ملخص
تعالج الكاتبة الفلسطينية ابتسام عازم الجرح الفلسطيني في مجموعة قصصية بعنوان "مدن الغريب"، (دار تكوين- الكويتي 2025). وتعود عازم بعد روايتها "سفر الاختفاء" للكتابة عن الجرح المفتوح الذي لم يلتئم.
تؤكد ابتسام عازم من خلال قصص المجموعة حضور قضيتها الأولى في وعيها السردي، وامتدادها في تفاصيل الشخصيات والأزمنة والأمكنة المختارة، بما يمنح نصها خصوصية وهوية واضحة، فضلاً عن بصمة أسلوبها وتقنيات الحكي في تقديم القصص. وضمن هذه المجموعة، تقدم عازم 24 قصة، موزعة على ثلاثة أجزاء، غير أن القراءة خارج التقسيم المقترح تكشف عن بنية ثنائية تقريباً، إذ تدور معظم قصص الجزء الأول في مدن متفرقة من فلسطين، بينما تجري غالبية قصص الجزء الثاني في المنفى.
فلسطين بقطاعها وضفتها وداخلها المحتل
تعيش ابتسام عازم اليوم في مدينة نيويورك، وتتحدر من مدينة الطيبة، إحدى أكبر المدن العربية داخل الخط الأخضر، أي إنها من الفلسطينيين المعروفين بـ"عرب 48"، إلا أنها في "مدن الغريب" لا تكتب عن مدن الداخل المحتل وحسب، بل تؤلف قصصاً متفرقة من الداخل وغزة والضفة الغربية. وتكتب عن الهم الفلسطيني عموماً من دون أن تكرر نفسها، فالقصص متنوعة حقاً، وكأنها تسرد ألف هم وهم، وللهم الفلسطيني أكثر من وجه وحكاية.
وتتبدل الحكايات كالأثواب وتختلف الصعوبات باختلاف المناطق وظروفها، فمن يعاني الإذلال والانتظار عند الحواجز، يختلف عمن يعاني المجاعة والقصف في القطاع. هكذا تنسج الكاتبة صورة موحدة لوطن مزقه الاحتلال وشتته، وتؤدي عبر الأدب دوراً عجز عنه السياسيون والأحزاب، وهو توحيد الهم كله والتحدث بصوت واحد عن القضية الواحدة، قضية الإنسان المعذب، سواء عاش داخل وطن محتل أو في منفى. إلا أن الغربة هنا تعادل الاغتراب، ومرارتها واحدة، ففي جميع الحالات يبقى الفلسطيني مسلوب الوطن، وحقه منتهك في أن يعيش حياة طبيعية كسائر البشر في هذا العالم.
تفتتح ابتسام عازم المجموعة بقصة "عايدة" وتسردها عبر ضمير الغائب، وتبني من خلاله حضور الشخصية عبر غيابها وشهادات معارفها عن اختفاء أم مطلقة تعمل في بيت مسنة لإعالة عائلتها. تمضي الكاتبة في وصفها، وفقاً لآخر مرة رآها الجميع فيها، وصولاً إلى حدث مقتلها. ويتخلل السرد عدد من الصور المكثفة التي تفتح المجال لتساؤلات أعمق، مثل عبارة "تركها أولادها وحيدة وناموا في أحضان زوجاتهم أمام التلفاز". وتتيح الكاتبة مساحة للتأمل في هذه الجملة، بما تحمل من أسئلة معتادة بين الأبناء أو الأمهات، عن الحق في الاستقلالية وبناء عش جديد، وكيف يتداخل ذلك مع الإحساس بالذنب بالتخلي عن أم وحيدة، والانشغال بالحياة العائلية الثانية.
في القصة الأولى لا تقتل "عايدة" على يد محتل أو مجهول، بل تقتل في جريمة شرف، على يد أحد أفراد عائلتها، أي أحد أبناء شعبها. إنها قصة تحدث كثيراً في المجتمعات العربية المحافظة، فتدان المرأة وحدها في جرائم الشرف، ويواصل المجتمع ظلمه حتى بعد مقتلها، بتبرير الجريمة ونعت الضحية بأقبح الصفات.
اسماء القرى
وفي القصة التالية، تنتقل ابتسام عازم إلى مدينة بيتح تيكفا تقول الراوية عنها "كما نسميها نحن، باسمها الأصلي ملبس"، وهكذا تذكر كثيراً من الأمكنة بأسمائها القديمة، فضلاً عن أسمائها الجديدة التي صاغها الاحتلال.
وفي قصة "قناص" تأخذنا الكاتبة إلى حاجز ينتظر عنده المارة لساعات طويلة، تقول إنهم "يقضون نصف أعمارهم واقفين أمامه يومياً لكي يعبروا من فلسطين إلى فلسطين". وتجعلنا نعيش تجربة الانتظار، ونحن نتأمل زهرة نبتت بين صخرتين لم ينتبه إليها أحد. وفي الجهة الأخرى، تصف ابتسام عازم قناصاً مستعداً للتصويب والقتل في أية لحظة، وتقول عنه بسخرية إنه جندي آخر لا يحب الحرب، ويتناسى أنه صنعها وسيكتب كتباً في المستقبل عن حرب كان ضحيتها.
في هذه القصة، تروي الكاتبة واقع الموت المجاني والعبثي في المدن المحتلة، حيث يمكن أن يخسر الإنسان حياته فقط لأنه تحرك أو اشتبه فيه، من دون أن يسأل أو يحاكم أو تمنح له فرصة أن يقول كلمة واحدة في الأقل.
وتزداد مرارة القصص مع قصة "الزيتون المر"، حكاية حسن المأسوية الذي يقضي ليله في حقل الزيتون يحرسه من هجمات المستوطنين، تنكيلاً بما تمثله الزيتونة من رمز عريق لأشجار يفوق عمرها عمر وجود الاحتلال على أرضهم. أما قصة "زعتر" التالية، فتأتي ساخرة وتخفف من كآبة القصة السابقة، من دون أن تتخفف من رموزها وإشاراتها إلى ارتباط الفلسطينيين بأرضهم وزيتها وزعترها. وهذا الارتباط ليس عاطفياً وحسب، إنما هو ارتباط ثقافي وسوسيولوجي يمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية من الطعام إلى التداوي.
طفلة غزة
أما في قصة "سمورة"، فتتنقل الكاتبة إلى قطاع غزة، لنتتبع حكاية طفلة تحاول إنقاذ دميتها من بين الأنقاض، وعلى رغم اعتماد الكاتبة على الراوي العليم في السرد، فإنها تمنح القصة صوتاً طفولياً يتخلل الحكي ويروي أحلام الطفلة ومخاوفها. وحين تقترب الصغيرة للبحث عن دميتها، تخاطب الحطام قائلة "سمورة، أنا نسرين جيت آخذك ما نسيتكش"، فيجيبها صوت مرتجف "أنا معتز، معتز، جاركم من الطابق التحتاني"، في مشهد شديد القسوة يحاكي المأساة في غزة ولا يختصرها.
وفي قصة أخرى، تصف عازم غرابة الموت الطبيعي بقولها "مات أبي قهراً، لكنه مات موتاً طبيعياً"، كأن الموت الطبيعي هناك هو أغرب أنواع الموت، مقابل من يموتون جوعاً وقصفاً واغتيالاً وتعذيباً في السجون.
أما في قصة "الختيارة والشقائق"، فتأخذ الحكاية بعداً رمزياً وطابع الخرافة الشعبية، إذ تروي الراوية عن الدحنون وتشاؤم الختيارة منه، فهي تستبشر خيراً كلما قل ظهور شقائق النعمان، كما ينهى كبار السن عن قطفه أو دوسه، ليتضح المعنى لاحقاً، "تقول حكايتنا إنه كلما استشهد أحدنا تعود روحه على شكل زهرة شقيقة نعمان. وكلما زاد لون سفوحنا احمراراً تكون أعداد شهدائنا قد تكدست بيننا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتكثف الرموز في قصص المنفى، في إشارات عدة الى الغربة والاغتراب والشتات والتمزق وقهر المسافات البعيدة والجروح المفتوحة في القلب والذاكرة، وهكذا تنسج ابتسام عازم تجربة سردية مكتملة بالتقاطها للتفاصيل الصغيرة في الحياة اليومية، وتبلغ ذروة تأثيرها في طريقة توظيفها لتلك التفاصيل. فهي تكتب القصة كما حدثت، من دون تكلف أو استجداء للعاطفة، وتترك للمتلقي مساحته الخاصة ليتفاعل طبيعياً مع الحدث.
شعرية السرد القصصي
وتتميز قصص "مدن الغريب" بلغة شاعرية ومكثفة وموحية ورمزية، فالكاتبة تستغل أداة اللغة ببراعة في الوصف وبناء الحدث وتصوير الأمكنة والشخصيات. وترد مثلاً عبارة تعبر عن هذا الحس الشعري كقولها "عضني الحزن كذئب وشعرت وكأنه قضم قطعة من قلبي الصغير"، أو وصفها للقناص في مفارقة محيرة "تشبث بسلاحه كأنه يمسك بحبيبته بين ذراعيه". ولا تغلب العاطفة على اللغة بقدر ما يبدو الحكي مروياً من منظور شعري يلتقط التفاصيل بحساسية عالية.
وفي استراتيجية سردية أخرى، تختار ابتسام عازم ألا تذكر كلمة إسرائيل في قصصها ولا تصف الإسرائيليين بالاسم، بل تنكرهم تماماً، ولا تعترف بهم مباشرة، فتشير إليهم من دون أن تسميهم، كما في قول إحدى الشخصيات "اللي ما يتسموا، الله ياخذهم". وفي مواضع أخرى تصفهم بـ"الجنود الغرباء، القناص، الجندي، الغريب، هذا وذاك وهؤلاء"، إنهم الآخرون الذين لا محل لهم في البلد إلا بوصفهم غرباء ومحتلين. وتؤكد هذا الخيار بقولها على لسان الراوية في قصة "قشطة"، "لا أريد أن أسميه، ذلك الجيش، الكل يعرفه، يعرف عن أي جيش نتحدث، قررت أن أطردهم من قصصي ولا آتي على ذكرهم إلا للضرورة التي لا بد منها".
وينتهي عدد من القصص بقفلات صادمة وغير متوقعة، وتأتي بعد بناء محكم للأحداث، مما يجعل قراءة هذه المجموعة تجربة مؤثرة، تدفع القارئ إلى التوقف والتأمل والتقاط أنفاسه. تجربة قد تذكر بتجربة غسان كنفاني لتقاطعهما في الانتماء إلى قضية واحدة والاعتماد على بساطة اللغة مع كثافة العاطفة وعلى صور ختامية صادمة.
قد تكون "مدن الغريب" مجموعة موجعة في كثير من محطاتها، غير أن الكآبة فيها ليست مقصودة بل ظرفية وحتمية في كثير من الأحيان، وتتخللها بعض القصص الساخرة والتعابير التهكمية، كما في قصة "زعتر" وقصة "انتصارات صغيرة".
وتختم الكاتبة قصصها بقصة "تلفاز"، وقبلها تسرد قصة تقول فيها "نعم نجونا حتى الآن، وللكابوس كما للحلم بقية"، وقد تبدو العبارة داكنة وسوداوية مرة أخرى، ولكنها في الوقت نفسه واقعية ومنطقية، إذ لا يمكن التغني بالأمل والتفاؤل في ظل واقع احتلال ما زال مستمراً في عدوانه ووحشيته.