ملخص
من واقعين لا يلتقيان إلا في صالة السينما وبقعتين جغرافيتين متباعدتين يلتفت فيلمان أحدهما صيني والآخر روماني إلى الطفولة باعتبارها مرحلة عمرية تكشف ما تخفيه المجتمعات من تشققات داخلية
في "دوماً"، فيلم المخرج الصيني دمنيغ تشن، الفائز بجائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي طويل، تنحسر الطفولة ببطء أمام ثقل الواقع الريفي وقسوته، فيما يحول الروماني ميهاي مينكان في "أسنان الحليب" اختفاء طفلة في أواخر عهد تشاوتشيسكو إلى استعارة عن اختناق جيل. الفيلمان اللذان شاهدناهما في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي من الـ16 حتى الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري يتعاملان مع الطفولة كرمز أخير للبراءة يبتلعها العالم تدريجاً. صحيح أن التجربتين لا تلتقيان على مستوى المكان واللغة، لكنهما تتقاطعان في النظرة إلى الطفل ككائن يعيش الواقع بصفائه الأول. في الحالتين نحن أمام تروما: غياب الأم في القرى الصينية وغياب الأخت في رومانيا، وهما غيابان يفتحان الباب أمام تأمل مبكر في معاني الحياة وتحدياتها القادمة.
في "دوماً" يتعامل دمنيغ تشن مع الطفولة لحظة انسحابها. في فيلمه الوثائقي هذا المصور في قرى مقاطعة هونان يفتح نافذة على حياة تتشكل بإيقاع الطبيعة وحدها، حيث لا تزال المواسم تحدد إيقاع الوجود، وحيث الواقع لا يرحم براءته الصغيرة. محور الحكاية هو غونغ يوبين، صبي يعيش بين ثلاثة أجيال، وهم: جدان مسنان، وأب فقد ذراعه في حادثة غير مصيره، وطفل يحاول أن يكتب شعراً كي يفهم ما يعجز عن قوله. غابت الأم مذ هو صغير، وبقي غيابها كظل طويل على حياته، لا أحد يجرؤ على تفسيره، ولا حتى الفيلم يحاول ذلك. الكاميرا عند تشن شاعرية، تراقب الضباب وهو يهبط على الجبال. الانتقال بين الألوان والأسود والأبيض أكثر من خيار بصري، إنه طريقة المخرج في ترجمة انطفاء الطفولة.
دراما غير تقليدية
لا يضعنا الفيلم أمام دراما تقليدية. كل شيء يمضي كما لو أن الحياة تعرض أمامنا بترو مقصود. السنوات تمر من عمر الصبي بين التاسعة والـ13، لكن التحول الحقيقي يحدث في التفاصيل الصغيرة: نبرة صوته حين يقرأ قصيدته الأولى، نظرة الجدة حين تنصت إليه، الصمت الذي يملأ المكان حين تذكر الأم عرضاً. وعلى رغم ما يخيم من حزن على الأجواء، نجد في الفيلم دفئاً إنسانياً. شخصياته لا تشتكي لتثير الشفقة، ومع ذلك تذكرنا بأن العيش نفسه فعل صمود. الضحك، على رغم ثقله، جزء من هذا الصمود. فيلم دمنيغ تشن يتأمل الزمن وهو ينسحب من وجوه البشر. كأن المخرج يردد من بعيد ما قاله فرنسوا تروفو عن أن كل شيء نعيشه في حياتنا مصدره الطفولة.
في "أسنان حليب" يقدم ميهاي مينكان عملاً يتقاطع فيه الشخصي بالسياسي، ولكن من دون أن يخضع أحدهما للآخر. فبين الذاكرتين الفردية والجماعية، تتكون حكاية عن الغياب كحالة وجودية أكثر منها حبكة درامية. يحملنا الفيلم إلى عام 1989، في اللحظة التي كانت رومانيا تترنح تحت وطأة النظام الشيوعي الذي يعيش فصوله الأخيرة. تختفي الطفلة ألينا، ولا يبقى من أثرها سوى حيرة أختها ماريا ابنة الـ10 سنوات، التي كانت آخر من رآها. غير أن الفيلم لا يقدم لغزاً بوليسياً ولا يعد بحل درامي يحسم الغموض، ذلك أنه يستخدم الاختفاء لكشف الوعي الطفولي أمام انهيار الأشياء من حوله. من خلال عيني ماريا، يدخل المشاهد إلى فضاء يبدو محكوماً بنصف وعي، حيث تتداخل الذكريات بالأوهام.
الصورة عند مينكان بقدر ما هي وسيلة توثيق، هي أيضاً تشريح داخلي: ضوء باهت يقطع العتمة، أصوات متقطعة وبيئة بصرية مشبعة بحس من الترقب القلق. هذا كله يجعل الفيلم أقرب إلى حلم ملبد منه إلى حكاية واقعية. خلف القصة العائلية الصغيرة، سيتشكل تدريجاً المعنى الأوسع واختفاء ألينا سيتحول إلى استعارة عن جيل كامل ولد داخل منظومة سياسية مغلقة، فوجد نفسه يتلمس طريقه. وكما تتبدد الطفولة في عيني ماريا، كانت البلاد بأسرها تفقد "براءتها" أمام سقوط وشيك لم يعد أحد يفهمه تماماً.
يقول المخرج إنه ودَّ استكشاف ذلك الإحساس بالانقطاع وبالزمن المتشظي الذي شعر به آنذاك في عام 1989 عندما كان في الـ10، على غرار ماريا، "هذا الإحساس يعكس القلق الذي يعيشه عالمنا اليوم. وعلى رغم الإطار التاريخي المحدد، فإن الفيلم يتجاوز في النهاية حدود الزمان والمكان. انه فيلم عالق بين بعدين، الواقع والخيال، القمع السياسي وصعود ما يسمى 'العالم الجديد' في مطلع تسعينيات القرن الماضي. تجسد هذه الفتاة الصغيرة 'الجيل الضائع من الأطفال'، الجيل الذي أنتمي إليه. أولئك الأطفال الذين آمنوا بالحرية، ليكتشفوا في النهاية أن أصواتهم لن تسمع. لهذا السبب، فيلمي لا يختار أن يتحدث مباشرة عن طفلة أصابها الخرس، بقدر ما يرينا شخصاً يجمع الكلمات في ذهنه، منتظراً اللحظة المناسبة ليصرخ بها في وجه العالم بأسره. هذا فيلم عن الوحدة".
يشتغل مينكان على الإحساس أكثر من الحدث. سينماه تعتمد على التوتر. ويظل أداء إيما إوانا موغوش، في دور ماريا، القلب النابض لهذا الفيلم. ببراءتها المربكة، تنقل المشاهد بين الإدراك والحلم، لتجعل من الغياب تجربة سينمائية كاملة. من خلال قصة طفلة مفقودة يروي الفيلم واقع بلد يستيقظ ليجد نفسه هو الآخر قد فقد، ولكن ربما ليولد من جديد.