ملخص
توازن رواية "قبل النكسة بيوم" للكاتب المصري إيمان يحيى بين مرحلتي ناصر ومبارك، بين النكسة وثورة يناير، كاشفة تشابه القمع السياسي وتدهور الاقتصاد وتزييف الإعلام خلال المرحلتين.
قبل النكسة بيوم" (دار الشروق - القاهرة) للروائي المصري إيمان يحيى من ثورة الـ 25 من يناير (كانون الثاني) 2011، لتستعيد عبرها الأعوام الثلاثة التي سبقت نكسة يونيو (حزيران) 1967، في قراءة تكشف عن تحولات مصر بين حدثين مفصليين في التاريخ الحديث لهذا البلد.
تقوم الرواية في بنيتها السردية على فصول وفواصل، فتدور أحداث الفصول على ألسنة ثلاث شخصيات رئيسة: حمزة النادي وكريمة عثمان وعبدالمعطي عبدالسلام، الذين يبدأون حديثهم من الراهن مع اشتعال "ثورة 25 يناير" لتعود بهم الذاكرة للعهد الناصري وحراكهم السياسي قبل نكسة 1967.
أما الفواصل فتتناول مواضيع عدة، مثل زواج المشير عبدالحكيم عامر من الممثلة برلنتي عبدالحميد، واتكاء جهاز المخابرات على التسجيلات الجنسية لإخضاع المعارضين، والانقسام العربي إزاء حل القضية الفلسطينية، وتهدف هذه الفواصل إلى إضاءة الأبعاد السياسية والاجتماعية لحقبة ما قبل النكسة، بما يجعلها مرآة تكشف جذور الهزيمة التي ظلت تلقي بظلالها حتى زمن ثورة 2011.
تجري الأحداث عبر ضمير المتكلم الذي تتناوب عليه الشخصيات الثلاث الرئيسة، وقد عاشوا شبابهم في أوج مجد العصر الناصري بما حمله من وعود اجتماعية وسياسية على المستويين المحلي والإقليمي جعلتهم يفخرون بانتمائهم إلى زمنه، وكانت الآمال حينها كبيرة بإلغاء الفوارق الطبقية والانتصار للطبقات الفقيرة وتحرير فلسطين، شعارات سرعان ما انهارت أمام هزيمة 1967 الصاعقة والتي جاءت تتويجاً لانكسارات سابقة أصابت المجتمع المصري في العمق، فتوثق الرواية هذه الانكسارات مؤكدة أن الهزيمة لم تكن مفاجئة بل نتيجة حتمية لتدهور الأوضاع السياسية والاجتماعية آنذاك.
يشكل الشبان الثلاثة وقتها، الشيوخ وقت ما سمي ثورات الربيع العربي، محور الرواية، وقد تعرض كل منهم لهزائم سبقت حرب 1967، فتبدأ الحكاية بكريمة، ابنة الحارس النوبي لإحدى بنايات وسط القاهرة، وقد جرى تهجير أسرتها من النوبة من أجل بناء السد العالي في مقابل تعويضات هزيلة دفعت كثيرين إلى النزوح نحو العاصمة بحثاً عن لقمة العيش والعمل في المهن البسيطة، لكن كريمة لم تكن عابئة بهذا الإرث الناصري الذي ظلم النوبيين ودخلت في حركة الشباب التابعة للسلطة الحاكمة وقتذاك، متيمة بخطابات الزعيم عن العدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق الطبقية واستعادة أمجاد الأمة العربية، وقد أفادتها تلك السياسات فعلاً عبر مجانية التعليم الجامعي التي أتاحها النظام لها.
هزيمتان متتاليتان
غير أن أحلامها سرعان ما انهارت بهزيمتين متتاليتين: الأولى عاطفية حين ألقي القبض على حبيبها حمزة، والثانية سياسية مع هزيمة يونيو، وعندها انقلبت نظرتها إلى الزعيم الذي أحبته، فصارت صورته المعلقة في مكان عملها تذكرها بالخداع لا بالأمل، "نظرتُ إلى صورة عبدالناصر المعلقة على جدار الغرفة بطرف عيني، كان يبتسم ابتسامته الحنونة التقليدية، لكنني وقتها أحسست بأنه شيطان مخادع" (ص 262).
تكشف الرواية عن أن هزيمة كريمة هي في المقام الأول اجتماعية طبقية، إذ تنتمي إلى عرقية مهمشة سياسياً واجتماعياً من النظام الناصري، وتجلى هذا التهميش في مظاهر رمزية جارحة من بينها مشهد أحد احتفالات الثورة حين صعد المطرب محمد العزبي إلى المسرح بعد أن دهن وجهه بالأسود ليؤدي مقطعاً غنائياً باللغة النوبية، كما كانت مقموعة بالعادات والتقاليد التي حرمتها الزواج من حبيبها حمزة، لأن النوبيين لا يزوجون بناتهم من خارج جماعتهم، وبلغت هزيمتها ذروتها حين ألقي القبض على حمزة وسجن وتعرض للتعذيب، فخرج من التجربة فاقداً للشغف بالحياة كلها لا بكريمة وحدها.
التنظيم السري
أما هزيمة حمزة فكانت سياسية في المقام الأول، فهو ابن للتنظيم الطليعي السري (1963–1971) الذي أسسه جمال عبدالناصر داخل "الاتحاد الاشتراكي العربي"، بهدف تجنيد العناصر الصالحة للقيادة وتطوير الحوافز الثورية للجماهير، وبعدها امتلأ "الاتحاد الاشتراكي" الذي ولد بدعوى حماية الثورة، بالانتهازيين، ثم سيطرت عليه عناصر تبحث عن النفوذ والمكاسب لا عن المبادئ.
وسط هذا المناخ المتشابك وجد حمزة نفسه ضمن من طاولتهم حملة الاعتقالات عام 1966 والتي شملت الشيوعيين ومن شاركوا في جنازة مصطفى النحاس باشا، وأعضاء أمانة الشباب في "الاتحاد الاشتراكي" التي كان ناشطاً فيها، فوجهت إليه تهمة الانضمام إلى "تنظيم القوميين العرب" على رغم أن التنظيم كان قد حُلّ في مصر قبل عامين، وفي السجن تعرض لتعذيب مهين لتتبدد قناعته بالنظام الذي ظن أنه يحمي الثورة، ويدرك أن سلطة ناصر بدأت تأكل أبناءها، لا من تعتبرهم أعداءها وحسب.
يدفع هذا المصير القاسي حمزة إلى الهجرة بعدما شعر أنه لم يعد ينتمي إلى وطن خذله، "لستُ نادماً على هجرتي من وطن أنكرني وحطّم آمالي وأحلامي" (ص 274)، فتتلاشى صلته بالوطن تماماً حتى قيام ثورة يناير التي أعادت إشعال جرحه القديم ودفعته إلى التواصل مع شقيقته، "لم أستطع الحديث أكثر معها، فمصر تمثّل لي جرحًا لا يزال ينزف داخلي، التعذيب الذي نلته عام 66 وزلزال الهزيمة في 67 واعتقالي مرة أخرى في بداية عام 1968 حتى مايو 1969، كلها أنهت علاقتي بالوطن وأكدت لي أن الاستبداد والدكتاتورية يفضيان إلى ضياع الأوطان" (ص 270).
وهكذا تتحول تجربة حمزة من انتماء حالم إلى اغتراب وجودي وسياسي يعبر عن جيل انهارت أحلامه بين الشعارات الثورية وممارسات القمع، قبل أن توقظها "ثورة يناير" على نحو مؤلم ومربك.
وجوه القمع
أما عبدالمعطي عبدالسلام، الصحافي، فقد كان نصيبه من الهزيمة سياسياً وفكرياً، فأُلقي القبض عليه خلال الفترة نفسها بتهمة الانضمام إلى "وحدة الشيوعيين"، إضافة إلى مجموعة من المثقفين والكتّاب المصريين ومن بينهم عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب وصلاح عيسى والأردني غالب هلسا، غير أن احتجازهم لم يدم طويلاً فأُفرج عنهم بعد بضعة أشهر بفضل تحركات زوجاتهم، وعلى رأسهن عطيات الأبنودي وإيفلين زوجة سيد حجاب.
وتمثل تجربة عبدالمعطي وجهاً آخر من وجوه القمع الذي طاول الصحافيين والمثقفين اليساريين في أواخر العهد الناصري، لتكتمل بذلك ثلاثية الهزائم التي تجمع أبطال الرواية بين القهر الاجتماعي والسياسي والفكري.
تقيم الرواية توازناً دقيقاً بين عصري ناصر ومبارك، وبين هزيمتي يونيو و"ثورة يناير"، لتكشف أن القمع واحد وإن اختلفت الشعارات، ففي الزمنين كانت حرية الصحافة منتهكة ومباحة للسلطة، وفي عهد عبدالناصر جرى تأميم الصحف وفرض رقابة مشددة على مصادر المعلومات، بل وصل الأمر إلى التشويش على الإذاعات الأجنبية، "محطات الإذاعات الأجنبية لم يبق منها سوى 'صوت أميركا' تعمل في هذا التوقيت بوضوح، موجات التشويش التي تبثها المخابرات مزعجة" (ص 99).
ولا تذكر الصحف الرسمية آنذاك شيئاً عن حملات الاعتقال التي طاولت المعارضين، بينما يرد ناصر في مؤتمر المبعوثين بالإسكندرية على من يتهمونه بتكميم الصحافة بقوله كما تنقل الرواية "إحنا ما عندناش رقابة على الصحف لكن عندنا توجيه. إيه بقى المقصود بحرية الصحافة؟ هل يعني إن الصحافة تشتمنا؟ إحنا في ناس بره بيشتمونا وبنعتبر دول كفاية" (ص 164).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تضليل إعلامي
وتكلل هذا التضليل بفضيحة بيانات مذيع "صوت العرب" أحمد سعيد أثناء النكسة، والتي أصبحت مضرب المثل في غياب المهنية الإعلامية والتضليل السياسي، وفي زمن مبارك تتجلى الصورة نفسها للقمع الإعلامي ولكن بأدوات مختلفة، إذ تعطل عمل شبكات الهواتف الخلوية في محاولة لعزل المتظاهرين عن بعضهم بعضاً، وفي الوقت الذي كانت مظاهرات الشباب تجتاح ميدان التحرير، كانت القنوات الرسمية تبث صوراً لمياه النيل ومشاهد طبيعية لا علاقة لها بما يجري في الشوارع، وترصد الرواية كيف لجأ الناس إلى القنوات العربية والأجنبية لمتابعة أحداث الثورة بعد تعتيم الإعلام المحلي، بينما استمر التلفزيون المصري في إنكار الواقع أو عبر استضافة شباب مرتبكين لا يملكون القدرة على التعبير عن دوافع الحراك أو مطالبه الحقيقية، في مشهد يعكس فقدان الإعلام الرسمي صدقيته وانفصاله التام عن نبض الشارع.
التدهور الاقتصادي
كما توازن الرواية بين التدهور الاقتصادي في عهدي ناصر ومبارك كاشفة عن أن الأزمات التي عاشها المصريون خلال العقود اللاحقة لم تكن سوى امتداد لاختلالات سابقة، ففي عهد ناصر ترصد الرواية اتساع مظاهر الفقر ودعوات الحكومة المتكررة إلى التقشف "من أجل بناء الوطن"، وتُرجع الرواية أسباب الأزمة الاقتصادية إلى دخول ناصر في حرب غير محسوبة في اليمن أرهقت الاقتصاد المصري وراح ضحيتها كثير من الجنود المصريين الذي يحاربون في بيئة غير مناسبة، ولا يعرفون عنها شيئاً ولا عمن معهم من اليمنيين أو ضدهم، فيأتي على لسان أحد الجنود في الرواية "إحنا مش عارفين من اليمنيين بيحارب معانا ومين ضدنا، كل الشوية القبائل تغير مواقفها وانتماءاتها" (ص 148).
وكذلك تكشف الرواية عن أن التردي الاقتصادي كان أحد العوامل الرئيسة في قيام "ثورة يناير"، "ثورة قامت بها فئات الشعب المختلفة وفي طليعتها الشباب، ثورة لم تقم من فراغ وإنما لها مسببات عدة أهمها البطالة وفساد نظام الحكم الذي شاخ، والتفاوت الطبقي الرهيب في المجتمع" (ص 269).