Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الألماني فريتز لانغ يمهد للأسطوري في السينما الصامتة

"ثلاثة أضواء" يجمع بين حكايات الصغار والخيال العلمي في بوتقة تزهر على الشاشة

مشهد من فيلم "ثلاثة أضواء" لفريتز لانغ (موقع الفيلم)

ملخص

بعد سنوات من إنتاجه سيعود فيلم فريتز لانغ الذي عرض عام 1921، أي "ثلاثة أضواء"، إلى مكانته فتجعل منه واحداً من أول الأفلام الألمانية التي سارت على خطى الموسيقي ريتشارد فاغنر في استلهام التراث الأسطوري الجرماني، ولكن في السينما هذه المرة

قبل ظهور فيلمه الروائي الكبير الأول "ثلاثة أضواء" (1921)، الذي سيضحي الأكثر شهرة خلال مرحلته الألمانية الأولى التي انطلقت حقاً في عام 1919، حقق فريتز لانغ (1890 - 1976) نحو نصف دزينة من أفلام طويلة وقصيرة، سيعتبر الفيلم الذي نتحدث عنه هنا واحداً من أنجحها، لكنه سيعتبر كذلك ثاني أفضل فيلم له خلال تلك المرحلة التي ستتلوها مرحلة أميركية ثم مرحلة ألمانية ثانية وأخيرة، تميزت بعالمية مواضيعها وابتكارات ذلك السينمائي الكبير التي هيمنت عليها في تجريبية ستوسم بكونها تجديدية، قبل أن تتحول إلى كلاسيكية مدهشة ذات مواضيع تجارية ناجحة حتى، (كما حال "نمر البنغال" و"قبر هندي" عند نهاية سنوات الـ50 من القرن الماضي).

أما بالنسبة إلى "ثلاثة أضواء"، فلقد كان من شأنه أن يعتبر تحفة فرتز لانغ الكبيرة في مرحلته الألمانية الأولى الصامتة على أية حال، لولا ظهور فيلمه الأكبر "متروبوليس" بين عامي 1926 و1927 كواحد من آخر أفلامه الصامتة، فيصبح علامة أساسية في سينماه ككل وبخاصة بعد أن نال هذا الفيلم رضا وإعجاب جوزف غوبلز، المعتبر حينها سينيفيليا كبيراً، الذي بتلك الصفة وبالنفوذ الذي تمتع به كموضع ثقة هتلر الذي سلمه وزارة الدعاية، فكان من أول نشاطاته أن دعا لانغ لتسلم شؤون السينما الألمانية ما أن وصل نازيو هتلر إلى السلطة، ورأوا في لانغ فنانا كبيراً وإدارياً مميزاً متناسين كونه يهودياً، ولو جزئياً في الأقل... إلى آخر هذه الحكاية المعروفة.

والمهم هنا هو أن الأزمنة اللاحقة ستعيد فيلم عام 1921، أي "ثلاثة أضواء"، إلى مكانته فتجعل منه واحداً من أول الأفلام الألمانية التي سارت على خطى الموسيقي ريتشارد فاغنر في استلهام التراث الأسطوري الجرماني، ولكن في السينما هذه المرة.

ولئن كان التراث الذي استلهمه لانغ هنا ينتمي إلى حكايات الصغار كما دونها الأخوة غريم وهانز كريستيان اندرسن، فإن الحقيقة تكمن في أن لانغ حول الحكاية البريئة إلى عمل تخييلي يدور من حول واحد من مواضيعه الأثيرة التي سيعالج ما يكررها دائماً، في عدد كبير من أفلامه خلال مراحله الثلاث، وهنا تحديداً، من خلال نوع مبتكر من خيال علمي يدور من حول اليأس الذي يطاول امرأة في محاولتها بث الحياة في روح حبيبها الذي يريد الموت أن يطاوله من ناحيته، وبهذا التدخل في الحكاية الأصلية تمكن لانغ على أية حال من أن يستحوذ على الحكاية محولاً إياها إلى حكاية للكبار.

بداية تضحيات كبيرة

والحقيقة أن أول مايمكن قوله بصدد هذا الفيلم، هو أنه جعل المخرج يضحي بأول مشروع سينمائي حقيقي كان يفترض به خوضه، وهو تحقيق فيلم "عيادة الدكتور كاليغاري"، الذي انتهى الأمر بإخراج روبرت فاين له بعدما كان لانغ يعول عليه كثيراً، إذ توخى أن يكون مدخله الكبير إلى العمل السينمائي في عام 1919، لكن انشغاله في إنجاز "ثلاثة أضواء" حرمه من تلك البداية، وجعله يشعر بقدر كبير من الندم لاحقاً حتى وإن كان قد حقق في الفترة نفسها، عدداً من مشاريع باتت أساسية في مساره السينمائي. ويمكننا القول إن ندمه لم يطاول أبداً تضحيته لإنجاز "ثلاثة أضواء" خصوصاً أن هذا سيعتبر دائماً فيلماً مؤسساً ليس فقط في مسيرة لانغ، بل حتى من مسارات السينما الألمانية.

أما بالنسبة إلى موضوع الفيلم كما أشرنا، فإنه يدور من حول تلك المرأة التي ترى الموت يهدد حبيبها وهو بالنسبة إلى ذلك المصير، في رفقة شخصين آخرين. فتسعى لدى الموت كي يستثني الحبيب في الأقل من مصير كانت قد أحسته محتماً. فيقول لها الموت إنه سيفعل ذلك بشرط أن تذهب إلى ثلاث مراحل زمنية مختلفة، إذ ستجد نفسها في كل مرة أمام تحد يقوم في إنقاذ واحد من الرجال المهددين الثلاثة، حتى يكون حبيبها في عدادهم. ويتحقق لها ذلك بالفعل، ولكن بعد أن تمر بصعوبات وأجواء بادية الغرابة، وتحديات تكاد تكون مطابقة لمهارات قد يخوضها سندباد الحكايات العربية، علماً بأن الشرق القريب، ولكن في أزمنة الخلافة وازدهار الدولة العربية، يشكل وجهة أساسية من وجهاتها في اللعبة الخطرة التي تخوضها.

بعد شديد الذاتية

كما أشرنا، استقى لانغ موضوعه الذي كتب له السيناريو شراكة مع الأديبة ثيا فون هاربو، التي ستضحي لاحقاً زوجته (لكنها سترفض مشاركته الهرب من النازية في عام 1933، مما يجعلهما ينفصلان بفعل ابتعاده من وطنه)، استقاه من قصة عثر عليها في تراث غريم واندرسن، فتلمس فيها وجود ذلك الموضوع الذي سيعود له لاحقاً، معتبراً إياه موضوعه الشخصي: الحضور الكلي للموت، ويأس المرأة تجاه حتمية فقدانها حبيبها، والنهاية التي تتوخى تهدئة خواطر المرأة والجمهور في آن معاً.

وللوصول إلى هذا حرص الكاتبان على جعل السيناريو جزءاً من مناخ ما - فوق - طبيعي من دون أن يبتعد من منطق معين عرف الباحثون كيف يربطونه درامياً بالنزعة التعبيرية التي كانت تسود المناخات الإبداعية في ألمانيا، كما في النمسا، في ذلك الحين، حتى وإن كان كثر منهم سيعتبرون ذلك الربط سطحياً بالنظر إلى أن لانغ نفسه كان نادراً ما يبتعد عن ذاتيته ليرتبط بأية نزعة كانت، حتى ولو كان من مؤسسيها بصورة أو بأخرى.

ومن هنا مثلاً ما لاحظه الباحثون من كون الرحلة الأولى، وهي التي تسمى "الشرقية" ترتبط بمجموعة شرائط سابقة للانغ نفسه، بينما تبدو المرحلة الثانية، والمسماة "فينسية"، بالنسبة إلى كونها تدور في مدينة البندقية (فينيسيا)، واقعة تحت هيمنة الإبداع العمراني الذي سيهيمن دائماً على لغة لانغ السينمائية، ولا سيما كما نرصدها في "متروبوليس" (الفيلم الذي يعتبر دائماً من أكثر أفلام السينما ارتباطاً بمناخاته الهندسية العمراني، ناهيك باعتبار الأثر الفني الأكبر الذي حققه لانغ، الذي سيقول على أية حال إنه شديد الندم لكونه حققه معلناً فيه الوحدة بين اليد (العاملة) والعقل (المخطط) تحت رعاية القلب (التصالحي) في توجه إيديولوجي سيعترف لانغ أنه بدا مسايراً بصورة أو بأخرى للفكر النازي، بيد أن هذه حكاية أخرى بالطبع. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن فإننا نلاحظ في الرحلة الأخيرة المسماة "صينية" إرهاصاً بهيمنة النزعة القدرية التي "يتجابه فيها الواقع مع ما هو خارج الواقع"، وهي تيمة يرى النقاد أن لانغ سيمعن في تطويرها في سينماه لاحقاً، بحسب ما يفتي الناقد الفرنسي المتخصص في السينما الألمانية الصامتة جيرار لي غران.

وهنا يبقى علينا أن نختم هذا الكلام عن فيلم لانغ "ثلاثة أضواء"، الذي غالباً ما ينسى ليستعاد بين الحين والآخر، بالإشارة إلى أن لانغ قد مارس فيه نظرية سينما المؤلف التي لن تظهر إلا بعد هذا الفيلم بـ30 سنة، إذ إنه إلى إخراجه الفيلم وكتابته السيناريو له، وإدارته إنتاجه بنفسه، وعلى رغم أن المخرج كان محاطاً طوال العمل عليه بعدد كبير من المساعدين والمتدربين، حرص على أن يقوم بكل كبيرة وصغيرة في الفيلم بنفسه ولا سيما بالنسبة إلى الخدع السينمائية التي يحفل الفيلم بها، وضبط التأطيرات خلال التصوير. وهذا إضافة إلى إشرافه المباشر على الديكور، وهو ما سيفعله على أية حال خلال مساره السينمائي الطويل، مما سيتسبب له في مشكلات كثيرة مع النقابات الأميركية التي ما كان في مقدورها أن تستوعب هذا النوع من العمل الفردي وتقبل به.   

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة