Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين الخوف والأمل... ماذا يقول اللبنانيون عن التفاوض مع إسرائيل؟

رأي عام يريد السلام لكن وفق شروط صلبة مع مكاسب تكتيكية للطرفين تحت سقف القرار 1701

ملخص

من "حوار السيف مع العنق" إلى تفاهمات تدار عبر وسطاء، تحول النقاش اللبناني حول التفاوض مع إسرائيل من محرم إلى خيار تفرضه الوقائع الأمنية والاقتصادية، فالقرار (1701) واجتماعات الناقورة في جنوب لبنان رسخت مسار التفاوض غير المباشر كآلية لخفض التصعيد وإدارة الخروقات، بينما يبقى التفاوض المباشر محاطاً باشتراطات سيادية وحساسيات داخلية، فرأي الشارع يميل إلى رفض التطبيع والتفاوض المفتوح بلا شروط، لكنه يبدي رغبة قوية بسلام مشروط ووقف الحروب.

"إنه حوار السيف مع العنق"، قالها غسان كنفاني لريتشارد كارلتون عام 1970 في مقابلة مع "أي بي سي نيوز" عندما سأله لماذا لا يتفاوض الفلسطينيون مع إسرائيل؟ ليسقط بجوابه وهم التفاوض حين يكون ميزان القوة كحد سكين على رقبة عارية، فلا معنى لحوار تحدده فوهة البندقية، ولا شرعية لاتفاق ينتزع تحت الإكراه، لكن الزمن ببراغماتيته المعهودة ربما أو بأحداثه وشخصياته، جرّ الجميع لاحقاً إلى الطاولة التفاوض على قاعدة "مكره أخوك لا بطل"، ففي عام 1993 تصافحت يدا ياسر عرفات وإسحاق رابين برعاية بيل كلينتون في حديقة البيت الأبيض، ومثلت هذه اللحظة رمزاً لبداية المفاوضات الفلسطينية التي دشنت لاحقاً في أوسلو على شكل إدارة للنزاع أكثر منه نهاية له، وبقية فصول الرواية لا تخفى على أحد.

بعد حرب الإسناد

أما في لبنان فيمثل ملف التفاوض مع إسرائيل إحدى أعقد القضايا في الشرق الأوسط، حيث تتشابك الجذور التاريخية للصراع مع التعقيدات الجيوسياسية الراهنة والانقسامات الداخلية العميقة في لبنان، ويحمل السؤال حول التفاوض أصلاً في طياته ألغاماً لا تحصى، فالكل يقطع عليه الطريق بطريقته، وقبل أن نخوض في تفاوضات سابقة مباشرة وغير مباشرة بين لبنان وإسرائيل فلا بد من مناقشة فكرة التفاوض من أساسها، إذ يعتبر بعض اللبنانيين أنها فرصة للبنان، ويراها آخرون سقطة في فجوة الخيانة بجسر تفاوض، وبين الأطياف اللبنانية وأهوائها ترمى التهم في الاتجاهين، فكل الأطراف مرتهنة بطريقة أو بأخرى إلى لاعب خارجي، وكل الأطراف تدعي السيادة وتخون الطرف الذي لا يسير في مركبتها.

وجاءت حرب غزة أخيراً و"حرب الإسناد" من ناحية وسقوط نظام بشار الأسد في سوريا لتعمق الهوة بين اللبنانيين، فمنهم من وجد أننا اكتفينا من "حروب الآخرين على أرضنا" أو "دفع الأثمان عن كل العرب" أو "حمل القضية الفلسطينية على أكتافنا" وغيرها من التعابير المشابهة، للبدء في مسار آخر، ويقول بعضهم إننا جربنا "المقاومة"، وعادة ما يقصد "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" (جمول) والمقاومة الممثلة في "حزب الله"، لكننا في كل مرة كنا ننتهي بعد كل حرب نحصي أعداد الضحايا والدمار بطريقة قاتلة، فإسرائيل لا تقاتل وحدها بل تستدعي نصف الكرة الأرضية لتقاتل عصابة، فالأساطيل تتحرك والجيوش تتأهب في أميركا وأوروبا لمساندة "الابنة المدللة"، ولسان حال بعض اللبنانيين "أدينا قسطنا للعلا" ودفعنا أثماناً عالية، فلماذا لا نجرب حلاً آخر غير الحرب.

كلام الشارع

في جولة قامت بها "اندبندنت عربية" في مناطق لبنانية عدة وتحديداً في شوارع الحمرا والأشرفية وعين المريسة، وهي مناطق مكتظة سكانياً في العاصمة بيروت، لاستطلاع نبض الشارع حول التفاوض، تساءل بعضهم كيف لنا التفاوض مع دولة "إرهابية مجرمة عدوة قتلت الآلاف"؟ وذهب بعضهم الآخر إلى الفكرة الأساس من قيام إسرائيل، مشيراً إلى أن "هدف المشروع الإسرائيلي والأميركي تقسيم المنطقة إلى دويلات متناحرة منذ عام 1974"، مستدركاً أن "المرحلة الحاضرة مختلفة حيث لم يعد توجد قوة مناهضة لإسرائيل في المنطقة، والصراع ليس مجرد صراع عسكري وإنما قد يأخذ شكلاً اقتصادياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، معتبراً أن "الصاروخ في حرب الإسناد لم يعد ينفع".
وعبر قسم آخر عن الخوف من تسليم السلاح الذي سيعني برأيه "إطلاق يد إسرائيل في المنطقة، مما يعني أنها ستقوم بمجازر أكثر"، فيما رفض آخرون التفاوض المباشر والجلوس مع إسرائيل لأنه يعني السلام مفضّلاً التفاوض غير المباشر، بينما أعرب جزء آخر من الناس عن "قرفه من الحرب"، معتبراً "ألا نتيجة من التفاوض". فيما تساءلت سيدة: لماذا لا نتصالح بدل الموت وتخريب البلد؟ فيما أشار مواطن آخر إلى أنه "لا أحد يهتم بالتفاوض والنتيجة ستكون حلقة مفرغة، لأن العالم عبارة عن تجار أسلحة ومن دون حرب تبور بضائعهم".


لبنان الرسمي والأحزاب

يبدو الموقف اللبناني الرسمي من مسألة التفاوض مع إسرائيل موزعاً بين ثلاث مقاربات تعكس توازن الداخل والخارج، فرئيس الجمهورية جوزاف عون يرى أن التفاوض لم يعد خياراً مرفوضاً كلياً وإنما قد يكون ضرورة تفرضها استحالة الحسم العسكري، مشيراً إلى أن لبنان سبق أن تفاوض عبر وساطة الأمم المتحدة عام 2022 في ملف الحدود البحرية، وأن الآلية ذاتها يمكن أن تستعاد اليوم شرط الحفاظ على السيادة وعدم الانزلاق إلى تطبيع سياسي، أما رئيس مجلس النواب نبيه بري فيتبنى موقفاً أكثر حذراً، إذ يعتبر أن أي حديث عن تفاوض مباشر "سابق لأوانه" بعد أن رفضت إسرائيل المقترح الأميركي الأخير، مؤكداً أن الإطار الوحيد القائم حالياً هو اللجنة الثلاثية التابعة لـ "يونيفيل" في رأس الناقورة لتنفيذ القرار (1701)، وفي المقابل يعبّر رئيس الحكومة نواف سلام عن موقف وسطي رافضاً التطبيع أو التفاوض المباشر، لكنه منفتح على المسارات الدبلوماسية غير المباشرة التي قد تتيح خفض التوتر وإعادة تثبيت وقف إطلاق النار، معتبراً أن لبنان يتعامل مع "حرب مستمرة بصيغ متقطعة" تستدعي حلاً سياسياً بإشراف الأمم المتحدة.

أما الأحزاب اللبنانية فانقسمت كالعادة بين من يؤكد ضرورة سحب سلاح "حزب الله" أولاً ثم معاتبة إسرائيل على الخروقات اليومية، وبين من اعتبر أن ما تبقى من سلاح لا يزال يشكل ضمانة ولو بسيطة، وركز على أولوية الانسحاب الإسرائيلي وتوقف الخروقات، وبين من وقف في المنتصف إلى حد ما معتبراً أن لبنان أدى في الأقل جزءاً لا يستهان به من بنود الاتفاق، لكن إسرائيل لم تتوقف يوماً عن خرقه.

وكهذا الانقسام تماماً كان الانقسام حول إمكان التفاوض أو عدمه، وبين الخيار ما بين التفاوض المباشر وغير المباشر، إذ عدّ بعضهم أننا جربنا التفاوض غير المباشر، ولكن اليوم لا بد من أن نجلس وجهاً لوجه مع الإسرائيلي ونضع ما نريده ونتمسك به، إذ قد يكون الوسيط أقل تعنتاً وأكثر دبلوماسية.

ويجد بعضهم الآخر أن مجرد الجلوس مع الإسرائيلي إلى طاولة تفاوض مباشر تحقق فيها المطلب الإسرائيلي الذي يدعو إلى السلام ولكن على طريقته، إذ لم تبشر اتفاقات السلام التي قام بها سابقاً بالخير، وأكبر دليل هو ما يحصل في الضفة الغربية اليوم، فحتى حقول الزيتون تسرق أمام أعين مالكيها، وهذا مثل بسيط جداً على ما يحدث من استيلاء على المنازل وقتل الناس وأسرهم، كما يعتقد بعضهم أن إسرائيل ستعمل جاهدة على نزع سلاح "حزب الله" قبل أي تفاوض لتزيل أي تهديد لها، وتصبح وحدها القادرة على الاستيلاء على كل ما تريد، فحتى فترة احتلالها لجنوب لبنان كانت نموذجاً عن أية طريقة يمكن أن تتعامل بها، لكن قسماً آخر من المواطنين يعتبر فكرة أن الدولة اللبنانية لا تستطيع التفاوض مباشرة مع إسرائيل لوقف الحرب تبدو في جوهرها عبثية، ويتساءل ما المانع أن تتولى الدولة لا الميليشيات مهمة حماية مواطنيها وتأمين عودتهم الآمنة والدائمة لقراهم الحدودية؟ فالمشكلة ليست في التفاوض بل في احتكار القرار الوطني ممن يتغذى على استمرار الفوضى، ويرى بعض اللبنانيين أيضاً أن أي تفاوض مباشر أو غير مباشر بين لبنان وإسرائيل ينبغي أن يربط أولاً بإحقاق حل الدولتين للفلسطينيين، باعتباره رافعة لدبلوماسية أمنية إقليمية تستعيد الحقوق وتوقف الهيمنة.

بالأرقام

على رغم التفاوت الطائفي والمناطقي يظهر استطلاع حديث أن الرأي العام اللبناني يميل بصورة كبيرة إلى رفض التطبيع أو التفاوض المفتوح مع إسرائيل خارج شروط واضحة، ففي استطلاع نشر على موقع Washington Report on middle east affair في أبريل (نيسان) 2025، أعرب 75 في المئة من اللبنانيين عن اعتقادهم بأن إسرائيل هي "العدو الأساس للبنان"، وفي ما يتعلق بمسار التطبيع قالت بيانات من "أراب بارومتر" Arab Barometer  إن أقل من 13 في المئة من اللبنانيين خلال الأعوام الأخيرة كانوا يؤيدون تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

وفي سياق مناقض أشارت دراسة بعنوان "اللبنانيون يطلبون السلام مع إسرائيل"، "The Lebanese Demand Peace with Israel"، نُشرت على موقع "مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات" Foundation for Defense of Democracies (FDD) في الـ 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2025 إلى أن النتائج شهدت تحولاً ملاحظاً في المزاج العام اللبناني بعد الحرب الأخيرة، إذ بات الحديث عن السلام مع إسرائيل يطرح بوصفه خياراً واقعياً لا مجرد شعار سياسي، غير أن الدراسة شددت على أن هذا التوجه لا يعكس قبولاً بالتطبيع أو التفاوض غير المشروط، بل يعكس رغبة مشروطة بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية وتسليم سلاح "حزب الله" للدولة وتطبيق القرار (1701) كاملاً، وقد أوضحت الدراسة أن هذا الميل الشعبي نحو السلام نابع من تعب اللبنانيين من الحروب المتكررة والأزمات الاقتصادية الخانقة، لا من تبدل في الموقف التاريخي من الصراع.

السياق التأسيسي للعداء

ليس تاريخ العداء مع إسرائيل محكوماً فقط بتاريخ سجل عام 1948، فجذور الصراع التاريخي أقدم بكثير ومتعلقة بالأيدلوجيا الدينية لدى إسرائيل والتي تعتبر لبنان جزءاً من إسرائيل بحسب "وعد التوراة"، ولكن الصراع العسكري بدأ عام 1948عندما شارك لبنان مع دول عربية أخرى في الحرب التي أدت إلى النكبة، وحين وجد لبنان نفسه، شأنه شأن الدول العربية الأخرى، أمام حدث يهدد التوازن التاريخي والديمغرافي في المنطقة، شارك الجيش اللبناني بشكل محدود في حرب فلسطين الأولى ثم وُقع اتفاق الهدنة في الـ 23 من مارس (آذار) 1949 في رأس الناقورة بإشراف الأمم المتحدة، ليضع حداً موقتاً للعمليات العسكرية من دون أن يلغي حال الحرب القانونية بين البلدين، مما ترك الإطار القانوني هشاً، ومنذ ذلك التاريخ بقيت العلاقة محكومة بما يشبه الترقب على خط النار إلى أن جاء التحول الحقيقي مع تصاعد العمل الفدائي الفلسطيني من الأراضي اللبنانية بعد عام 1968، عقب طرد "منظمة التحرير الفلسطينية" من الأردن، فتحول الجنوب اللبناني إلى ساحة مواجهة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وأصبح ما يشبه ساحة خلفية للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، ثم توالت الاعتداءات الإسرائيلية عليه فدمرت القوات الخاصة الإسرائيلية عشرات طائرات الركاب في مطار بيروت عام 1968، وبدأت الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة في التوغل داخل العمق اللبناني رداً على العمليات الفلسطينية التي اتخذت من لبنان مقراً لها، واغتالت ثلاثة من قادة الحركات الفلسطينية في بيروت عام 1973.

وفي عام 1978 نفذت "عملية الليطاني" التي أطلقتها إسرائيل جنوب لبنان رداً على عملية نفذتها "منظمة التحرير" قرب تل أبيب، وكان الهدف المعلن طرد مقاتلي حركة "فتح" من جنوب لبنان وإبعادهم إلى شمال نهر الليطاني، وتأمين شمال إسرائيل من هجمات كانت تنطلق من لبنان، وبعدها ظلت إسرائيل محتلة المنطقة وتمكنت من تدشين شبكة من الحلفاء المحليين وهم جيش لبنان الجنوبي (SLA) بقيادة سعد حداد، واعتمد مجلس الأمن الدولي القرارين رقم (425) و (426) في الـ 19 من مارس 1978، اللذين دعيا إلى انسحاب فوري للقوات الإسرائيلية من لبنان، ونشأت على إثرهما قوات الطوارئ الأممية (يونيفيل (لمراقبة الوضع ومساعدة لبنان في استعادة سلطته في الجنوب.

احتلال بيروت

وبعدها أتى عام 1982، عام الاجتياح، وشكل نقطة فاصلة في الصراع اللبناني -الإسرائيلي، حيث اخترقت أربعة طوابير إسرائيلية مدرعة الأراضي اللبنانية ووصلت إلى بيروت وفرضت حصاراً على بيروت الغربية بهدف معلن وهو إخراج "منظمة التحرير الفلسطينية" من لبنان، ولا يخفى على أحد أن التداعيات الإنسانية للغزو كانت مروعة وموثقة بدقة، ففي الـ 16 من سبتمبر (أيلول) 1982 شهد العالم "مجزرة صبرا وشاتيلا"، حيث فرض الجيش الإسرائيلي حصاراً على المخيمين وقامت ميليشيات لبنانية بالتنسيق مع الاحتلال بارتكاب المجزرة التي قدر عدد ضحاياها بما بين 750 و 3500 شخص قتلوا خلال 62 ساعة، وبعدها خرجت القوات الإسرائيلية من بيروت تحت وطأة سلسلة عمليات أبرزها "عملية بسترس" قامت بها "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، و"عملية الويمبي" التي قام بها خالد علوان في شارع الحمرا في بيروت الغربية، رافقها ضغط دولي إثر إجلاء قوات "منظمة التحرير" من بيروت تحت إشراف قوات متعددة الجنسيات، وفق اتفاق توسط فيه المبعوث الأميركي فيليب حبيب.

وفي الـ 28 والـ 29 من سبتمبر 1982 أعلنت "واشنطن بوست" أن الجيش الإسرائيلي غادر آخر موقعين له داخل غرب بيروت مفسحاً الطريق لانتشار أفراد الـ "مارينز" الأميركيين، وفي الأدبيات الشفوية المتداولة تنتشر تسجيلات تقول إن الجيش الإسرائيلي حينها قال مستخدماً مكبرات الصوت "يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار نحن منسحبون".

ومنذ ذلك الاجتياح لم يعد الصراع مجرد مواجهة حدودية بل أصبح حرب هوية وسيادة، فلبنان الذي كان ينظر إليه كدولة ضعيفة تحاول البقاء على الحياد وجد نفسه يحمل عبء الصراع الإقليمي الأكبر، وتحول التوتر من هدنة على الورق إلى عداوة مزمنة تدار بالنار حيناً وبالوساطات حيناً آخر، فبعد الانسحاب من عاصمة لبنان عام 1983 احتفظت إسرائيل بقوات لها في الجنوب وأقامت منطقة احتلال رسمية بعمق 15 كيلومتراً، سيطرت عليها بمساعدة حليفها "جيش لبنان الجنوبي"، واستمر هذا الاحتلال 22 عاماً حتى الانسحاب في مايو (أيار) 2000 بعد عمليات عسكرية عدة قامت بها "المقاومة الوطنية" ثم "حزب الله" ضده وضد حليفها، وشهد اللبنانيون كيف مشى الأهالي نحو الجنوب شعباً وطلاباً حاملين الأعلام، ولا ينسى أحد كيف حرر حينها المعتقلون في سجن الخيام، بخاصة بعدما ترك الإسرائيلي لدى الشعب اللبناني جراحاً كثيرة، فحجم العنف والخسائر البشرية الموثقة، وبخاصة مجازر 1982 و 1996 (قانا)، ولد حاجزاً نفسياً وسياسياً عميقاً يمنع أي تحرك نحو التفاوض المباشر أو التطبيع في لبنان، ويؤكد هذا التسلسل التاريخي أن لبنان ربما كان في البداية ضحية للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، لكن بعد عام 1982 أصبح الصراع مرتبطاً بعوامل إقليمية جديدة مثل الوجود السوري آنذاك ونشوء قوى مقاومة محلية، مما يثبت أن أي تفاوض ثنائي مباشر لن ينجح ما لم يحصل على غطاء من القوى الإقليمية الضامنة للطرف الذي يحمل لافتة "المقاومة"، وهذا العامل هو الذي أدى إلى فشل أول محاولة سلام مباشر عام 1983.

الاتفاقات المتباينة

بعد الغزو الإسرائيلي عام 1982 شهد لبنان محاولة هي الأبرز للتوصل إلى سلام مباشر وكامل، أو كما كان يظن، إذ جرى التوقيع على "اتفاق 17 أيار" في مايو عام 1983 برعاية الولايات المتحدة، وتضمنت البنود الرئيسة له إنهاء حال الحرب رسمياً بين البلدين، إذ تتعهد إسرائيل بسحب قواتها المسلحة من لبنان وفقاً لملحق الاتفاق وإقامة ترتيبات أمنية محددة، وإنشاء منطقة أمنية، والتعهد بمنع استخدام أراضي أي من الطرفين كقاعدة لنشاط عدائي أو إرهابي ضد الطرف الآخر، وإنشاء لجنة اتصال مشتركة والبدء بالتفاوض حول حركة السلع والمنتجات والأشخاص، لكن هذا الاتفاق لم يدم طويلاً وألغي في الخامس من مارس عام 1984، وكان السبب الجذري وراء هذا الفشل هو الرفض الإقليمي السوري القاطع، إذ رأى الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد ووزير خارجيته عبدالحليم خدام أن الاتفاق يشكل خطراً أمنياً على سوريا ويقيد حرية واستقلال لبنان وسيادته، وتحت الضغط السوري وخشية الرئيس اللبناني حينها أمين الجميل من التداعيات، جرى إلغاء الاتفاق.
ومما لا شك فيه أن فشل "اتفاق 17 أيار" يمثل دليلاً تاريخياً قاطعاً على أن التفاوض المباشر في لبنان، حتى لو كان بضمانات أميركية، يتطلب موافقة ضامنين إقليميين، وأن أي دبلوماسية مباشرة تهدف إلى سلام شامل لا يمكن أن تعمل بمعزل عن مصالح القوى الإقليمية، وهو ما يدفع صناع القرار اليوم نحو آليات إدارة الصراع بدلاً من إنهائه جذرياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التفاوض غير مباشر وبالقطعة

في ساحة الصراع اللبناني - الإسرائيلي، حيث الحرب هي اللغة الأصلية وفكرة التفاوض اضطرار في بعض الأحيان، برز "التفاوض غير المباشر" كخيار حذر مليء بالأشواك والمفاجآت، فلبنان لم يدخل في مائدة مباشرة مع إسرائيل وإنما اعتمد منذ منتصف التسعينيات وحتى اليوم صيغة الوكالة والوساطة، أي دولة ثالثة أو منظومة أممية تتكفل بنقل الرسائل وتحديد الحدود وتفعيل ترتيبات الواقع، ومن أبرز الوثائق التي تجسدت فيها هذه الصيغة "تفاهم نيسان" أو "تفاهم عناقيد الغضب" عام 1996 الذي شُرح أنه "اتفاق غير رسمي" بين إسرائيل و"حزب الله" بوساطة أميركية، يوقف فيه الطرفان الهجمات المتبادلة على أهداف مدنية مع لجنة مراقبة دولية تضم الولايات المتحدة وفرنسا وسوريا وإسرائيل ولبنان.
ويمثل التفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل، والذي يجري تحت مظلة دولية، المسار الأكثر واقعية والذي أثبت قدرته على تحقيق الاستقرار الجزئي والمكاسب الوطنية من دون تجاوز الخطوط السياسية الحمر والجدلية في لبنان، ولم يفض التفاوض غير المباشر إلى سلام أو تعايش وإنما اكتفى بتسهيل استمرار الوضع القائم، فالاتفاق البحري وإن أنهى نزاعاً محدداً لم يعالج القضايا البرية الكبرى أو إطار الحرب الدائمة بين لبنان وإسرائيل، مما يعني أن الصيغة لم تغير جوهر الصراع بل جسدت أسلوباً بديلاً لإدارة الجمود، وحصلت إسرائيل على هدنة ضمنية تتيح لها استثمار الحقل من دون معالجة النزاع الأساس، ولبنان حصل على إطار تفاوضي من دون التزامات بحل شامل أو اعتراف، وهكذا فالوسيط غير المباشر أنقذ بيروت من الدخول في مفاوضات علنية محرجة أمام الرأي العام العربي، لكن في المقابل تركها بلا خيار سوى التفاوض تحت شروط ووساطة، فالتفاوض غير المباشر بين لبنان وإسرائيل لم يكن انتصاراً صريحاً وإنما حلقة تكتيكية في لعبة أطول، ويبدو أحياناً أن لبنان الذي كان يعتبر أن بعض الانتصارات تتحقق بلا طاولة التفاوض المباشر، وأن الصراع قد يدار في الظل أكثر من أن يحل بمنطق اللقاء المباشر، بات اليوم في حيرة بين ما هو الأجدى، أن تتكلم بلسانك وشروطك إذا صح التعبير، أو تنتظر ما يحصّله لك الوسيط المنحاز دوماً إلى إسرائيل؟

بين السندان والمطرقة

في الحالين ينقسم الشعب إلى من يريد الحوار، بغض النظر إذا كان مباشراً أو غير مباشر، لتحصيل السلام، وبين من لا يصدق العهود الإسرائيلية التي لا تلبث أن تنكث قبل مرور 24 ساعة على أي اتفاق على رغم الضمانات، والطرفان لديهما أسبابهما وقلقهما، واللافت الآن أن الطرف المعارض كلياً لإجراء أية مفاوضات مع إسرائيل، يبدو أن جزءاً منه شعر أن الطريق بات مسدوداً على أية مقاومة، فالوضع لا يشبه عام 2006 ولا بأي طريقة، لا من حيث القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل التي حاسبت قادة حرب 2006، ولا من حيث سرية "حزب الله" التي انكشفت أمنياً بصورة صادمة يوم تفجيرات "البيجر" ثم اغتيال أمينها العام حسن نصرالله، والمسؤول الكبير في الحزب هاشم صفي الدين وقادة آخرين كثر، وملاحقة وقتل عناصره حتى اليوم،
ولا يزال السؤال يبدو فخاً، إن كان البلد سيسير في تفاوض مباشر أو غير مباشر، بشكل يتجاهل شريحة من بعض الأحزاب اليسارية و"حزب الله" و"حركة أمل" الذين يبدون غير موافقين على التفاوض أصلاً، على رغم أن مسار التفاوض غير المباشر كان قد اُعتمد مراراً لإطلاق الأسرى وترسيم الحدود وتحديد مواقع الغاز، فمقابل جثث الأسرى الإسرائيليين عبر مفاوضين ووسطاء ومن دون توقيع مباشر بين دولتين بوضوح، نجح "حزب الله" في إنجاز تحرير أو تبادل مع أسرى ورفات لبنانيين وعرب، وإن كان بشروط ومعطيات صعبة عامي 2004 و2008، وبعد حرب يوليو (تموز) 2006 شكّل القرار (1701) إطاراً قانونياً وأمنياً لإدارة الصراع بين لبنان وإسرائيل، مؤكداً وقف الأعمال العدائية وتعزيز دور قوات "يونيفيل"، ومنذ ذلك الحين عُقدت في رأس الناقورة اجتماعات ثلاثية تحت رعاية الأمم المتحدة، تجمع ضباطاً من الجيشين اللبناني والإسرائيلي برئاسة قائد "يونيفيل"، وتشكل الآلية الوحيدة للتفاوض غير المباشر بين الطرفين بهدف تهدئة التوترات ومعالجة الخروقات على طول الخط الأزرق.
كما شكل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 مثالاً ناجحاً ومؤثراً في فاعلية التفاوض غير المباشر، إذ جرى التوصل إلى حل دائم للنزاع البحري القائم من دون الحاجة إلى توقيع أية وثيقة تطبيع أو سلام، وكان الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين هو المهندس الرئيس لهذه الدبلوماسية، وتميز هذا المسار بتركيزه على الجانب الفني والاقتصادي وتجنبه التحولات السياسية الجذرية، وأثبت هذا التفاوض غير المباشر أنه المسار العملي الوحيد الذي يسمح للبنان بتحقيق مكاسب وطنية واقتصادية، من دون تجاوز خطوط المقاومة الحمر.

 

المباشر في مقابل غير المباشر

يظهر التحليل المقارن للمسارين أن التفاوض المباشر قد يحمل أخطاراً وجودية على لبنان، بينما يمثل التفاوض غير المباشر آلية براغماتية لإدارة الأزمات، وينظر إلى التفاوض المباشر على أنه محفوف بالأخطار، إذ سيفسر محلياً وإقليمياً على أنه اعتراف ضمني أو صريح بإسرائيل، وقد يصبح مقدماً لأي مفاوضات أخرى من دون ضمانات حقيقية لحقوق لبنان، ولقد أثبت التاريخ الدبلوماسي بين لبنان وإسرائيل أن التفاوض المباشر الذي يهدف إلى إحلال سلام شامل وتطبيع كامل للعلاقات، كان خياراً غير واقعي في ظل الوجود الفاعل للقوى الإقليمية والمحلية الرافضة، وقد انهار هذا المسار عام 1983 بسبب الرفض السوري الذي رأى في الاتفاق تهديداً لأمنه القومي، وفي السياق الحالي فإن التفاوض المباشر غير ممكن من دون مواجهة شاملة لقضية سلاح "حزب الله"، وهو ما قد يهدد بتفكيك الوحدة الوطنية اللبنانية وقيام حرب أهلية، كما تحاول جميع الأطراف اللبنانية تأكيده. والمفاوضات المباشرة الطويلة تخدم الطرف الأقوى، فبعد توقيع "اتفاقات أوسلو" أصبحت أية مقاومة فلسطينية توصف بالإرهاب، بينما استمر الطرف الإسرائيلي في تغيير الحقائق على الأرض بالاستيطان، وأدت المفاوضات المباشرة إلى انقسام داخلي فلسطيني بين حركتي "فتح" و"حماس"، وهو السيناريو الذي يحذر منه المحللون في لبنان، حيث تعتبر الوحدة الوطنية شرطاً أساساً لأي تفاوض ناجح.
أما التفاوض غير المباشر فقد أثبت فعاليته كمسار براغماتي ومنخفض الأخطار، فنجاح ترسيم الحدود البحرية عام 2022 برعاية الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين سمح للبنان بتحقيق مكاسب اقتصادية من دون تقديم تنازلات سياسية تتعلق بالتطبيع أو السلام، وهذا المسار يسمح بإدارة النزاع ويستخدم الأطراف الدولية مثل الأمم المتحدة والولايات المتحدة كضامن لاستقرار الأوضاع الأمنية، وتعرف هذه المقاربة بـ "الواقعية السياسية"، إذ تركز على الوصول إلى تسويات أمنية تهدف إلى الاستقرار ووقف التهديدات المتبادلة من دون التورط في مسار تطبيع طويل يبدو شبه مستحيل سياسياً، ونجاح التفاوض غير المباشر يعود لقدرته على تجاوز قضية السلاح موقتاً والتركيز بدلاً من ذلك على المكاسب الملموسة والمحدودة التي يحتاج إليها لبنان بشدة.

أين نحن اليوم؟

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وبعد حرب قاسية قتلت الآلاف وشردت مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم، جرى بالتفاوض غير المباشر التوصل إلى اتفاق لوقف النار بين لبنان وإسرائيل بوساطة دولية، وبموجب هذا الاتفاق كان من المفترض توقف الطرفين عن الأعمال العدائية 60 يوماً، ووافق لبنان على منع "حزب الله" والجماعات المسلحة الأخرى من شن هجمات، في حين تعهدت إسرائيل بالانسحاب التدريجي لقواتها من جنوب لبنان، وتندرج هذه الخطوة ضمن إطار التوصية التنفيذية لقرار مجلس الأمن رقم (1701)، إذ ورد فيه التزام الأطراف بتطبيقه من أجل استقرار طويل الأمد على "الخط الأزرق"، ولم تتوقف إسرائيل عن تدمير القرى والبيوت وقصف أشخاص وعائلات بحجة أنهم تابعون بشكل أو بآخر لـ "حزب الله"، حتى إن الجرافات ومعامل الحجارة دمر عدد منها لمنع إعمار جنوب لبنان، كما أنها لا تزال تحتل خمس نقاط في الجنوب وتدخل وتجرّف القرى حينما تشاء.
وكثيراً ما كان سلاح "حزب الله" لاعباً رئيساً في علاقات لبنان الداخلية والخارجية، ففي الداخل اعتبر بعضهم أنه عائق في تحقيق سيادة الدولة، في حين اعتبر "حزب الله" أن سلاحه ورقة قوية بيد الدولة، وقد يكون هذا السلاح جنّب البلد لفترة طويلة حروباً داخلية، لكن يبدو أنه في "حرب الإسناد" استجلب "الوحش الأكبر" ربما، على رغم كلام كثير حول أن الوحش الإسرائيلي كان سينقض حتماً على لبنان بعد انتهائه من غزة، وعدّ بعضهم أن شرط نزع السلاح قبل الحرب الأخيرة فخ سيحرم لبنان أهم أوراق ضغطه، ويجعله طرفاً ضعيفاً في المفاوضات، فيما لو حصلت، ولكن يبدو الأخطر من ذلك أن هذا الشرط قد يقود إلى تصديع الوحدة الوطنية، وربما يدفع لبنان إلى حرب أهلية بسبب التباين العميق في المواقف الداخلية حول قضيتي التحرير والدفاع.
في المشهد اللبناني الراهن يصر لبنان حتى اليوم على إبقاء أي تواصل مع إسرائيل ضمن الـ"ميكانيزم" عبر "اللجنة الخماسية" وتحت رعاية الأمم المتحدة، رافضاً عروضاً دولية لمحادثات مباشرة، ومؤكداً أن الأولوية هي تنفيذ وقف إطلاق النار المعلن في نوفمبر 2024 وانسحاب القوات الإسرائيلية كاملاً، وهذا الرفض يرتكز على سوابق تفاوض غير مباشر رسختها اجتماعات الناقورة منذ هدنة عام 1949، وإلى نصوص القرار رقم (1701) عام 2006 والتي حددت إطار المعالجة عبر الأمم المتحدة، وهي مقاربة يراها مؤيدوها واقعية بلا منزلقات سياسية، فالفارق بين إدارة النزاع بالتفاوض غير المباشر وبين التطبيع بوصفه اعترافاً وعلاقات متبادلة كبير، وهو ما لم يكن لبنان يطرحه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات