Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصريون يخلطون الدين بالفن والفنانون على المقصلة

الاتجاه العام في الشارع حالياً يميل صوب السلفية مع عدم وجود توجهات وسطية أو مستنيرة رسمية بديلة لوقف هذا الزحف

مع كل حدث فني كبير أو مهرجان سينمائي يثار جدل الحلال والحرام في مصر (أ ف ب)

ملخص

على مدار الأيام القليلة الماضية، تحديداً على مدار الاستعداد وتدشين وانتهاء فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، الذي يقام في مدينة/ منتجع الجونة الراقي الشهير على ساحل البحر الأحمر، تفجرت ينابيع المحتوى الخالط بين الدين والفن، تحديداً ملابس وتصرفات وكلمات وتصريحات ونظرات وعبرات وفساتين أهل الفن بصورة غير مسبوقة

يكتشف الناس أن فناناً يمشي في الشارع، فتتجمع حوله الجماهير الغفيرة يصورونه ويلتقطون الصور معه ويلقبونه بـ"يا حبيبي" و"يا فنان" و"يا مبدع". وقبل أن ينصرف الفنان، تكون الجماهير قد نشرت صورتها مع الفنان الفلاني على صفحاتها على السوشيال ميديا، أو أرسلوها إلى "ماما" و"بابا" في البيت، ليتابعا إنجازات الابن أو الابنة، أو يرسلونها إلى الأهل والأصدقاء من باب التباهي والتفاخر.

تمر أسابيع، وربما أيام. الشخص نفسه الذي تكبد كثيراً من أجل اختراق الصفوف ليصل إلى الفنان، ويلتقط معه الصورة السلفي التي جعلها "بروفايله" وورق حائطه يتجول في أنحاء السوشيال ميديا، فيجد خبراً شاركه أصدقاؤه عن الفنان نفسه معلناً زواجه أو مشهراً طلاقه أو متحدثاً عن فيلم جديد مذيلاً بآية قرآنية تتوعد المجاهرين بالمعصية، فيندلف سريعاً مضيفاً أشد مفردات اللعن وأقسى عبارات الشجب.

صب اللعنات الثقافية

صب اللعنات "الثقافية" على الفنانين والفنانات، وتوجيه الاتهامات "الأخلاقية" لهم، وإصدار الأحكام المستقاة من دساتير شعبوية وقوانين سنها خطاب "ثقافي" عليهم، ينعته البعض بالرجعية، ويعده آخرون عاكساً لخطاب ديني غير رسمي بالغ التشدد، ينتشر انتشاراً فائق السرعة، فيما يشبه المنظومة أو الظاهرة.

إنها الظاهرة التي يعدها فريق آخر دليلاً على تقوى الناس، وبرهاناً على صحوة دينية طال انتظارها، ونقطة نور إيماني في نفق "علماني" مظلم يختلط فيه الأولاد بالبنات، ويسخر البعض من عودة الكتاتيب، وتخرج النساء من دون إذن الرجال، ويعلو صوت المرأة في الشارع، وتوجه الانتقادات إلى الموظف الذي يترك عمله ليصلي الفرض والسنة، وينظر المجتمع إلى الفنان نظرة إعجاب أو احترام، والأدهى من ذلك اعتباره نموذجاً يحتذى.

في أعقاب كل حدث فني كبير أو مهرجان سينمائي مثير أو عرض فيلم جديد يثير الجدل، أو حتى ظهور فنان، وبالطبع فنانة، في برنامج له قاعدة جماهيرية للتحدث عن مشوار الفن، تتناثر ذرات اللهب من أثير الـ"سوشيال ميديا"، ومنه إلى الشارع والعكس.

لهب التفاعل صار مذهلاً، مربكاً. الجزء الأكبر منه غارق في شرار تغلب عليه مصطلحات "دينية" لا تخلو من خلفيات ثقافية انتقلت من القرية إلى المدينة، أو عاكسة لهجرات اقتصادية غرق أصحابها في فكر شديد المحافظة وورثوه من جيل الأجداد إلى الأبناء ومنهم إلى الأحفاد. والجزء الآخر ملون بألوان اشتراكية بعضها يحمل بقايا فكر ماركسي شديد التشدد أيضاً، لكن في الاتجاه المعاكس.

تدوينات دوارة تسري بين أصحاب التوجهات شديدة اليسارية، لكنها تجد هوى في قلوب وعقول قواعد شعبية أخرى لا يهمها يسار أو يمين. تدور الفكرة حول تحول المناطق المسورة في مصر، من منتجعات وتجمعات سكنية وترفيهية مغلقة على أصحابها، باستثناء العمالة، ومهرجانات فنية لا يحضرها سوى الفنانين والمرتبطين بالدراما والسينما من مخرجين ومنتجين وخبراء شعر وتجميل، إضافة إلى صحافيين وإعلاميين منهم من يعمل في مؤسسات ومنصات إعلامية موثقة، ومنهم مؤثرون ومؤثرات، إلى مستعمرة في داخل الدولة، ويرتدي روادها وأصحابها ما يحلو لهم وما يصدم الواقفين أمام الأسوار، حيث يمنع المستعمرون السكان الأصليين من الدخول والاستمتاع والعيش والترفيه في ذلك المجتمع المغلق، وهو ما يعد احتلالاً واستيطاناً وظلماً للقاعدة العريضة من البسطاء، وجوراً على حقوق غالب المصريين الذين تعيش نسبة منهم تحت خط الفقر.

 

مثل هذه التدوينات الصادرة في معظمها عن أشخاص ذوي انتماءات وأيديولوجيات مفعمة بأفكار تنتمي إلى أقصى يسار الطيف السياسي، حيث المساواة الاجتماعية الكاملة، والاقتصادية الشاملة، ومحو كل التقسيمات الطبقية بغض النظر عمن يعمل ماذا أو من يتميز بماذا، تجد رواجاً وإعجاباً وتشاركاً على أثير السوشيال ميديا في المواسم الفنية من الأقران القابعين في أقصى يمين الطيف.

حين يعيد من اختار أن يكون اسمه "أبو حذيفة المصري" أو "نقابي عفتي" أن يعيد مشاركة تدوينة قادمة من أقصى طيف اليسار، بسبب عبارة واحدة هي "يرتدي روادها وأصحابها ما يحلو لهم وما من شأنه أن يصدم الواقفين أمام الأسوار"، فهذا يعني الكثير.

وعلى رغم أن أصحاب التدوينات ذات الألوان والنكهات والتوجهات اليسارية بينهم من هو علماني، ومن يدق ليلاً نهاراً على ضرورة فصل الدين عن مظاهر الحياة، بل ومن يجاهر برأي "متطرف" قوامه أن الدين هو سبب تأخر المجتمعات، إلا أن "للضرورة أحكاماً".

ضرورة صب اللعنات على من يجاهر بارتداء ملابس لا تطابق المعايير التي تلتزمها القاعدة العريضة، أو يأتي بتصرفات تحيد عن ميثاق السلوك الذي سطره "مشايخ" صنعوا علمهم بأنفسهم، وجعلوه دستوراً شعبياً، أو يتجرأ بعيش حياة لا تطابق مقاييس "الأيزو" التي وضعتها نسخة التدين التي تفجرت في السبعينيات، وأعيد ضخ نسخة منقحة منها أكثر تشدداً في المظهر وأكثر جرأة في التعبير عن نفسها وفرض سطوتها في السنوات القليلة الماضية، تبيح تشارك تدوينات وتغريدات آتية من الواقفين على طرف النقيض. هذه الضرورة لا تمنع أبداً من العودة إلى صب اللعنات على هذا النقيض، لكن بعد انتهاء موسم مهاجمة الخارجين عن ملة التدين الشعبوي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التدين الشعبوي، هذا النمط من التدين الذي لا ينتمي عادة إلى المؤسسات الدينية أو الرسمية، وإن كانت هذه المؤسسات تمنحه أحياناً مباركتها وموافقتها، ويركز على الممارسات الشكلية والمصحوبة في الغالب بطرق تعبير قد تميل إلى العنف المعنوي واللفظي، وتتماهى مع المزاج الشعبي السائد، وتفتئت على مشكلات اقتصادية واجتماعية، ولا تخلو من ميل إلى تقديس رموز دينية أو رجال دين، مع قدر غير قليل من المعتقدات الشعبية التي تتلون بلون الدين، يتفرد بقدرته على السريان والانتشار بسرعة شديدة، لا سيما في الأجواء المأزومة سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، أو كل ما سبق.

يحدث هذا في كل أنحاء العالم التي تعتريها موجات التدين الشعبوي، ولكل ملامحه الخاصة ومعالمه المتفردة.

في مصر، وعلى رغم أفول نجم جماعة الإخوان المسلمين مع خروج قطاعات عريضة من المصريين مطالبة بإنهاء حكمهم عام 2013، فإن موجة عارمة، وإن ساكنة وغير معلنة، من سطوة أفكار محافظة، ينعتها البعض بالرجعية، تنتشر بسرعة ملحوظة في الشارع والفكر المصري. هذا الانتشار يدعمه ويسلط الضوء عليه تحول الشبكة العنكبوتية ومنصات السوشيال ميديا من منتج متاح لأعداد وفئات محدودة من المصريين إلى سلعة استراتيجية وخدمة أساسية وأداة رئيسة في غالب البيوت المصرية.

نحو نصف المصريين (50.7 مليون شخص) يستخدمون منصات السوشيال ميديا، ونحو 96.3 مليون شخص يستخدمون الإنترنت، أي نحو 88 في المئة من المصريين متصلون بالإنترنت، وذلك بحسب أرقام موقع "داتا ريبورتال" البحثي.

هذه الإتاحة الكبيرة، وهذا التمكين المذهل أفاد المصريين كثيراً، وإن ظلت الفائدة لها أوجه أخرى. كما أتاح لهذه الملايين استقاء "العلم" والبحث عن "المعرفة" والتعبير عن الرأي وبناء الشعبية وتشييد المتابعة ونشر الأفكار. ولا يقتصر هذا الاستقاء والبحث والبناء والنشر على نوعية أو تيار أو فئة، لكنه متاح للجميع.

تغيب الأرقام والإحصاءات عن تصنيف نوع المحتوى الذي يثير تفاعلاً أو الموضوعات الأكثر رواجاً وشيوعاً بين المستخدمين في مصر، لكن يمكن القول إن المحتوى ذا الطابع الديني، أو الذي يمزج الدين بالسياسة، والدين بالاقتصاد، والدين بالفقر، والدين بالغلاء، والدين بالثراء، والدين بالحروب، والدين بالفن. وهذا الأخير يصعد نجمه في مواسم الفعاليات والمهرجانات الفنية، وكذلك في أعقاب تصريح أو صورة أو فيديو أو شائعة عن فنان، لا سيما لو كان فنانة.

موسم خلط الدين بالفن

على مدار الأيام القليلة الماضية، تحديداً على مدار الاستعداد وتدشين وانتهاء فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، الذي يقام في مدينة/ منتجع الجونة الراقي الشهير على ساحل البحر الأحمر، تفجرت ينابيع المحتوى الخالط بين الدين والفن، تحديداً ملابس وتصرفات وكلمات وتصريحات ونظرات وعبرات وفساتين أهل الفن بصورة غير مسبوقة.

كم مذهل من النشاط والحراك والتفاعل العنكبوتي شهده الأثير على مدار هذه الأيام. الجانب الأكبر من الحراك تركز على فساتين وملابس الفنانات، ثم تصريحاتهن وتصرفاتهن، ثم تبوأ الرجال المصاحبون لهن المرتبة الثالثة.

موجة عارمة من السب المعتمد على تفسيرات دينية يؤمن بها أصحابها، والشتم بناء على مشاعر دينية يحملها أصحابها، واللعن من منطلق آراء "شرعية" تفوه بها خبراء تنمية بشرية إسلامية أو دعاة جدد أو قدامى يضعون الفن والفنانين، وفي القلب منهم أية عناصر أنثوية، في مرتبة العصاة والفجار يموج بها الأثير العنكبوتي على هامش المهرجان. وعلى رغم انتهاء فعالياته، فإن الموجة لا تزال في أوجها.

وعلى رغم اختلاط التنمر بالفنانات المتقدمات في العمر، بناء على موروث شعبي شرقي، بأن المرأة إذا تقدمت في العمر وجب عليها التزام بيتها، والاستعداد لآخرتها، عكس الرجل الذي يحظى باستحسان وإعجاب كلما تشبث بالحياة، وحبذا لو تزوج من جديد، فإن التنمر هذا العام طغت عليه نبرة دينية شعبوية، يذيل كثير منها بـ"بما لا يخالف شرع الله".

الغريب واللافت أن كثيرين ممن يمعنون في الاستشهاد بآيات من القرآن والأحاديث النبوية ليعضدوا بها مواقفهم الرافضة ظهور الفنانة فلانة وضحك الفنانة علانة وبالطبع كل الفساتين والملابس والأكسسوارات، يفرطون في كتابة عبارات وأوصاف يصل بعضها إلى مرتبة السب والقذف التي يعاقب عليها القانون.

"لحم رخيص" و"بضاعة أتلفها الهوى" و"غانيات" و"عاهرات" و"ساقطات" وقائمة طويلة شملت الجميع، متقدمات وصغيرات في السن. وظهر هذا العام توجه جديد أشبه بـ"محكمة الموضة"، لكن في الاتجاه المعاكس، حيث يقوم الشخص بتكبير صور الفنانات، والإشارة بأسهم إلى مناطق بعينها في الجسم، وإخضاعها لتحليل تشريحي تختلط فيه الشتائم ذات الطابع الجنسي بالمكون الديني في خلطة عجيبة فريدة، مع تذييل المحتوى بعبارات مثل "هدانا الله وإياكم وأمة المسلمين لكل ما يحب ويرضى"، أو "عافانا الله وإياكم مما ابتلى به غيرنا".

 

وتدور الصورة المعدلة المصحوبة بالمحتوى الحائر بين الشتم واللعن من جهة والدعوة والهداية من جهة أخرى في دهاليز السوشيال ميديا، مصحوباً برغبة عارمة في المشاهدة والتمعن في الصور والفيديوهات، ثم الشتم والسب في التعليقات.

وضمن غرائب هذا النوع من الحراك على سبيل المثال، صفحة على "فيسبوك" مخصصة لبيع وشراء شقق في حي المطرية في القاهرة. كتب الأدمن: "هل هذا (مهرجان الجونة) عرض أزياء؟ أم عرض للحم الرخيص؟ هل الغرض من هذه الأفخاذ والصدور تفاخر الأزواج والآباء بما يملكون؟ أم هو عرض وطلب؟ هل دخول نسائنا المحجبات والمنقبات ممنوع في هذه التظاهرة "الفنية"؟ هل العري والرخص شرطاً الدخول؟ هل شعار المهرجان: من الفخذ إلى الصدر؟ أم من الصدر إلى الفخذ؟ ما الذي كسبه المسلمون والمسلمات من مهرجان التعري؟".

وعلى رغم أن كثيرين، من غير الواقعين تحت سطوة التدين الشعبوي والمد السلفي السائد والسائر في الشارع المصري، ينتقدون ما سموه "المبالغة في ارتداء الملابس الكاشفة"، ويطالبون بالمقارنة بين ما يرتديه قطاع عريض من الفنانات المصريات في مثل هذه المهرجانات حيث جرأة زائدة، وأزياء فنانات في الغرب والشرق، حيث قدر معقول من الأناقة من دون إفراط في التعري، فإن المحتوى العنكبوتي الخالط الدين بالفن، وفي قول آخر بين التنمر الديني وأهل الفن، أو شرطة الأخلاق الدينية الشعبية، طاغ وزاعق.

اللافت أيضاً أن البعض من رجال الدين والمشايخ المنتمين إلى المؤسسات الدينية الرسمية باتوا يدخلون على الخط "الشرطي" نفسه. على سبيل المثال، أستاذ الفقه المساعد في جامعة الأزهر "حذر" على صفحته على "فيسبوك" قبل أشهر من تصرفات بعض الفنانين التي قال "إن البعض يراها بذيئة وقبيحة وتسيء لصورة مصر العظيمة وسمعتها". وعلى رغم أنه لم يذكر جرأة الملابس تحديداً، فإنه قال إن "ما يقوم به بعض الفنانين والممثلين من الأفعال البذيئة القبيحة المحرمة على الملأ، نذير شؤم على المجتمع". ودعا "السادة المسؤولين لمحاسبة هؤلاء الناس الذين أضاعوا الشباب والبنات وأساءوا إلى سمعة مصر، ومحاربة مثل هذه الأفكار الهدامة المحرمة، طاعة لله وحفاظاً على هذه البلد وأهله".

يشار إلى أن المجتمع المصري يشهد ظاهرتين متزامنتين وثيقتي الصلة بموجات التنمر الديني الشعبي بالفن والفنانين. الأولى "توبة" بعض الفنانين، وإشهار اعتزال الفن، سواء التمثيل أو الغناء، وذكر كلمة "التوبة" على ملأ السوشيال ميديا، وهو ما يساعد في ترسيخ متلازمة الفن والحرام شعبياً. والثانية هي توجه البعض إلى دار الإفتاء للسؤال عما إذا كان الفن حلالاً أم حراماً، وبين السائلين فنانون! وبالطبع، يتلقف البعض في برامج التوك شو والبودكاست والمحتوى العنكبوتي بصورة عامة الميل الشعبي لمثل هذا النوع من الأسئلة، ويجري البناء عليه وتوسعة قاعدته، وهو ما يرسخ صورة قوامها ارتباط الفن بمخالفة تعاليم الدين.

قوة حاضرة بعيداً

يصعب تخيل مثل هذه الاتجاهات في مجتمع عرف عنه حبه الفطري للفن، وميله التاريخي للفنون، وثراء عقوده السابقة بكل أنواع الفنون وأكبر أسماء الفنانين والفنانات. ويضاف إلى ذلك أن القوة الناعمة المصرية الفنية لا تزال قائمة وحاضرة، لكن قوتها وحضورها خارج مصر أوضح من داخلها.

الكاتب الصحافي عادل نعمان قال لـ"اندبندنت عربية"، إن الاتجاه العام في الشارع المصري حالياً يميل صوب السلفية، مع عدم وجود توجهات وسطية أو مستنيرة رسمية بديلة لوقف هذا الزحف. معتقداً أن توسع قاعدة الخرافات والتطرف وتعليل وتحليل المشكلات في ضوء الغيبيات يعزز هذا الاتجاه، ويجد صدى طيباً ومريحاً بين كثيرين، ويصب في مصلحة سطوة الداعين والمهيمنين على هذا التوجه الديني المتشدد، الذي يصبو في نهاية الأمر إلى الوصول إلى السلطة، لا لنجدة الشعب أو تثقيفه دينياً.

وعلى رغم ذلك، يرى نعمان أن مثل هذا الدق الديني المتشدد الذي يبدو جارفاً وزاعقاً علامة على ضعف هذا التيار، ويقينه أنه يعاني ضعفاً وتهديداً يعرضه للزوال. هذا التهديد، في رأيه، مصدره الرموز والتيارات الليبرالية التي تتحدث بالعقل والمنطق، لا بسلب العقل واغتيال المنطق، وأنه كلما ضغط التيار الليبرالي على المتشددين، زاد عنفهم اللفظي، وبأسهم على أثير السوشيال ميديا.

يقول نعمان، إن "هذا التيار المتشدد الذي يجد آذناً شعبوية صاغية، يعتمد في جزء كبير منه على التشهير وتجريس الآخرين، لا سيما الفنانون والمثقفون والكتاب، ونعتهم بأقبح الاتهامات التي تمس الشرف والعرض. واللافت أنه دائماً تجد لديهم تأصيلاً شرعياً لهذا العدوان. كما أنهم يبرعون في تبرير الشتم والخوض في الأعراض والسب واللعن في ضوء الضرورات تبيح المحظورات، وأن الضرورة هنا هي نشر الدين وحمايته. ويبيح هذا التيار، بل ويشجع على ترهيب الفنانين والفنانات عبر الإساءات اللفظية والاتهامات بالغة القبح، باعتبارها أدوات لعزة الدين والدفاع عنه، على رغم أن الأهداف تظل سياسية في نهاية الأمر".

ويساعدهم ويقوي شوكتهم فيما يقومون به، بحسب ما يرى نعمان، عاملان، الأول سطحية الثقافة بصورة عامة، والثقافة الدينية تحديداً لدى قطاع عريض، إضافة إلى نسب الأمية (الأبجدية) التي تمنع الناس من القراءة والمعرفة المستقلة، لا الانصياع وراء الثقافة الرائجة في الشارع. ويضيف أن قطاعاً من المتعلمين يعاني جهلاً دينياً وضحالة ثقافية تجعله تابعاً أميناً للمتطرفين. والعامل الثاني هو غياب دور الدولة عن التصدي لهذا التيار الآخذ في الانتشار، الذي يتخذ طابعاً شعبوياً عنيفاً مشوهاً للآخرين، ولو كان العنف لفظياً.

هذا التنمر والتحرش المرتدي عباءة دينية محافظة على السوشيال ميديا ومنه إلى الشارع، الذي لا تزال أصداؤه تملأ الأثير لا يلفت انتباه الغالبية، وذلك رغم وجود أصوات وعقول وجهود تبحث في أحوال التدين الشعبوي وأخطاره.

تحت عنوان "خطر الشعبوية الدينية"، كتب مستشار مفتي الديار المصرية (مارس 2025) إبراهيم نجم محذراً من هذه التيار "الذي يهدد الأمن والوئام المجتمعي والاستقرار الديمقراطي في جميع أنحاء العالم"، وذلك "في وقت يواجه فيه العالم اضطرابات غير مسبوقة، تجد المجتمعات نفسها تواجه ليس فقط التحديات المألوفة المتمثلة في عدم الاستقرار الجيوسياسي، والتقلبات الاقتصادية، والأزمات البيئية، بل تواجه أيضاً تهديداً أكثر خطورة الشعبوية الدينية".

ويؤكد نجم أن الشعبوية ليست جديدة، لكن "نسختها الدينية برزت كشكل خبيث للغاية، إذ تتداخل بصورة خطرة بين الإيمان والسياسة، وتستغل التفاني الروحي لأغراض أيديولوجية"، محذراً من أن الشعبوية الدينية، إن تركت من دون رادع، لن تهدد الأصالة الدينية فحسب، بل تهدد أيضاً الأمن العالمي، والوئام المجتمعي، والاستقرار الديمقراطي".

ليس هذا فحسب، بل قال نجم إن "هذا التشويه المتعمد يغذي الإقصاء والانقسام، وفي نهاية المطاف التطرف. ويقوض الدقة الفكرية، والسلطات الدينية التقليدية، ويتلاعب بالتطلعات الروحية الحقيقية، محولاً إياها إلى أسلحة سياسية"، وأن "الشعبويين يستغلون المشاعر الدينية للوصول إلى السلطة، وهو ما يؤجج المظالم، ويعمق الانقسامات الاجتماعية، ويقوض المعايير الديمقراطية"، مشيراً إلى أن رفض التعددية والتنوع من السمات المميزة للشعبوية الدينية.

 

وشرح نجم بحرفية ودقة شديدتين لجوء الشعبويين الدينيين إلى المظالم الاقتصادية والاجتماعية لنشر أيديولوجيتهم، وتأطير قضايا الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي من خلال عدسة أيديولوجية ضيقة، إضافة إلى الاستخدام الممنهج للرموز والمفاهيم الدينية، الذي يشكل سمة خطرة أخرى من سمات الشعبوية الدينية، والاستخدام الانتقائي للروايات التاريخية، وهو ما يغذي الأيديولوجيات المتطرفة، ويعمق انعدام الثقة والعداء بين فئات المجتمع وبعضها بعضاً.

وعلى رغم أهمية ما جاء في المقال، فإنه مكتوب باللغة الإنجليزية، وهو ما يحد من انتشاره على المنصات نفسها التي تعد مرتعاً أو منصة للشعبوية الدينية على الأثير. من جهة أخرى فإن البعض من أتباع هذه الشعبوية لا يعد نفسه متطرفاً أو واقعاً تحت تأثير تيارات متشددة تستخدمه لنشر العنف الفكري والإقصائي، بل يعد نفسه واقفاً على ضفة الوسطية والعقلانية، وذلك في إطار ديني "محمود".

من جهة أخرى فإن الخطاب، وعلى الأرجح الرؤية والفكر والمنهج، الرسمي يعد كل ما يتعلق بـ"الشعبوية الدينية" هي مشكلة آخرين، أو معضلة تتعرض لها مجتمعات أخرى، أو شطط فردي يقع فيه البعض على أقصى تقدير.

وبعيداً من تلميحات متصاعدة من قبل عدد من الكتاب والمثقفين والأكاديميين ممن يعدون المؤسسات الدينية الرسمية للدولة، ومعها الخطاب الديني المعتمد للدولة إما جزء من منظومة التدين الشعبوي الساطع نجمها بصورة مختلفة في الفترة الأخيرة، أو الحاصل على مباركة شبه رسمية، ولو اقتصرت على السكوت على ما يجري من مد متشدد في الشارع، فإن سكوتاً غريباً يكتنف الساحة الرسمية والإعلامية التقليدية حول الكم المذهل من الشتائم واللعنات التي يصبها أفراد ومجموعات على الفنانين في مناسبة موسم "مهرجان الجونة".

ووصل الأمر هذا العام إلى درجة شن موجة ضارية من الهجوم والانتقاد عامرة بأقبح الشتائم والنعوت ذات الطابع الديني على الفنان المصري صبري فواز الذي اصطحب ابنته المراهقة للمهرجان، وانتشرت صورهما بصورة فيروسية على أثير السوشيال ميديا، لتخرج جموع منددة بالممثل الذي لم يكتف بعمله في "الحرام" (على اعتبار أن العمل بالتمثيل من المحرمات)، بل يدفع ابنته نحو الرذيلة!

وانتشرت كلمة "ديوث" في هذه الموجة العارمة، التي استخدمها أفراد وصفحات يغلب على كثير منها صفة الالتزام الديني. وزاد طين الكلمة بلة رسم كاريكاتيري أظهر لرجل "بقرنين" (في إشارة إلى صفة ديوث أي الرجل الذي يرضى بالفاحشة لأهله) وبجواره فتاة ترتدي الملابس التي كانت ترتديها ابنة الممثل. وسرى الرسم سريان الترند في السوشيالي ميديا.

جرى تداول الرسم آلاف المرات، من قبل فريق رأى في تشاركه وسيلة تأديب للممثل وابنته، وآخر من باب المطالبة بمحاسبة الرسام، وإقناع الممثل بمقاضاته ومن شارك الرسم، واستخدام صفة "الديوث" الطاعنة في السمعة والشرف.

هالة من الصمت الرسمي

اللافت أن هالة من الصمت الرسمي، والحرص الإعلامي، والسكون النقابي تحيط بما يجري. صمت رسمي لا يشجب أو يندد أو يؤيد أو يثمن الهجمة "الملتزمة" على الفن والفنانين. حرص إعلامي حيث غياب شبه تام عن عرض ما يجري، كما هي العادة ضمن فقرة الأخبار التي يعتمد كثير منها على ما تنضح به السوشيال ميديا، أو كموضوع للنقاش بين مؤيد لجلد الفنانين من قبل "الملتزمين" ورافض للفكرة، أو حتى تناول ما يجري عبر مقال رأي أو تحليل موقف. أما السكون النقابي، حيث نقابة المهن التمثيلية، الذي يشمل "حماية حقوق أعضائها، والدفاع عن كرامتهم".

الأصوات الوحيدة المجاهرة برفض ما يتعرض له الفنانون والفنانات من تنمر وعنف لفظي وسب وشتم ولعن تظهر بين الحين والآخر على أثير السوشيال ميديا أيضاً، وغالباً يلقى أصحابه "من الشتم واللعن جانباً" باعتبار دفاعهم هو دفاع عن الفجر والفسق والدياثة!

يشار إلى أن نقيب المهن التمثيلية الفنان أشرف زكي نفسه تعرض وزوجته الفنانة روجينا وابنتهما لتوليفة التنمر والإساءة "الملتزمة" ذاتها، وذلك إثر انتشار صورهما في المهرجان!

المقال الذي كتبه الطبيب والكاتب خالد منتصر عام 2021 تحت عنوان "لماذا يكره المتطرفون الفنانين؟ (2021) يظل ساري المفعول". كتب، "تتحول السوشيال ميديا أحياناً من ضرورة تعبير صحي إلى ماسورة صرف صحي، بخاصة عندما يتعلق الأمر بالكلام مع أو عن فنان أو فنانة. شباب صاحب مزاج متعصب ومتطرف وفاشي يدخل على حسابات وصفحات الفنانين، شتائم وسفالات وألفاظ وضيعة وعبارات حقيرة وتعليقات سخيفة، لزوجة ونطاعة وغلاسة وثقل ظل لا حدود لها، وللأسف كلهم متعلمون، بل ومؤهلات عليا".

ورأى منتصر أن ما وصفه بـ"كراهية هؤلاء المتطرفين المتزمتين المتشددين للفن" ناتج من وهم يتملكهم قوامه أن لمعان الفن ونجاحه هو خصم من الدين، وأن الفنان يسحب البساط من رجل الدين، وأن الفن والدين يتنافسان على حلبة الوجدان والروح، وهو ما "يتسبب في فزع تجار الدين من أن يحتل الفن تلك المساحة ويطردهم منها".

 

وبينما تغيب الرؤى التحليلية لما يجري في الشارع وعلى الأثير من حراك "ثقافي"، وذلك بعيداً من تأييد موجة "الالتزام" السارية أو انتقادها، تغيب كذلك الدراسات والبحوث الحديثة التي تدرس وتشرح مفهوم التدين الشعبي أو الشعبوي في مصر، والتي تؤثر وتتأثر بالأوضاع الاقتصادية والسياسية والتعليمية والاجتماعية، وتصب مباشرة في سب الفنانين ولعن الفساتين.

المتخصص في علم الاجتماع عبدالله شلبي له عديد من المؤلفات عن التدين الشعبي، بينها كتاب عنوانه "التدين الشعبي لفقراء الحضر: بحث في آليات المصالحة والقبول والرضا والتحايل". يتطرق شلبي إلى غياب وعزوف البحث العلمي ودراسة ظاهرة التدين الشعبي في مصر بكل تجسيداتها المؤسسية والحركية، وتفاعلاتها.

ويفسر ذلك بأن "المجتمع المصري، شأن غيره من المجتمعات العربية، لا يزال يحيط نفسه بكثير من الممنوعات والمحرمات، بخاصة تلك المرتبطة بالدين والسياسة والجنس"، و"أن المصريين يصيرون أشد حساسية تجاه الدين نظراً إلى كونه يمثل لديهم بؤرة كل القيم الحاكمة والضابطة والموجهة حتى في سياقات السياسة والجنس، بل والحياة العامة برمتها". مضيفاً أن "العلم ظل لسنوات طوال راضياً أو مكرهاً قانعاً بهذه الوضعية، ومؤثراً سلامة العزوف والابتعاد على كلفة الجرأة والجسارة والإقدام، وتبعات الالتزام الوطني والاجتماعي".

يقصر شلبي تفسيره لظاهرة التدين الشعبي في مصر في هذا الكتاب على "فقراء الحضر". ويرى أن "هذا النوع من التدين يوفر للفقراء كل العون والسلوى والمواساة والمصالحة مع واقعهم البائس، وهو ما يجعلهم قادرين على تحمل خيبة الأمل أو الإحباط والأسى واليأس من القيم والأهداف الدنيوية التي حرموا منها".

نشر كتاب "التدين الشعبي لفقراء الحضر" عام 2008. ويمكن القول إن مفهوم التدين "الشعبوي" المائل إلى الغلظة، والذي يبيح استخدام العنف اللفظي كأداة دعوية لهداية "غير المتدينين"، شهد تغيرات عدة في السنوات التالية، منها على سبيل المثال توسعه بين قاعدة أكبر تشمل جوانب من الطبقتين المتوسطة والعليا.

التخلص من عقيدة التقدم

الباحث في علم الاجتماع الديني عماد عبدالحافظ أشار في ورقة عنوانها "الفكر السلفي وأثره في العقل المصري" (2025) إلى نجاح التيارات السلفية في الحضور بقوة في المجتمع المصري، وهو ما ظهر واضحاً في أعقاب أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، ولم يكن انتشاراً نخبوياً فحسب، بل طال كل الفئات.

ويشير إلى النزعة الماضوية التي تسيطر على أجيال نشأت في ظل "الصحوة الإسلامية" وتأثيراتها، وهذا يظهر بوضوح في كتابات ونشاط المنتمين لهذه التيارات على صفحاتهم على السوشيال ميديا، التي تتعامل مع الدين الإسلامي باعتباره "ديناً أصولياً بطبيعته"، وأن الطريق الوحيد المتاح للتدين هو العودة إلى الماضي شكلاً وموضوعاً، والتخلص من عقيدة التقدم التي تحول دون العودة إلى الماضي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وإضافة إلى سمات أخرى يرصدها الباحث مثل ضعف الانتماء للوطن، وتفضيل الانتماء لفصيل أو تيار أو حتى دولة تدعم الاتجاه السلفي، ولو كان ذلك على حساب الوطن، يرصد عبدالحافظ النظرة المتدنية للمرأة "من باب التكريم". فالمرأة، بحكم كونها أصل الشرور ومصدر الغواية والمعصية، يجب إخفاؤها، وهو الخطاب الذي يستمد قوته، بحسب الباحث، من أقوال فقهاء تأثروا ببيئات مختلفة، وتحولت في ما بعد إلى "نصوص مقدسة".

ويرصد الباحث عدداً من أبرز "آراء" وأقاويل هؤلاء الفقهاء، التي تدور حول المرأة والصداع الذي تسببه، ويعدها أبناء هذا التيار تعليمات دينية، مثل "لا ينازع أحد في تفضيل الله الرجل على المرأة في نظام الفكرة إلا جاهل أو كافر"، وأن "حظها (المرأة) من العقل الذي لم تبلغ به مبلغ الرجل فصل على قدر ما تفهم به نفسها وواجبها ووظائفها في الحياة"، إضافة إلى الربط الأصيل بين ملابس المرأة وانتشار الرذائل في المجتمع، "ويكفي إنها وسيلة لتفريغ شهوة الرجل"، كما أن "المرأة التي تبالغ في زينتها إنما تفعل ذلك إلحاحاً في عرض نفسها على الرجل".

يشار إلى أن مقاطع فيديو لأحد أبرز "مشايخ" السلفية الراحل أبو إسحاق الحويني الذي وجه فيه رسالة إلى "الفنانين والمغنيين والرقاصين" يحذرهم من أن "سيئاتهم المتمثلة في التمثيل والغناء والرقص تظل سيئات جارية حتى بعد موتهم"، ينتشر على هامش "مهرجان الجونة"، وذلك من قبل مستخدمين عاديين يعدون ذلك وسيلة دعوية إرشادية لطيفة.

حملات "الشرطة الدينية" الشعبية الموجهة ضد الفنانين والفنانات وملابسهم (بما في ذلك شورت الرجال) لا يمكن وصفها كلها بأنها تجري بتوجيه أو تحت مظلة مشايخ أو دعاة أو خبراء التنمية البشرية الإسلامية، لكن جزءاً معتبراً منها نتاج سنوات من نشر نسخة متشددة من التدين في المدارس ومحتوى السوشيال ميديا وقنوات تلفزيونية ونصائح تسدى وفتاوى تصدر من تحت المنبر، إضافة إلى "متأثرين" بالأجواء المتشددة، ولدوا في رحابها، ونشأوا في كنفها، وعاشوا في براحها المغلق الآخذ في التمدد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات