Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلياس كانيتي يتطرق إلى معان فلسفية في الأدب المعاصر

"ضمير الكلام" كتاب يجمع مقالات عن الأدب المتعدد الحقول

الكاتب إلياس كانيتي (صفحة الكاتب - فيسبوك)

ملخص

يبسط الباحث والمفكّر إلياس كانيتّي بعضاً من رؤيته الإنسانية، ومن نقده أعمالاً أدبية حديثة ومعاصرة وذات دلالة ساطعة على زمنها في كتابه الصادر حديثاً بعنوان "ضمير الكلام"، بترجمة كاميران حوج (منشورات رامينا 2025).

يُعرف عن الكاتب والأديب المفكر البلغاري الذي يكتب بالألمانية إلياس كانيتّي (1905-1994) الحائز جائزة نوبل للآداب عن مجمل أعماله، أن له أعمالاً قليلة نسبياً، بالمقارنة مع غيره من الأدباء، لكنها تتمتع بقدر عالٍ من التركيز والإطلالة على نواحٍ إنسانية وفلسفية غفلت عنها العلوم الإنسانية، ولئن تركزت بعض أعماله البحثية على دراسة الحشد والسلطة، في ضوء النظريات الأنثروبولوجية والاجتماعية والتاريخية، فإن نفاذ رؤيته إلى المسائل المطروحة في الأدب والاجتماع وحوادث الماضي الكبرى، ومقاربته المتعددة الميادين كانا كفيلين بفتح آفاق المستقبل على وسعها أمام الأجيال الصاعدة، في أوروبا النافضة عنها غبار الحربين العالميتين، وما نتج عنهما من دمار هائل وموت لم يسبق أن حصل في التاريخ.

أما الكتاب، (380 صفحة)، فينطوي على 15 مقالة، تتفاوت كبراً وتوسّعاً، بحيث تبلغ مقالته عن مراسلات فرانز كافكا مع خطيبته فليتسا 121 صفحة، في حين تقتصر أقصرها (كونفوشيوس في حواراته) على ثماني صفحات (269-277) فقط.

تسمية "ضمير الكلام"

بالعودة إلى عنوان الكتاب، الذي كان بالألمانية "ضمير الكلمات"، ارتأى المترجم أن يبدل بـ"الكلمات" "الكلام"، باعتبار اللفظة الأخيرة حمّالة الدلالات، وليس الكلمات المفردة، وإن انطوت على دلالات معجمية في ذاتها، ولكن الكاتب كان قد أصدره بعنوانين مختلفين، آخرين: "الجماهير والسلطة"، وهي أطروحته التي عُرف بها، وعالجها في بعض مقالات الكتاب، مثلما عُرف الكتاب بعنوان "المسرنمون"، وبناء عليه، يُعتبر العنوان الأخير (ضمير الكلام) دالاً على مجمل انشغالات الكاتب الباحث، والأديب كانيتي.

يستهل الكاتب كانيتي كتابه بمقال، أو كلمة نشرها، لمناسبة ميلاد هرمان بروخ (1886-1951) الـ50، ولا سيما ثلاثيته الروائية "المسرنمون" وفيها يبسط (بروخ) نظريته في نقد الروح الجماعية التي أيقظتها كل من الشيوعية والنازية في أوروبا، وينبه إلى مسؤولية هاتين الحركتين الجماهيريتين، إضافة إلى مسؤولية الأنظمة الديمقراطية، عن تخدير الشعوب لتخوض حروباً لا تبقي ولا تذر، ومن دون أن يرفّ لها جفن. وبهذا يُدرج المفكر كانيتي خطه الفكري في السياق نفسه الذي اختطّه بروخ، ومن قبله روبير موزيل، صاحب رواية "الإنسان من دون صفات"، والداعي إلى فضح الاتجاه التوتاليتاري في كلتا الأيديولوجيتين، الشيوعية والنازية، والتركيز بالمقابل على فردية الإنسان، وقيم الديمقراطية الحقّة، والعلمانية الإنسانوية، وغيرها.

في المقالة الأولى هذه، المخصصة للأديب هرمان بروخ، استخلص كانيتي أموراً عدة من تأمله في شعر بروخ ونثره، ومن تلك الأمور أن ما يميز الشاعر مجونه، أي خروجه عن المألوف ودنوّه من الجنون، وأن الشاعر إما أن يكون أصيلاً أو لا يكون شاعراً، وأن انشغال بروخ بالقيَم، ودراسته النظام القيَمي في أوروبا، أفضيا به إلى خلاصة مفادها أن انهيار القيم بدأ في عصر النهضة، لذا لم يعد لصفة العالمية التي نُسبت إلى الثورة الفرنسية أي صدقية تذكر، والدليل على ذلك تنكّر الأنظمة الغربية لمبادىْ الديمقراطية، وخوضها الحرب العالمية الأولى التي شكلت نهاية رهيبة لعصر النهضة، وسقوطاً مدوّياً لنظام القيَم فيها، وبناء عليه، بات بروخ على يقين من أن إنسان عالمنا الحاضر لن يستفظع إعلاناً لاندلاع حرب عالمية، في حين أن إنسان القرون الوسطى كان يستفظع إعلان حرق رجل واحد، بدعوى الكفر، أو التآمر على السلطة.

العنف لأجل السلطة

وفي المقالة الثانية بسط كانيتي أطروحته التي مفادها أن ثمة علاقة تفاعلية بين السلطة وحكامها أو الحاكم المتولي زمامها وحده، وبين الجموع والأفراد، أما الفرادة في مقولته فتكمن في أن الحاكم، باعتباره ناجياً من الموت، لا يرى ضيراً في استخدام القوة المفرطة في وجه كل من يهدد حياته، مجرد بقائه، ويذهب كانيتي بعيداً في فلسفته القائمة على فكرة "النجاة"، فيعتبر أن الإنسان، في بنية سلوكه الأولى، البعيدة الغور في القِدَم، يميل إلى قتل الآخر ليجني من قتله بطولة مفترضة. ولنا مثال على ذلك بعض القبائل في جزر الماركيز، حيث يتاح لكل فرد من القبيلة أن يصير زعيم المحاربين بفضل تفوّقه على أنداده بقتله أعداداً من "الأعداء" المفترضين من قبَله، فيحوز المانا الخاصة بكل من هؤلاء القتلى، ويبلغ بشجاعته مكانة عليا في قبيلته، لا يدانيه فيها أحد، وبهذا يصير العنف المفضي إلى القتل، وسيلة طبيعية ليحقق الإنسان غاية السلطة، وينجو بنفسه من دوامة العنف التي لا خلاص منها.

 ومن هذا القبيل أيضاً وجد كانيتي أن "الطاغية الحقيقي هو ذاك الذي يريد أن يبقى حياً على رميم الآخرين"، حتى أن أحدهم، إذا ما بلغ به نزوع التفرد بالسلطة حده الأقصى، امتنع عن إنجاب الأبناء، مجنّباً إياهم المصير الأسود حال انقلاب الأحوال السياسية لغير صالحه، لعلمه أن أنظمة الحكم الوراثية غالباً ما يحكمها قتل الأقرباء شر قتلة، واغتيال الأنسباء الخلّص، والأمثلة من تاريخ الإمبراطوريات والممالك تكاد لا تُحصى، كما توفر له أحاديّته في الحكم، تحقيق ديمومته في سدة الرئاسة وإشباع غريزته في التسلط على غيره.

كارل كراوس وكافكا

وفي المقالتين الرابعة والسادسة من الكتاب، يعرج الكاتب كانيتي على فيلسوف وأديب عزيزين عليه، وصاحبيْ الفضل والأثر في تكوين عدته الفكرية، وتدعيم آرائه في كثير من المسائل الراهنة، مثل إعلاء الصوت في كراهة الحروب والداعين إليها، ومسألة حرية الأديب واستحالة انضوائه في سلك العائلة ورابطة الزواج، إذاً يبسط الكاتب تصوّره لمآثر الأديب كارل كراوس (1874-1936) المتعدد في إبداعه، شعراً ومسرحاً ورواية ونقداً، والصارخ في برّية أوروبا لما بين الحربين العالميتين، وصاحب العمل الدرامي الهائل، المسمّى "آخر أيام البشرية" الذي يتألف من 99 مشهداً مسرحياً ومئات الشخصيات، وحيث تتعارض طبقتان، بل حساسيتان لمدينتي بون وفيينا وما تمثلان من رقيّ فكري وفني (فيينا) في مقابل نزعة مادية أرستقراطية، تسعى إلى استغلال جهود الطبقة العمالية وإن يكن عبر مزيد من الصراعات والحروب، ولعل "آخر أيام البشرية" برأي كانيتي كان أعظم عمل يندد فيه أديب بحرب عالمية أخرى، ويثير فيه الهلع مما سوف يكون من فظائع هذه الحرب التي تقشعر لها الأبدان، لمنظر "مشوهي الحرب، بجوار المتكسّبين منها، والجندي الأعمى بجوار الضابط الذي يأمره بأداء التحية، ووجه المشنوق النبيل تحت وجه الجلاد الشنيع".

وثمة أمر يدين فيه كانيتي لكراوس، وهو اعتراضه على النزعة الصهيونية – وهو اليهودي المنبت واليساري الهوى - التي كانت آخذة بالتنامي، في حينه، بين صفوف البورجوازية اليهودية، والمتعاونة مع الاتجاه القومي المعادي للسامية، الذي اتضحت لاحقاً صوابيته، على وقع صعود النازية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما كافكا (1883-1924)، هذا التشيكي والنمسوي، وسليل الحساسية الفييناوية، فقد أفرد له الكاتب مقالة، بل بحثاً مستفيضاً بلغ 120 صفحة، عنونها على هذا النحو (المحاكمة الأخرى- رسائل كافكا إلى فيليتسه)، وفيه يحلل مجمل الرسائل التي بعث بها فرانز كافكا إلى خطيبته فيليتسه، وقد جمعت في مجلد من 750 صفحة! علماً أن زمن التراسل بين الشخصين امتد من عام (1915) حتى عام (1917)، ولم تنشر الرسائل إلا بعد 43 عاماً من وفاة كافكا، وقد تتبّع الكاتب كانيتي مراحل علاقته بفليتسه، من بداية تعرفه إلى الفتاة فليتسه، لدى صديقه الفنان ماكس برود، واستلطافه إياها، وشروعه في تحبير الرسائل لها، متذكّراً فيها الجزيئيات الصغيرة، ومذكّراً إياها بعزمها على السفر إلى فلسطين، مأخوذة بدعاوى الصهيونية عهدذاك، ولا يلبث كافكا أن تتضح له بساطة فيليتسه، وقلة تطلبها، وعدم تقديرها أعماله الأدبية التي يقدم لها نسخاً عنها، ولاحقاً يتكشف لكافكا ميل فيليتسه إلى المسرح غير الجاد (مسرح شنيتسلر)، وفيما كان ينجز أهم أعماله الأدبية (التحوّل)، ويعرض لها (فيليتسه) كتاب التأملات، ويؤلف جزءاً كبيراً من روايته "أميركا"، تروح فيليتسه تقابله بعدم الفهم وبنوع من إنكار أي قيمة لأعماله الأدبية، في حين لا تخفي عنه ميلها إلى أدباء أقل منه إبداعاً وتجديداً...

وتخبرنا الرسائل أنه انتابت الكاتب أعراض صحية اقتضت إقامته في المصحّات، من دون أن يتوقف سيل رسائله إلى فيليتسه، وفيها يبدي حساسية مفرطة حيال كل ما يتعلق بجسمه، ويزداد طغيان الأرق على ما عداه، ومن ثم يروح، في سياق تشكّيه لفيليستا، يبدي رأيه في الزواج باعتباره مقصلة للأديب، وللفرد في مواجهة السلطة، من دون أن يتمكن من ثني فيليسته عن إتمام علاقتها به عبر الزواج أو الخطبة، وتحصل الخطوبة، في أجواء ضاغطة بل قامعة لكافكا، فلا يجد سبيلاً للفكاك من هذا الرابط سوى بعقد صداقة مع فتاة أخرى هي غريته، وهنا ستنشب حرب ضروس بين الشابتين (فيليتسه/ غريته) يكون ختامها محاكمة كافكا بتهمة الحنث بوعده وخيانة خطيبته، تنتهي بفسخ الخطوبة، وبشروعه في تأليف رواية "المحاكمة" الشهيرة.

قراءات مبدعة

لا يسع الكاتب عن كانيتي، الأديب والمفكر، سوى القول بأنه مبدع في قراءاته، ومفكر في إضافاته على المقروء، بفضل موسوعيته ونفاذ بصيرته، وشعوره بالمسؤولية الإنسانية (الأونطولوجية) عن كل كلمة أو خطاب يقوله في هذا الأديب أو المفكر أو ذاك، ومن هذا القبيل، ليس من مزيد عما قاله في الكلمات وقيمتها في حد ذاتها، ولا سيما إذا كانت صيغت ضد السلطة المهيمنة، ولا شيء يمكن أن يزاد على تعريف بكونفوشيوس في حواراته، وفيه يبين أن على "الإنسان أن يكون إنساناً في كل عمله".

ومثل ذلك تعريف بتولستوي "السلف الأخير" وبشكسبير وغيرهما مما يتسع المجال لذكره في الكتاب، وما تعجز عنه العجالة هذه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة