ملخص
رواية "نجمة" لكاتب ياسين في هي أكثر النصوص حضوراً ودراسة في الملتقيات الجامعية.
خلال الـ28 من أكتوبر (تشرين الأول) 1989 رحل الروائي والمسرحي الكبير كاتب ياسين، إذاً ها نحن نحتفل وبخشوع بمرور 36 عاماً على وفاته، وفي هذا العام نحتفل أيضاً بمرور 70 عاماً على صدور روايته الخالدة "نجمة"، التي شكلت منعطفاً حاسماً في جماليات الكتابة السردية في الجزائر وبلدان شمال أفريقيا.
تساؤل محرج
ولأن الروائي كاتب ياسين كان مبدع الفرجة بامتياز، فهو المسرحي الشعبي وهو المدافع الشرس عن لغة الشعب التي أصر على اعتمادها في مسرحه، متنازلاً عن اللغة الفرنسية التي كان فارسها، فإننا نتساءل لماذا لم يتجرأ أي مخرج سينمائي، جزائري أو مغاربي أو عربي، على اقتباس روايته "نجمة" على رغم أنها تعد أشهر وأعظم رواية جزائرية ومغاربية مكتوبة باللغة الفرنسية، وهي أكثر النصوص تأثيراً في القراء وفي الكتاب أيضاً؟
هل هذا الصد أو الإهمال ناتج من خوف من النص لأن الرواية معقدة في بنائها؟ هل لأنها غامضة في مصير شخوصها الروائية؟
مع ذلك وعلى رغم هذا الإغفال، لو سألت أي مخرج سينمائي جزائري أو حتى مغاربي من الجيل القديم أو المخضرم أو المعاصر، أي الروايات أقرب إليك؟ سيجيبك من دون تردد، إنها رواية "نجمة" لكاتب ياسين.
لو سألت أي كاتب جزائري من مختلف الأجيال وبكل اللغات، الذين يكتبون بالفرنسية وبالعربية وبالأمازيغية، أي الروايات أثرت عليك في مسارك الإبداعي؟ سيجيبك من دون شك، إنها رواية "نجمة" لكاتب ياسين. قد تذكر عناوين أخرى على جانبها، ولكن اسم كاتب ياسين وروايته "نجمة" هي من تتكرر في الشهادات وعلى الأفواه دائماً.
لو سألت أي جامعي أو أكاديمي ما هي الرواية الخالدة في الأدب الجزائري والمغاربي؟ سيجيبك من دون تردد، إنها رواية "نجمة" لكاتب ياسين.
لو سألت أي قارئ عادي عن الروايات التي قرأها من الأدب الجزائري والمغاربي، سيرد "رواية ’نجمة‘ لكاتب ياسين" حتى ولو أنه لم يقرأها.
لو قمنا بإحصاء بسيط عن الروايات الأكثر حضوراً كمتن للأطروحات والمذكرات الجامعية في الجزائر، أطروحات الدكتوراه أو الماجستير أو الماستر على مدى تاريخ الجامعة الجزائرية، ستكون تلك التي قدمت عن رواية "نجمة" لكاتب ياسين، وهي أيضاً أكثر النصوص حضوراً ودراسة في الملتقيات الجامعية.
الجميع في الجزائر من المثقفين يحتفلون بهذه الرواية، كلٌّ على طريقته، المخرجون السينمائيون والمسرحيون والكتاب والروائيون والنقاد والقراء العاديون، فما السبب يا ترى في ألا أحد تجرأ على اقتباس هذا النص المدهش سينمائياً، مع أن الرواية تتناول موضوع الثورة الجزائرية وأن السينما الجزائرية ظلت وفية لهذه الإشكالية المهمة، وأكثر الأفلام وأنجحها هي تلك التي تناولت مسار الثورة وكفاح الجزائيين ضد الاستعمار الفرنسي؟
قد يقول قائل، بل ربما هو رأي كثر من المهتمين بالسينما في الجزائر، إن رواية "نجمة" معقدة في بنائها السردي، غامضة في شخوصها، ولذلك يصعب نقلها إلى الشاشة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما في ذلك شك، فهذا القول فيه بعض الصدق والحقيقة، فـ"نجمة" ليست رواية بسيطة في فك رموزها وترتيب شخوصها وحتى في تحديد جغرافيتها، لكن أليست الأعمال الخالدة هي تلك التي لا تسلم نفسها بسهولة للقارئ ولا للمخرج ولا لكاتب السيناريو؟
أعتقد أن الأمر أعقد من أن يرتبط هذا الإحجام والإغفال على مسألة الغموض أو التعقيد، فكثير من الأعمال الروائية العالمية والتي تبدو أكثر تعقيداً من رواية "نجمة" لكاتب ياسين جرى اقتباسها للسينما، ولعل المثل الأقرب إلى حال رواية "نجمة" هي رواية "الغريب" لألبير كامو، فهذه الأخيرة وعلى رغم عالمها الغامض وأحداثها القليلة وتعقد بنائها السردي، اقتُبست مرتين للسينما ومرات أخرى للتلفزيون وللإذاعة. وهناك نصوص عالمية أخرى أكثر غموضاً ومثيرة للحيرة وصعبة على الفهم التقليدي، ومع ذلك جرى تحويلها إلى أفلام ناجحة، على سبيل المثال "اسم الوردة" للكاتب الإيطالي أمبيرتو إيكو و"البحث عن الزمن المفقود" للكاتب الفرنسي مارسيل بروست و"الإخوة كرامازوف" للكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي، و"المحاكمة" للكاتب فرانز كافكا و"المعلم ومارغريت" للكاتب الروسي ميخائيل لبولقاكوف و"1984" لجورج أورويل وغيرها...
أعتقد أن الهرب أو الإحجام عن اقتباس رواية "نجمة" لكاتب ياسين لا يعود لبنية النص ولا بسبب فلسفتها المركبة، ولكن هذا الوضع تعبير عن قطيعة خطرة قائمة ما بين الأدب الروائي والسينما، ما بين الروائيين والمخرجين السينمائيين، عن غياب كتاب السيناريو الذين يشتغلون على النصوص الروائية الكبرى، وهي صورة عن حال الإنتلجانسيا الإبداعية في الجزائر، تلك التي تعيش وضعاً ممزقاً، تعيش وكأنها في جزر متباعدة، إنها في ما يشبه الأرخبيل، حيث كل مبدع يعمل ويجتهد بصورة فردية منعزلة ومعزول عن الآخر، أرخبيل يفتقد التواصل والتكامل والاستماع.
إن القطيعة الثقافية والفنية السحيقة ما بين أهل السينما بوصفها ورشة جمالية متجددة تقوم على سردية الأذن وسردية الصورة وسردية اللغة الخاصة بها من جهة، وأهل السرد الروائي في مغامرتهم مع شعرية الواقع وسؤال التاريخ بكل أوجاعه، هو ما جعل كثيراً من سينمائيينا يسقطون في شرك سيناريوهات ضعيفة وأفلام تفتقر إلى جماليات اللغة وحرارة الواقع الذي لا يكتشف إلا في الرواية.
سردية الأذن بين الرواية والسينما
الرواية ليست حكاية، إنها عالم أعقد من ذلك بكثير، لكن لا وجود لرواية من دون حكاية مهما كانت طريقة سرد هذه الحكاية، على طريقة فلوبير أو بلزاك أو تولستوي أو على طريقة بروست أو بورخيس أو ناتالي ساروت، حكاية كرونولوجية طولية أو حلزونية أو مكسرة، كما أن الفيلم السينمائي لا يقوم ولا يكتفي بسرد حكاية ما، إنه عالم أعقد من ذلك بكثير، لكن لا وجود لفيلم من دون حكاية، أكان سرد الحكاية على طريقة فيلم "معركة الجزائر" أو "اللص والكلاب" أو على طريقة سرد حكاية فيلم "اسم الوردة" أو "الطيور" لهيتشكوك.
على رغم الاختلاف ما بين هذين الفنين (الرواية والسينما) في الوسائط المستعملة، لكن الذي يجمعهما هو البحث عن فلسفة المتعة والإمتاع من خلال الصوت والصورة والموسيقى وبلاغة الحكاية، لكل منهما لغته ولكل صورته ولكل موسيقاه ولكل طريقته في السرد، وهذا التلاقي في (الاستقبال - الجمهور) هو ما يجعلنا نقر بأن السينما والرواية لهما جمهور يتقاطع أو يتشابه في رؤية العالم من خلال فلسفة المتعة والجمال.
لا أتصور روائياً جاداً ومتجدداً لا يحب السينما، لا يشاهد الأفلام المحلية والعالمية، من لا يملك فضول السينما لا يمكنه أن يتصالح مع فن الرواية في مغامراتها الجمالية والفلسفية المفتوحة والمتعددة، ولا أتصور مخرجاً سينمائياً ناجحاً لا يحب قراءة الرواية كلاسيكية كانت أم حداثية.
كل فيلم هو إغراء لقراءة الرواية وكل قراءة رواية هي فضول لمعرفة الفيلم السينمائي.
أتصور بأن قراءة الرواية بما هي عليه من طقوس نسكية وفردية وعزلة تشبه إلى حد بعيد حال مشاهدة فيلم سينمائي في صالة عرض احترافية، وما تثيره من هيبة تشبه في غموضها وسديمها هيبة المعابد الدينية.
نقرأ الرواية أم نشاهدها؟
لا رواية من دون رسالة مع أن الأدب ليس صندوقاً بريدياً تتراكم فيه الرسائل والدروس الموجهة للقارئ، والفيلم أيضاً ليس وكالة بريدية لكنه يحمل للمشاهد مصفوفة من الأفكار في لعبة جمالية مركبة خاصة به.
مسار الروائي المقتدر كمسار المخرج السينمائي المبدع، فإذا كان الأول، أي الروائي، لا يمكنه أن يشحذ ويصنع نصه اللغوي في غياب ثقافة الأذن (الموسيقى واللغة) وثقافة الصورة (الأشكال والألوان والأحجام) فإن الثاني، أي المخرج السينمائي، لا يمكنه أن يصنع عوالمه السينمائية الناجحة من دون حضور شعرية اللغة ودهشة العمران الروائي.
إن حضارة الأذن كما حضارة العين، مشترك جمالي ما بين الرواية والفيلم، ما بين الأدب والسينما، ونعني بها تلك السردية التي تقوم داخل قيم جمالية قادمة بالأساس من فن السماع أو الرؤية، سماع الحكاية، فضيلة السماع أو الإنصات، مراقبة حركة المجتمع، وفي الحضارتين تلعب سلطة الثقافة الشفوية العريقة والفرجة الشعبية تأثيراً في المكتوب كما على المرئي.
في المجتمعات التي تزدهر فيها الثقافة والفنون بكل صورها، نجد منتجي ونشطاء المجتمع الأدبي والسينمائي والإعلامي يعيشون متجاورين ومتحاورين، يعيشون حالاً من الحوار المتواصل من الانصات الإبداعي إلى بعضهم بعضاً، الإنصات هنا هو القراءة، القراءة بالمشاهدة أو بالكلمات وبالحياة.
كلما كان المجتمع مفتوحاً واحترمت فيه حرية الخيال وحرية الرأي وكانت فيه فضاءات ثقافية تجمع منتجي الخيرات الأدبية والفنية والفكرية، إلا ويعود هذا الواقع الإيجابي بثمار كثيرة على الأعمال المشتركة ما بين السينمائيين والروائيين، وكلما تصحرت الحياة الثقافية وجفت الفضاءات وأسدل الستار عليها، إلا وشعرنا بنقص في التعاون وقلق في تطور السينما كما الأدب الروائي.
ربما هذه القطيعة ومتلازمة الأرخبيل هو الذي جعل أكبر رواية جزائرية، أعني بها رواية "نجمة" كاتب ياسين، غائبة عن السينما وبلغت من العمر 70 سنة، نشرت الرواية عام 1956.