ملخص
تواجه مهنة المصور الصحافي تهديدات مختلفة على مستوى لبنان والعالم، فهو عرضة للصرف من الخدمة بفعل استعانة المؤسسات الإعلامية بمنشورات مواقع التواصل الاجتماعي، وتتعرض حقوقه وملكيته الفكرية والفنية والأدبية لانتهاكات متمادية.
قبل 52 عاماً نزل إسبر ملحم إلى ميدان العمل الصحافي مصوراً ومصمماً وموثقاً لحظات وصور من تاريخ لبنان. شاءت الأقدار أن تكون الانطلاقة عشية الحرب الأهلية (1975 - 1990)، التي فتحت له الباب للتعاطي مع راسمي المستقبل السياسي للبلاد. عايش إسبر الأحداث الكبرى من قلب الحدث بصورة لحظية ومباشرة، عرض حياته للخطر في معرض بحثه عن الحقيقة، جرح وأسر وتعرض لضربات، إلا أن شغفه بالمهنة شكل دافعاً للثبات وراء العدسة السحرية. كان لإسبر محطات مع رجال السياسة، فقد كان حاضراً في اللقاء الأول الذي جمع الزعيم الدرزي الراحل كمال جنبلاط وقائد جيش لبنان العربي أحمد الخطيب، ورافق نجل الأول وليد جنبلاط في زيارته الرئيس السوري السابق حافظ الأسد.
ويتحدث إسبر عن توتر كبير أحاط بزيارة وليد جنبلاط إلى دمشق عام 1977، أي بعد أشهر من اغتيال والده كمال، ويكشف عن "خدعة مهنية" ساعدته على التقاط اللقاء بين الأسد وجنبلاط الابن، ويقول "قمت بتعيير العدسة، وتحديد موقعها على صدري من أجل التقاط الصورة من دون وضع العدسة على عيني"، مضيفاً "في لحظة التقاطي الصورة، كدت أفتضح، لأن الفلاش أضاء، وعندما توجه إلى العنصر الأمني السوري أبلغته أننا نقوم بتجهيز الفلاش".
جراح "الصورة"
تعرض إسبر خلال مسيرته المهنية إلى كثير من الأحداث، فهو يعد أن "مسيرة المصور الصحافي ترسم بالتجارب والإصابات"، مستذكراً "اختطافه لمدة تسعة أشهر في بلدة كفرشوبا جنوب لبنان، وبقائه في معتقل "جيش لبنان الجنوبي" بقيادة سعد حداد بين سبتمبر (أيلول) 1977 ومايو (أيار) 1978"، و"الإصابة أثناء تغطية نزول القوات السورية من بلدة بحمدون باتجاه بيروت"، ناهيك بتغطيته لمعارك حركة "فتح" و"الصاعقة" (التي عرفت بأنها الذراع الفلسطينية لحزب البعث العربي الاشتراكي) في العاصمة التي يعدها إحدى أهم محطات عمله. ويتحدث عن تعرضه لصفعة من أحد الضباط أثناء تغطية داخل أسواق بيروت خلال فترة الحرب، وتهديده لعدم نشر الصورة أو إفشاء الحادثة، فما كان من صحيفة "الكفاح العربي" التي يعمل فيها إلا أن نشرت صورة العسكري ضمن عدد اليوم التالي، "وبعد عام كنت في تغطية بمنطقة شتورة البقاع، وعدت والتقيت الضابط، إذ أخبرني أنه أقصى بسبب عقوبة مسلكية".
يعتقد إسبر أن ما تعرض له هو أمر طبيعي لأن "المصور الصحافي على عكس المحرر الصحافي، لا بد أن يكون في الميدان وقلب الحدث، لكي يلتقط الصورة التي تعكس الحقيقة ويؤرخ الموقف في لحظته"، وعليه فإن "اللجوء إلى التقنيات الجديدة التي تنتشر اليوم لخلق الصورة يخالف العمل المهني"، إذ "يمكن استخدام تقنيات الفوتوشوب والذكاء الاصطناعي لزيادة جودة الصورة، ولكن يمنع منعاً باتاً التلاعب بها أو تعديل أي جزء أو عنصر ضمنها"، "كما أنه لا يمكن الاستغناء عن الكاميرا لأن الهواتف وأكثرها تطوراً غير قادرة على تغطية الحروب والأحداث الكبرى، إذ يحتاج المصور إلى عدسات ثاقبة ومتطورة".
نسأله عما يهدد مهنة المصور الصحافي اليوم، فيجيب متأسفاً "المهنة أصبحت مهددة بفعل كثرة الدخلاء، وتحول العمل إلى جهد عابر من أجل البدل المادي، وازدياد عملية استخدام الهاتف في التغطيات السريعة ما يحرم الصورة تميزها".
زمن التحديات الكبرى
لا تقتصر التحديات التي تواجهها مهنة التصوير الصحافي على التسلل المنظم لـتطبيقات "الذكاء الاصطناعي" إلى عالم الإعلام، وإنما تتجاوزها إلى "منافسة غير مشروعة" من قبل "دخلاء على المهنة" وعدم التزام المواقع الإلكترونية بالأخلاق المهنية والقوانين الناظمة للقطاع. وتتكرر الشكوى على لسان "أهل المهنة" لناحية "سرقة" الصور والإنتاج الشخصي للمصورين المحترفين.
ورفعت نقابة المصورين الصحافيين في لبنان الصوت عالياً في وجه الانتهاكات المنظمة.
لبنان وأسلوب "الريبوست"
يعد لبنان فضاءً مفتوحاً للتنبؤ بمستقبل مهنة المصور الصحافي، في ظل الانتشار الواسع للمواقع الإلكترونية التي تنشر الأخبار، وتعتمد أسلوب "الريبوست" أي إعادة نشر مضامين إعلامية قامت مؤسسات أخرى بإنتاجها.
ويلفت نقيب المصورين الصحافيين علي علوش إلى ازدياد الشكوى من استخدام الصور من دون إذن أصحابها أو دفع أي بدل مادي، وانتهاك حقوق الملكية الفكرية والفنية والأدبية.
ويسلط الضوء على وجه آخر للمشكلة، إذ "قامت عدة مواقع بالاستغناء أخيراً عن خدمات مصورين صحافيين، علماً أن البدلات التي تدفعها لهم ضئيلة للغاية، ولا تؤمن له الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي". ويقول "تذرع أحد أصحاب المواقع بأن الصور والفيديوهات المتداولة على التواصل الاجتماعي كافية للإضاءة على الأخبار وللمتابعات، بالتالي ليس في حاجة لإنفاق مبالغ على إنتاجات خاصة".
يصف النقيب علوش تلك التصرفات بالسلوكات الخفيفة والتي لا تمت إلى الحرفية بصلة، وعدم إدراك من قبل المؤسسات لأهمية الصورة المهنية والتحقيقات والأفلام الحصرية. ويدعو المصورين الصحافيين إلى المطالبة بحقوقهم الفكرية وحمايتها من القرصنة، متحدثاً عن تراجع مكانة لبنان الإعلامية، "قد نصل إلى أدنى المراتب"، كما يقول.
ويتحدث علوش عن "فوضى" في قطاع الإعلام داخل لبنان، بانتظار إقرار قانون الإعلام العالق في مجلس النواب منذ أعوام. ناهيك بنزاع الصلاحيات بين نقابة الصحافيين والمجلس الوطني للإعلام حول منح الترخيصات، وبلغ لبنان رقماً قياسياً في المواقع الإخبارية، إذ يفتقر كثير منها لمعايير النشر أو التصوير، لا بل إن بعضها ينظم دورات للتدريب على التصوير والتحرير من دون أدنى خبرة، إذ "تستغل جهل الناس بحقيقتهم".
في مواجهة الذكاء الاصطناعي
يوماً بعد يوم يبهر الذكاء الاصطناعي المستخدمين بقدراته وإمكاناته، وهو ما يشكل تحدياً جديداً لمحترفي المهن الفنية.
من جهته، ينفي النقيب علوش قدرة الذكاء الاصطناعي في الحلول مكان المصور الصحافي، على رغم قدرته في توليف الفيديوهات وتحسين جودة الصور والتركيب، بالتالي فهو يصلح من أجل إنتاج إعلان غير مكلف، ولكنه لن يتمكن من تقديم صورة حقيقية لحدث أمني، أو اجتماع رئاسي، أو جلسة عمل. ويعتقد أن "المصور اللبناني خلاق، ويمتلك كفايات عالية، وهو قادر على تطويع التقنيات لمصلحة المهنة ومصلحته".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مستقبل ملتبس
يعتقد خبراء الإعلام والاتصال السياسي أن "مستقبل المصور الصحافي مرتبط بمستقبل الصحافة الورقية خصوصاً، والإعلام المسمى تقليدي بصورة عامة"، بحسب الدكتورة نهوند القادري عيسى التي تتحدث عن "إسهامات التطورات التكنولوجية والاتصالية المتسارعة في خلخلة الأسس المهنية للعمل الصحافي، وفي اهتزاز المعايير الأخلاقية للعمل الإعلامي. وزاد من ذلك التحالف بين قطاعات السياسة والمال والإعلام".
تعتقد القادري عيسى أنه "بفعل هذه التطورات، غدت العلاقة مع المصادر في عالم الصحافة أكثر التباساً، تراوح ما بين التقصي والتضليل والحفاظ على سر المهنة. وضاعت الحدود بين المعلم والمستعلم، بين المرسل والمتلقي. وأصبحت معالم التراتبية في المؤسسات الإعلامية مبهمة. إضافة إلى تزايد صعوبة الوصول إلى الحقيقة نتيجة لإشكالية ملاءمة عمليات الانتقاء مع ما ينتظره المتلقون"، وتتطرق إلى عنصر الإثارة وازدياد انحرافات الصورة، حتى ولو أن القانون واضح بضرورة التوفيق بين حرية التعبير واحترام الآخر.
وعن تأثير ابتكار الإنترنت على الإعلام بصورة عامة، تقول "حصل تداخل بين الفضاءات، وظهرت صيغ جديدة من تقاسم المعرفة، مما سهل التقارب بين العوالم الخاصة والعامة. وتوسع الفضاء العمومي، مما أتاح ظهور ومشاركة الهواة في دائرة النقاش الديمقراطي"، معتبرة "أنها ثورة مزدوجة، من ناحية توسع الحق في أخذ الكلام في العموم إلى المجتمع بكامله. ومن ناحية ثانية، اندمج جزء من المحادثات الخاصة في الفضاء العمومي"، وتعدد القادري عيسى بعض تأثيرات الإنترنت على العمل الصحافي، فقد "أدى إلى تطوير أساليب الكتابة، وأدوات الفيديو الخفيفة، والركض وراء الإعلام الطازج، والتغطية المباشرة للأحداث، وبحث الهواة عن مصادر للإعلام، مما جعل التقاسم بين الكواليس والمشهد يخسر من وزنه، وبخاصة أن الويب سمح بالوصول إلى الكلام الحميم. وجعلت الحياة الاجتماعية أكثر شفافية على عمل الصحافيين، وسهلت إمكانية عرض بعض مشاهد الكواليس في الضوء وفي الأخبار. كذلك انتفى دور حراس البوابة ولم يعد بإمكانهم إقامة الحدود بين الكلام الخاص والعام، ولم يعد بإمكانهم ممارسة عمليات الانتقاء مسبقاً".
وتضيف القادري أن "المصور الصحافي أصبح عرضة لمنافسة صور يلتقطها شهود عيان وتُبث بطريقة سريعة وآنية. كذلك غدت الصور موضوعاً للتلاعب والتضليل والتركيب والتزييف... هذه الإمكانات اللامتناهية لالتقاط الصور وبثها، وللتلاعب بها تستدعي منا التفكير ملياً بمعنى التصوير الصحافي بما يتناسب والتحولات المتسارعة، بحيث يغدو المصور الصحافي شاهداً على حقيقة ما يجري، يوثق التجارب الإنسانية بعيداً من الخطاب الإخباري المتسرع والسطحي".
وتختم "سمعة المصور الصحافي اليوم يمكن بناؤها على أهلية المصورين أنفسهم والعدة الثقافية التي لديهم، وتصورهم لمعنى عملهم، واستعدادهم لجمع صور تشكل أرشيفاً بصرياً يوثق لمرحلة التحولات الكبرى التي تجتازها مجتمعاتنا، ويؤرشف المعاناة الإنسانية الكبرى على غرار ما يتعرض له الشعب الفلسطيني داخل قطاع غزة، والعمل على جعل هذا الأرشيف متاحاً بأوسع مدى ممكن، بحيث تمكننا هذه الصور من إنتاج تحليل يساعد على إعطاء معنى لما يجري حولنا".
جيل جديد من المصورين
تستهوي مهنة التصوير كثيراً من الجيل الشاب في مسعى للتوثيق وتأريخ حقبة من التاريخ الاجتماعي. يمضي الشاب المراهق عبدالرحمن بياع (17 سنة) وقتاً طويلاً في تنظيف العدسات وترتيبها، والحفاظ على الكاميرات القديمة "القيمة" والعالية الجودة التي يمتلكها والده هشام المصور المحترف، متحدثاً عن اكتشافه لرابطة وجدانية بين الكاميرا والمصور، ولا يمكن أن يجدها الفرد في تعامله مع الهاتف، إذ يلفت إلى أنه "بدأ بالتدريب على التصوير في سن العاشرة، وجاءت جائحة كورونا لتدفعه نحو تنمية مهاراته في هذا العالم.
ينوه عبدالرحمن إلى دور إيجابي لمنصات التواصل الاجتماعي في تطوير قدراته، إذ بدأ بمتابعة فيديوهات لكبار المصورين الصحافيين ومصوري الوثائقيات، إذ كون أساساً معرفياً، ودفعه الفضول لتطبيق النصائح والتعليمات على أرض الواقع والميدان. ويلفت "بدأ بتصوير قطع الحطب من زوايا مختلفة"، مضيفاً "مع التماس التطور بدأت تخصيص وقت إضافي لها، وازداد الشغف بمهنة التصوير، إذ رحت أصور وجوه الناس يميناً ويساراً، ووصولاً إلى النزول للميدان وتوثيق جوانب مختلفة من حياة الناس، ومواقع النجوم، والتفاصيل الدقيقة"، متحدثاً عن "تحدٍ كبير يكمن في رؤية جوانب أخرى ومبدعة في المشاهد الاعتيادية لآخرين، وإثبات بعد النظر والإبداع العقلي".