إلى برنامج "توداي" Today في "راديو 4" كل صباح، وإذا لم يستقبل فثمة ميل للاعتقاد بحدوث هجوم على المملكة المتحدة!)، وفقط إذا استوفيت قائمة طويلة من الفحوصات فإن القائد يخول بإذن الإطلاق النووي.
أو قد يقرر رئيس الوزراء ألا يرد، إذا رأى أن الأدلة المتعلقة بهوية المطلق ونيته لا تبلغ مستوى يستلزم رداً من المملكة المتحدة. في "بيت الديناميت" لا نعرف القرار المتخذ، لكن أحد الخيارات، عندما يعتقد أن شيكاغو هي الهدف، أن تترك المدينة لتتحمل الضربة. في روايته التشويقية - التقنية الصادرة عام 1978 "الحرب العالمية الثالثة"، استعرض الجنرال السير جون هاكيت سيناريو حرب بين الاتحاد السوفياتي والناتو، تنفذ فيها موسكو ضربة نووية على برمنغهام فتقتل عشرات الآلاف، فترد المملكة المتحدة بضربة مماثلة على مينسك. قلة هم رؤساء الوزراء الذين يسرهم اتخاذ قرار برد نووي كهذا - لكن مبدأ الردع يقوم أصلاً على قناعة العدو أن المملكة المتحدة (أو الولايات المتحدة، أو فرنسا...) سترد حتماً.
لقد مرت 35 عاماً من دون أن يواجه العالم تلك التهديدات التي سادت بين خمسينيات وثمانينيات القرن الماضي. غير أن ما كان يعد مستحيلاً لم يعد كذلك منذ عام 2022. فالهجمات الباليستية باتت واقعاً، واحتمال استهداف دول الناتو بأسلحة مختلفة لم يعد نظرياً.
وهذا يعني أنه يجب على قوى أوروبا النووية، وخصوصاً فرنسا والمملكة المتحدة، أن يستعيد التفكير الاستراتيجي الذي كان سائداً لدى أسلافهم في زمن الحرب الباردة في ما يخص الهجمات على بلدانهم وخيارات الرد. وأن يكونوا مستعدين للرد قبل أن يبدأ العد التنازلي بالفعل.
© The Independent