ملخص
هل يشهد العالم ارتداداً نحو الإقليمية والتكتلات الاقتصادية المحلية، أم أن العولمة تعيد تشكيل نفسها في صيغة أكثر حذراً وأقل انفتاحاً، توازن بين التكامل العالمي وحماية المصالح الوطنية؟ وما قدرة المؤسسات الدولية على ضبط قواعد اللعبة في ظل توجه بعض القوى الكبرى نحو سياسات حمائية وتنافسية مباشرة؟
بعد عقود من الاندماج الاقتصادي والانفتاح التجاري منذ التسعينيات، دخلت العولمة مرحلة من أكبر اضطراباتها. وبعد أن كانت تقدم سابقاً كمسار لا عودة عنه نحو تكامل الأسواق وتحرير التجارة، قلبت صدمات متتالية المعادلة، وأجبرت صانعي السياسات والمحللين على إعادة تقييم الانفتاح المفرط.
ظهرت أولى شروخ العولمة التقليدية مع الأزمة المالية العالمية التي تفاقمت عام 2008، وتعمقت بعد بريكست 2016 الذي أعاد تعريف العلاقة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي. وسلطت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين الضوء على هشاشة الاعتماد المتبادل بين الاقتصادات الكبرى، قبل أن تأتي جائحة كورونا، لتعيد ترتيب أولويات سلاسل التوريد العالمية.
يطرح اقتصاديون ومحللون تساؤلات فرضت نفسها: هل يشهد العالم ارتداداً نحو الإقليمية والتكتلات الاقتصادية المحلية، أم أن العولمة تعيد تشكيل نفسها في صيغة أكثر حذراً وأقل انفتاحاً، توازن بين التكامل العالمي وحماية المصالح الوطنية؟ كذلك يتساءل الخبراء عن قدرة المؤسسات الدولية على ضبط قواعد اللعبة في ظل توجه بعض القوى الكبرى نحو سياسات حمائية وتنافسية مباشرة.
صدمات متلاحقة
في ظل الجدل حول نهاية العولمة بمفهومها التقليدي، يؤكد وزير الاستثمار والتجارة الخارجية المصري حسن الخطيب أن العقود الأربعة الأخيرة شهدت مرحلة اتسمت بالعولمة والانفتاح الاقتصادي العالمي، إلا أن هذا المسار بدأ يتغير منذ عام 2008 مع عودة الإجراءات الحمائية وتركيز سياسات الدول على حماية حدودها ومصالحها الوطنية. مشيراً إلى أن هذا التحول أصبح واضحاً خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي شهدت بداية الابتعاد عن النهج العالمي الذي ساد عقوداً.
ويلفت الخطيب، في حديث تلفزيوني، إلى أن مرحلة الانفتاح الاقتصادي أصبحت جزءاً من الماضي، إذ تتجه العلاقات الدولية نحو تكوين تكتلات اقتصادية جديدة وشراكات ثنائية وتركيبات مختلفة، في ظل تنافس واضح بين الغرب والصين. ويعتقد أن المستقبل ستحسمه السيطرة على التكنولوجيا والعلوم والذكاء الاصطناعي. مشيراً إلى أن الصين بنت قدرة إنتاجية كبيرة، بينما تتجه الدول الغربية إلى فرض قيود على التجارة ونقل الصناعات إلى مواقع أقرب، بخاصة بعد تجربة جائحة كورونا.
ما يقوله الخطيب يتفق معه أستاذ مساعد العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بالقاهرة عمرو عادلي، الذي أوضح لـ"اندبندنت عربية" أن حركة التجارة والاستثمار المباشر لم تستعد نشاطها منذ عام 2008، وربما تحسنت جزئياً بعد عام 2016، قبل أن تتعرض لانتكاسة جديدة خلال جائحة كورونا. مشيراً إلى أن معدلات نمو التجارة العالمية لا تزال أقل بكثير من مستوياتها قبل الأزمة المالية العالمية.
وفق عادلي، إخضاع العلاقات التجارية والاستثمارية للاعتبارات السياسية يهدد الأساس الذي قامت عليه العولمة الاقتصادية، المرتبطة تاريخياً بالهيمنة الأميركية التي تشهد اليوم تراجعاً ملحوظاً. واصفاً المشهد الحالي بأنه حالة من "تشظي العولمة"، حيث يتجه العالم نحو تكتلات اقتصادية وإقليمية تتبادل التجارة في ما بينها، ما يشير إلى نهاية النموذج التقليدي القائم على الإنتاج الآسيوي والاستهلاك الأميركي والتكامل الأوروبي.
ويشير إلى أن التبادل التجاري بين آسيا والولايات المتحدة يتراجع بشكل ملحوظ، نتيجة سعي الصين إلى تعزيز نفوذها من خلال بناء تكتل يضم الاقتصادات الآسيوية الكبرى. وعلى رغم تخوف بعض دول آسيا من تنامي الدور الصيني، فإنها تظل معتمدة عليه شريكاً تجارياً رئيساً. متوقعاً أن يتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي نحو آسيا خلال العقود المقبلة، مقابل تراجع تدريجي في الدورين الأوروبي والأميركي.
تكتلات اقتصادية جديدة
يعود أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة حسن نافعة إلى أصل هذا التحول، ويقول لـ"اندبندنت عربية" إن الولايات المتحدة، بصفتها القوة الأكبر في النظام الدولي، سعت إلى فرض العولمة بما يخدم مصالحها، لتظل صاحبة القرار في توزيع مكاسبها وتوجيه مسارها بما يضمن استمرار تفوقها. لكنها أدركت أن العولمة أفادت دولاً أخرى أكثر منها، بعد تقدمها علمياً وتكنولوجياً، حتى أصبحت قادرة على منافستها في بعض المجالات.
هذا التحول، وفق نافعة، أثار قلق واشنطن، ما أدى إلى صعود التيار اليميني، الذي رفع شعار "أميركا أولاً"، وفسّر ذلك انتخاب دونالد ترمب في ولايته الأولى، وعودته لاحقاً إلى الحكم، نتيجة تنامي تيار داخلي يطالب بحماية البضائع الأميركية، ومنع انتقال الصناعات إلى الخارج في ظل ارتفاع معدلات البطالة.
ويضيف نافعة، "بدأت مكانة الولايات المتحدة في النظام الدولي تتراجع على رغم استمرارها كقوة أولى عالمياً، وفي ظني ستتراجع هذه الهيمنة تدريجاً خلال السنوات المقبلة، ما يدفعها إلى محاولة تعديل قواعد النظام الدولي، للحفاظ على موقعها القيادي".
وعلى رغم الأزمات التي ترافق العولمة، شدد أستاذ العلوم السياسية على أنها أصبحت واقعاً لا يمكن تجاهله، مدفوعة بتطور تكنولوجي متسارع لا يمكن لأي دولة إيقافه أو الانعزال عنه. مضيفاً أن كل دولة ستكون مطالبة بتحديد مدى استفادتها من العولمة، واتخاذ سياسات حماية اقتصادية إذا اقتضت مصلحتها، وقدرة المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية على فرض قواعدها في ظل توجه الولايات المتحدة نحو سياسات حمائية تقلل من تأثيرها.
جوهر المشكلة لا يكمن في العولمة ذاتها، بل في طبيعة النظام الدولي، بحسب نافعة وما إذا كانت الولايات المتحدة ستقبل بنظام متعدد الأقطاب أم ستسعى للحفاظ على هيمنتها منفردة. وأوضح أن الدول تتحرك دائماً وفق مصالحها، وإذا وجدت فائدة في تحالفات خارج نطاق الدولار، فستتبناها. مشيراً إلى أن مجموعة "بريكس" تحاول مقاومة الهيمنة الأميركية عبر أدوات اقتصادية بديلة.
واختتم بالقول إن التحدي الأساسي يكمن في توزيع مكاسب العولمة، إذ تسعى كل دولة إلى نصيبها من دون أن تتحوّل العولمة إلى وسيلة لإثراء بعض الدول وإفقار أخرى. ومن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة تكتلات اقتصادية إقليمية جديدة وتحديات للهيمنة الأميركية، بينما تبقى العولمة قوة لا يمكن إيقافها، وستظل عملية التحرك نحو نظام دولي أكثر عدالة في توزيع فوائد العولمة.
تتبع الصحافي الاقتصادي المخضرم ديفيد لينش أكثر من ثلاثة عقود من التاريخ الاقتصادي، في كتابه "أسوأ رهان في العالم: كيف فشلت مقامرة العولمة"، موضحاً كيف بدأت العولمة حلماً مثالياً بعد الحرب الباردة، لتتحول إلى كابوس اقتصادي في الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية. يُشير إلى أن صعود الصين وانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، مروراً بأزمة 2008 المالية، وصولاً إلى الجائحة والحروب الحديثة، وتعطل سلاسل الإمداد، والتحولات الجذرية في السياسات الأميركية، التي اعتبرها كلها عوامل أسهمت في هذا التحول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشير لينش إلى أن مسار العولمة تعرّض لتصدع حاد نتيجة تراكم أزمات متشابكة، بدأت بـ"صدمة الصين"، الانفجار المفاجئ للصادرات منخفضة التكلفة قبل ربع قرن، الذي دمّر مجتمعات عاملة بأكملها، مروراً بالضغط المستمر على الشركات، لتعظيم الأرباح والكفاءة، وما صاحبه من هشاشة متنامية في سلاسل التوريد العالمية. وتصاعدت الأزمة مع زيادة الطابع المالي للاقتصاد، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية في 2008، تلتها جائحة كورونا، وأخيراً الحروب المتفرقة، خصوصاً في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط. في ضوء هذه التراكمات، بدا ضياع العولمة أمراً شبه محتوم.
كذلك، ألمح رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر إلى انتهاء عصر العولمة واستعداده لحماية الصناعة المحلية، حيث رأى في مقال بصحيفة "ذا تليغراف" أن مرحلة جديدة بدأت لم تعد تقتصر على قضايا الدفاع والأمن القومي، بل تمتد إلى الاقتصاد العالمي والتجارة. موضحاً أن "الافتراضات القديمة لم تعد صالحة". مضيفاً أن العالم الذي كنا نعرفه انتهى، وعلينا أن ننهض لمواجهة هذه اللحظة. وأكد ستارمر استعداده لاستخدام السياسة الصناعية لحماية الشركات البريطانية من التحديات الاقتصادية المقبلة.
ترمب يجهز على عصر العولمة
وبحسب تقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية بعنوان "تهدف رسوم ترمب الجمركية إلى إسدال الستار على عصر العولمة"، فإن أكبر موجة من الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأميركي دونالد ترمب حتى الآن تحمل رسالة واضحة للشركات الأميركية والأجنبية، مفادها أن "عصر العولمة انتهى".
ويشير التقرير إلى أن خطة ترمب المسماة "يوم التحرير" لفرض رسوم جمركية شاملة على واردات بقيمة تريليونات الدولارات تظهر رغبة البيت الأبيض في جعل السلع الموجهة للمستهلك الأميركي تُصنع داخل المصانع الأميركية، في خطوة تهدف إلى إنهاء دعم واشنطن للعولمة المتسارعة التي غذت الاقتصاد العالمي عقوداً.
ونقلت الصحيفة عن ترمب قوله خلال مراسم في حديقة الورود بالبيت الأبيض: "الوظائف والمصانع ستعود بقوة إلى بلادنا، وأنتم تشاهدون ذلك يحدث بالفعل". وأضاف موجهاً حديثه إلى الدول والشركات التي تعترض، "إذا أردتم أن تكون نسبة رسومكم الجمركية صفراً، فعليكم أن تبنوا منتجاتكم هنا في أميركا".
ووفق أندريه سابير، المسؤول السابق في الاتحاد الأوروبي وأستاذ الاقتصاد في جامعة بروكسل الحرة، "كانت الولايات المتحدة مركز العولمة، أما الآن فالمركز يريد الانسحاب".
ومع وصول إدارة ترمب، تبنت الولايات المتحدة، القوة الرائدة في العولمة التقليدية، سياسات حمائية تجاه الصين، تضمنت فرض رسوم جمركية على وارداتها، وإعادة التفاوض على بعض الاتفاقيات التجارية، وفرض قيود على نقل التكنولوجيا، ضمن محاولات لموازنة الميزان التجاري وحماية الصناعات المحلية.
وفي تدوينة للرئيسة التنفيذية لمجموعة "سيتي غروب" جين فريزر، قالت إن الرسوم الجمركية الجديدة بدأت بالفعل في إعادة تشكيل الاقتصاد العالمي، محذرة من أن العالم يتجه نحو مرحلة تحكمها المصالح الذاتية أكثر من التعاون الدولي.
وأوضحت فريزر أن التحركات الأخيرة في الأسواق المالية تشير إلى أن المستثمرين بدأوا يعيدون تقييم ثقتهم في استقرار الدولار الأميركي، وأن عدداً من الرؤساء التنفيذيين يؤجلون قراراتهم الاستثمارية الكبرى استعداداً لتداعيات الرسوم. وأضافت أن "الرسوم بنسبة 10 في المئة يمكن استيعابها، لكن إذا وصلت إلى 25 في المئة أو أكثر، فستجبر الشركات على تغييرات استراتيجية كبيرة".
بينما لا يزال أستاذ الاقتصاد السياسي رشاد عبده متمسكاً برؤية ترى أن العولمة لم تنته. وأوضح لـ"اندبندنت عربية" أن العولمة تمثل سيطرة الأقوى، والولايات المتحدة لا تزال القوة المهيمنة على العالم، وما نراه اليوم ليس نهاية العولمة، بل تحول في مفهومها وفق الظروف العالمية المتغيرة.
وأضاف عبده أن العولمة تتكيف مع هذه الظروف، لكن القوى الكبرى ما زالت تفرض نفوذها وهيمنتها. واستشهد بترمب، قائلاً إنه مثال على هذه القوة والسيطرة، وإنه من الصعب أن يقف أي طرف في مواجهة هذا النفوذ.
وتقول شيرين الشواربي، الخبيرة الاقتصادية السابقة بالبنك الدولي، إن السنوات الأخيرة شهدت صدمات سياسية واقتصادية متلاحقة بوتيرة سريعة، والعالم يتجه نحو سياسات انغلاقية لأسباب سياسية وتجارية، في مقابل دول أخرى تواصل الانفتاح. وأوضحت أن المشهد العالمي يتجه نحو قيام تكتلات اقتصادية جديدة، ليست بالضرورة على أسس جغرافية تقليدية.
وأضافت الشواربي، لـ"اندبندنت عربية"، أن التوترات والتباينات وردود الأفعال ستكون كبيرة، والعالم أمام مرحلة مختلفة من النظام الاقتصادي الدولي. مرجحة أن تبحث الدول عن مصالحها أولاً، وأن يتشكّل نمط جديد من العولمة يتكيف مع التحولات الحالية، وقد نشهد تحالفات اقتصادية صغيرة وأخرى واسعة النطاق، غير أن ملامح هذا الشكل الجديد لم تتضح بعد.