Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيكتور هوغو في المنفى... احتجاج صاخب وتأملات قاسية

الشعر والصحافة نوع من الفنون الجميلة ومشاكسة على واقع لا يمكن القبول به

فيكتور هوغو في المنفى في جزيرة غيرنيسي مع عائلته (غيتي) 

ملخص

خلال نفيه إلى جزيرتي جيرزي ثم غيرنيسي بسبب إفكاره الاشتراكية ومعارضته لنابوليون الثالث، عاش فيكتور هوغو مرحلة إبداعية مكثفة كتب خلالها مجموعته الشعرية "التأملات" التي عدّها هرمه الأدبي الأكبر.

خلال المرحلة التي كتب فيها فيكتور هوغو مجموعته الشعرية "التأملات"، التي يراها البعض قصيدة واحدة متشعبة الفقرات، متنوعة المواضيع لكن في بوتقة واحدة، والتي أطلق عليها ذلك العنوان من دون أن يخطر في باله أن كثراً سيعتبرونها "قصيدته" المفضلة، خلال تلك المرحلة كان يعيش وأسرته وخدمه وعدد من خلانه في جزيرة جيرزي التي نفته إليها السلطات في باريس، عقاباً له على أفكاره "الاشتراكية" ومجاهرته بالعداء للإمبراطور، وفي محاولة منها لإسكات صوته الصاخب احتجاجاً.

ونعرف أن هوغو قد سُر أولاً بذلك المنفى إلى حد أنه كان يصفه بكونه "منفى ذهبياً"، إلى درجة أنه سينطلق فيه أول الأمر في كتابة عدد من أعماله الروائية الأساسية، بل سيحضر من دون تردد تباعاً عدداً من النساء اللاتي ستضحي كل واحدة منهن عشيقة له خلال فترة أو أخرى من حياته في المنفى ثم في حياته التالية، أمام مرأى ومسمع زوجته التي ستؤدي تصرفاته في هذا المجال إلى فقدانها رشدها.

غير أنه، بالتأكيد سيسأم ذلك كله بعد حين، معتبراً المنفى نوعاً من موت أكيد وحكماً بالإعدام، فكيف يرضى بذلك الحكم كاتب مناضل أمضى أعواماً من حياته يعمل حتى ضد أي حكم بالإعدام يصدر في حق أعتى المجرمين؟ من هنا ما إن انقضى زهو المرحلة الأولى في المنفى في تلك الجزيرة البديعة، حتى راحت كتابات له تعبر عن خيبة أمله، معتبرة أن ما أمضاه في المنفى بات كافياً لأن يوضح للسلطات القمعية أن هذا الابتعاد به عن الحرية الباريسية لن يفيدها وأن الوقت قد حان لإنهاء "تلك المهزلة"، مؤكداً في طريقه أنه ما دام أبقي في المنفى سيظل ذا صوت يلعلع ضد السلطات التي لن يمكنها إسكاته. "ولتعلم أنني إن بارحت هذا المنفى ربما أهادنها بعض الشيء، أما هنا فسأواصل العمل ضدها وأوصل صوتي وصراخي، بينما هي ستعجز عن لجمي"، كما قال مرة أمام قوم كان يعرف أنهم سيوصلون ما يقول إلى السلطات القمعية التي كان قد أعلن الحرب عليها فنفته.

 

بين الاحتجاج والتأمل

بالنسبة إلى الاحتجاج الذي سيبدو غير مسيس أول الأمر على أية حال، يمكن القول إن منطلقه كان في عام 1854، حين حدث وهوغو في منفاه في جيرزي أن حكمت السلطات على واحد من سكان الجزيرة ويدعى تابنر بالإعدام عقاباً على جرائم ارتكبها، فما كان من هوغو المعروف مسبقاً بوقوفه ضد الحكم بالإعدام أياً تكن دوافعه، إلا أن أصدر بياناً موجهاً إلى "سكان جزيرة غيرنيسي" يدعوهم إلى مساندة وقوفه ضد ذلك الحكم، بيد أن الأمر انتهى وبعد ثلاثة احتجاجات إلى إعدام المجرم. وفي اليوم التالي للتنفيذ عبر الكاتب في نص له عن تنديده بما حدث والظروف التي صاحبت التنفيذ تحت عنوان "رسالة إلى اللورد بالمرستون" وهو السياسي المسؤول عن الحكم البريطاني للجزيرة، الذي كان هوغو يرى أنه ليس أكثر من دمية بين يدي غريمه الشخصي نابليون الثالث. وبعد أشهر من ذلك، وفي تجديد لأسباب احتجاجاته في وجه السلطات الفرنسية، عاود هوغو صراخه المشاكس في احتجاج عنيف هذه المرة ضد زيارة الإمبراطور الفرنسي إلى لندن، ثم بعد أشهر قليلة جدد هوغو في صحيفة "الإنسان" التي كان يصدرها في المنفى رفقة عدد من منفيين آخرين، موقفه الاحتجاجي المعادي للندن والسلطات الفرنسية معاً، وهذه المرة في مساندة واضحة لمقال نشره منفي آخر معه في الجزيرة ضد زيارة تقوم بها الملكة فيكتوريا إلى باريس... ولقد كان من نتيجة ذلك الموقف أن طرد من الجزيرة ثلاثة محكومين... وهنا يكتب هوغو احتجاجاً جديداً تحت عنوان "والآن هيا اطردونا من هنا بدورنا!"، وبالفعل لم تتردد السلطات وطردته من جيرزي إلى غيرنيسي حيث استقبلته مع جولييت وفرنسوا- فيكتور، جمهرة من الأنصار لتوافيه زوجته وبقية الأولاد هناك بعد أشهر.

بناء هرم أصيل

وهناك بعدما استقر هوغو في المنفى الجديد وإذ أدرك ما حل به ونقله من منفى ذهبي إلى منفى أكثر كآبة بكثير، كتب في يومياته: "إنني حتى اليوم لم أشيد في الجيزة - المنطقة المصرية التي كانت يحلم ببناء ما يضاهيها في وطنه - إلا قصوراً من الرمل، ولقد حان الوقت الآن لكي أشيد ما يضاهي هرم خوفو يخصني هنا... ومن ثم فإن "التأملات" ستكون هرمي الأكبر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد كتب هوغو هذا في اليوم الأخير من مايو (أيار) 1855، أي في وقت كان ينجز الصفحات الأخيرة من عمله الشعري الكبير "التأملات"، الذي سيصدر في ربيع العام التالي وفي وقت واحد في باريس وبروكسل. و"التأملات"، التي سيصفها فيكتور هوغو بنفسه بأنها تنتمي إلى "الشعر الخالص" لم تكن سوى مجموعة من الأشعار والمقطوعات التي كتبت أصلاً في تواريخ ومناسبات متنوعة تمتد منذ عام 1846، وبعضها كتب قبل موت ليوبولدين ابنة الكاتب التي نعرف كم أن موتها المبكر قد أحزنه، لكن معظمها كتب خلال الفترة بين 1846 و1955 وبخاصة في المنفى في جيرزي، وهي مقاطع سيصفها هوغو بنفسه معتبراً إياها "كتابات تنتمي إلى ما يمكننا أن نسميه 'مذكرات الروح'..."، وهي قصائد مقسمة منهجياً ورمزياً إلى قسمين معنونين كالتالي: "في أزمنة أخرى" (1830-1843)، و"الآن" (1843 - 1855). وبصورة عامة تتوزع الأبيات البالغ عددها 11 ألف بيت من الشعر بشكل يكاد يكون علمياً على 10 كتب، يشغل موت ليوبولدين مركزاً رئيساً في نص يفتتحه هذا الإهداء: "إلى تلك التي بقيت في فرنسا"، متبوعاً بالأبيات التالية: "ضعي نفسك على مضجعك/ ارفعي عينيك/ لفلفي هذا الغطاء البارد الذي يوزع طياته كيفما اتفق على جبينك الملائكي/ افتحي يديك وتناولي هذا الكتاب/ إنه كتابك".

 

المنفى والموت

ومهما يكن من أمر فإن الباحثين المدققين في شعر هوغو بصورة خاصة، رأوا أن ثمة في ما هو وراء موت ليوبولدين التي يدور معظم هذا الشعر من حوله، ثمة فكرة أساسية تعتبر المنفى قريباً من القبر قرابة، هي من الوثوق، إلى درجة أن الموتى في "التأملات" يعبرون عن أنفسهم من خلال الحديث عن الموائد المستطيلة والأحلام والرؤى الليلية. ولعل أفضل برهان على هذا، هو ما كتبه هوغو إلى صديق له في ربيع 1856 قائلاً: "لم يفصلني المنفى عن فرنسا وحدها، بل هو فصلني عن الأرض والدنيا بأسرهما. في المنفى هناك لحظات أشعر فيها وكأنني ميت، ويبدو لي وكأنني بت أحيا في حياة أخرى حياة رائعة فسيحة، ومن ثم تعود إلى أفكار كل الذين كنت أشعر ضياءهم يغمرني في هذا الظل البشري".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة