Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هجرة العرب إلى "الفراديس"... حكاية يزيد عمرها على 225 عاما

عندما يكتب الجامعيون قصة يخيل إلى كثر أنها وليدة ظروف سياسية مستجدة

جنود مماليك تابعون لفرنسا يقاتلون الإسبان (مواقع التواصل)

ملخص

ضم نابليون المترجمين والمدرسين العرب كنواة لجهاز تعليمي يدرس العربية وغيرها من العلوم الإسلامية في أول مدرسة افتتحت لتلك الغاية سميت بالمدرسة المصرية وقد تأسست في العاصمة باريس.

الكتاب ومؤلفه أستراليان، بل ينتميان إلى البحوث الجامعية الأسترالية التي ليست في حاجة إلى أي تبرير لوجودها ولا إلى مناسبة محددة لتظهر فيها. والبلاد المعنية بها بوصف موضوع الدراسة هو الهجرة إليها هي فرنسا، وليس أستراليا مع أن ثمة من الأرقام والوقائع ما يفيد بأن أستراليا نفسها قد تكون معنية بهذا الموضوع أكثر من تلك الأمة الأوروبية التي يرى البعض أنها تنوء بتلك الهجرة ولا سيما خلال العقدين الأخيرين، بأكثر كثيراً مما تفعل أستراليا بالنظر إلى أن هذه أمة تقوم على الهجرة التي أسستها. وهذه الحال ليست حال فرنسا وبالتالي تصبح الهجرة إليها موضوعاً للدراسات الاجتماعية والسياسية خاصة، وهذا هو الجانب الثالث من المعادلة المطروحة منذ عنوان الكتاب الذي صدر أوائل العقد الثاني من القرن الجديد، إذ يتعلق الأمر بالهجرة العربية إلى فرنسا، فعنوان الكتاب، والذي يكاد يقول أشياء كثيرة، هو بالتحديد "فرنسا عربية: تاريخ بدايات التنوع".

وبالتالي يمكننا أن نرى كيف أن الكاتب، وهو الأستاذ الجامعي الأسترالي إيان كوللر، يركز ليس على "مساوئ الهجرة" بالنسبة إلى انتماء المهاجرين إلى فرنسا، بل على أثرها الإنساني العميق باعتبارها وسيلة لذلك التنوع الذي يدافع المؤلف عنه، إلى درجة أنه، وعلى خطى المؤرخ الفرنسي الكبير الراحل فرنان بروديل، يجعله هوية أصيلة لفرنسا بعد أكثر من قرنين على بدايات تلك الهجرة العربية إلى هذا البلد. ولعل هذا البعد في الزمن المتلاقي مع ما يطرحه بروديل في كتابه القيم الأخير "هوية فرنسا"، هو أهم ما في الكتاب الأسترالي، من دون أن يوضح هذا الأخير هذا الأمر بل يعده من بدايات منطقه المبرر لعودته إلى الوراء زمنياً وربماً الحقبة التي عاد خلالها نابليون إلى بلاده مهزوماً إثر فشل حملته الشرقية على المنطقة العربية، مصحوباً بالألوف من العرب الذين رافقوه بعدما شاركوه تلك الحملة وهزموا معه.

محاولات أولى للتأقلم

إلى تلك البدايات إذاً يعود كوللر في أطروحته مؤكداً أن الحضور العربي في فرنسا كان مثمراً وواقعياً ومهد لتواصل هذا الحضور متنامياً حتى الآن. ومن هنا يمضي في حكاية فصول هذا التاريخ الذي بات شديد القدم في زماننا هذا. وهو تاريخ يبدأه الباحث في عام 1789 حين لم يتردد الغازي الفرنسي ومنذ وصوله إلى مصر في ضم أعداد لا بأس بها من المصريين والسوريين المسلمين، ولكن أيضاً الأقباط والروم الأرثوذكس المشارقة إلى حملته كمترجمين وأدلاء، بل أيضاً كجنود قبل انسحابه متخلياً عن تلك الحملة التي لا شك أن كثراً من الباحثين في تاريخ النهضة الفكرية العربية يعدونها حتى الآن، إلى طابعها العسكري الاستعماري، بداية حقيقية للنهضة الفكرية العربية التي سوف تولد لاحقاً.

والحال أنه ومهما كان من شأن رأينا في مثل هذا التأكيد، فإن ما لا يمكننا إنكاره هو في الأقل أنها كانت البداية الحقيقية للهجرة العربية إلى فرنسا، وبالتالي إلى أوروبا. وهو ما يشغل حقاً اهتمامات الباحث في هذا الكتاب، الذي ينطلق من تلك الواقعة يتتبع "بدقة التحري وجزالة لغة الروائي وتسامحية العامل في الشأن الإنساني" بحسب توصيف المعلقين الجامعيين على الكتاب، "حكاية كانت لا تزال في حاجة لأن تكتب بدقة وتعاطف".

 

وها هو هذا الكتاب قد فعل ذلك. وهو يفعل ذلك بخاصة من خلال انطلاقه في حكايته القائد القبطي المصري المعروف بالمعلم يعقوب على رغم أن هذا قد مات في طريق العودة النابليونية على ظهر السفينة قبل أن يبلغ الموانئ الفرنسية ويدخل بالتالي إلى ما كان يعده فردوس الحرية بعد جحيم الهزيمة. لكنه حين رحل باكراً خلف أرملته التي ورثته وأكملت دربه، إلى حد ما في قيادة المسلمين وغيرهم من العرب للوصول إلى فرنسا والاستقرار فيها كجالية موالية لهذا البلد، معظم أفرادها يتطلعون بشغف إلى تواصل الفكر الثوري الفرنسي النابع من الثورة التي كانت لا تزال ترسخ فكرها ولو عبر أفكار قائد الحملة الذي سوف يضحي إمبراطوراً متعاطفاً معهم بعد حين. بل إنهم كانوا قبل ذلك قد نالوا وعوداً قطعتها أرملة المعلم يعقوب لمعاملتهم على قدم المساواة داعمة أشدهم بؤساً مهما تنوعت مذاهبهم وأصولهم.

قرية مصرية

وكان من نتائج ذلك أن عدداً كبيراً من الواصلين على متن السفن إلى ميناء مارسيليا قد آثر الاستقرار في تلك المدينة التي سرعان ما بدا مناخها أكثر تناسباً مع مزاجهم المشرقي والمتوسطي، فكان أن أقيمت لهم غير بعيد من منطقة الميناء قرية مصرية راحت تتوسع بالتدريج حتى باتت أشبه بمستوطنة حقيقية ناطقة بلهجات عربية شديدة التنوع وبمزاج إسلامي حقيقي، ميز حتى المسؤولين من غير العرب سواء كانوا مسلمين، من المماليك أو غير مسلمين من الأقباط ومسيحيي بلاد الشام وأشباههم.

وفي الوقت نفسه جرى إرسال الجنود الأكثر خبرة وتدريباً من بينهم إلى المناطق المحيطة بمدينة ميلون حيث كانت قيادة القوات النابليونية تتوخى تشكيل فرقة عربية مقاتلة. وكانت تلك نواة الجنود المسلمين والعرب الذين سوف يشكلون جزءاً من الجيش الفرنسي وتصورهم اللوحات التشكيلية، وربما بخاصة، لوحات أوجين ديلاكروا يخوضون ضروب قتال عنيفة في مناطق فرنسية متنوعة ولكن كذلك في مناطق وبلدان غير فرنسية، في إسبانيا وإيطاليا وغيرهما.

وفي الوقت نفسه جرى ضم المترجمين والمدرسين كنواة لجهاز تعليمي يدرس العربية وغيرها من العلوم الإسلامية في أول مدرسة افتتحت لتلك الغاية سميت بالمدرسة المصرية، وقد تأسست في العاصمة باريس. أما الذين بقوا في مرسيليا ولا سيما إذ استقروا حتى خارج القرية المصرية، فقد راحوا يشاركون في عالم الأعمال بنجاح يروي الكاتب كيف أنه شكل نواة عداء راح يستبد بقطاع من أهل مارسيليا وتجارها، تجاههم. وأسفر ذلك عن اتهام الناجحين منهم، غيرة وحسداً بالتأكيد، بأحط التهم والتصرفات الغريبة بوصفهم لصوصاً وقوادين وما إلى ذلك. وكان من نتيجة ذلك أنه بدءاً من عام 1815 الذي شهد سقوط نابوليون سيجابه المصريون تحديداً بحملات قتل وإبعاد واعتقال وغير ذلك مما بات يشبه ما كان من نصيب اليهود من قبلهم، بل عموماً من قبل الثورة، في الحيز الشعبي العام. وهكذا "راح العشرات من أكثر العرب المصريين نجاحاً، يطاردون ويجري الإجهاز عليهم، وتدمير القرية المصرية. ومع ذلك تمكنت أعداد منهم من البقاء والعودة إلى نوع من تأقلم جديد مكن أعداداً كبيرة منهم من المشاركة في عام 1830 في غزو الجزائر وليس فقط كمترجمين وأدلاء، بل حتى كجنود وضباط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي أثناء ذلك لم تتورع السلطات الفرنسية في مرحلة عودة الملكية، بعدما كانت أدركت ذلك في العهد الإمبراطوري، من إدراك الفوائد التي يمكن أن تجنيها من وجود أولئك العرب في صفوف قواتها وحتى خارج تلك الصفوف، ولا سيما إذ هي تمكنت من تطوير مكانتهم ونفوذهم وحتى في علاقاتها مع العالم العربي. وكان من نتيجة ذلك أن السلطات الفرنسية تأقلمت من ناحيتها مع نوع جديد من استشراق مصري بخاصة راح يتعزز مع فورة الاهتمام المتجددة بكل ما هو مصري وغالباً تحت تأثير النزعة السانسيمونية وإسباغ أسماء مصرية على شوارع وساحات مهمة في باريس وغيرها.

وهكذا ولدت "مصر الفرنسية" في الجغرافيا والفنون والآداب لتتمحور من حول الشغف بمصر وتاريخها. وهو ما تلاقى مع إرسال بعثات دراسة مصرية، بخاصة إلى فرنسا، لعل أهمها البعثة التي قادها وكان إمامها المتنور الكبير رفاعة رافع الطهطاوي الذي سيكون الكتاب الذي يحكي فيه تجربته الفرنسية "تخليص الإبريز في تلخيص باريس"، مدخلاً هائلاً وربما مؤثراً إلى حد لم يتوقعه هو نفسه، في استتباب نوع من هيام نخبوي عربي بكل ما هو فرنسي. وبشكل بالغ الطرافة يروي كوللر في كتابه ما حدث في عام 1827 وما أحدثته الزرافة التي أهداها محمد علي خديوي مصر لفرنسا في ذلك العام حين وصلت إلى ميناء مرسيليا وقطعت المسافة براً إلى باريس وسط تهليل الفرنسيين ودهشتهم وتعاطفهم مع كونها مصرية طوال مسافة تقطع فرنسا طوال ما يصل إلى ألف كيلومتر!.

تفاعل كبير

وهكذا تمكنت يومها فترة قصيرة من الزمن من محو آثار المجازر التي طاولت العرب والمصريين في مرسيليا، ليسقر ما تبقى من أولئك المهاجرين بل يندمج أكثرهم في المجتمع الفرنسي حيث باتوا وبحسب المعلقين على كتاب كوللر، من أكثر المهاجرين الأجانب ولاءً للقيم الفرنسية، بل إن بعضهم راح يحمل أسماءً فرنسية معتبراً نفسه جزءاً من هذه الأمة، إلى درجة بات من المستحيل معها تمييزهم عن جيرانهم الفرنسيين. غير أن ذلك كله لن يلبث أن يتغير لاحقاً، لكن كتاب كوللر لا يبدو مهتماً بذلك الجانب من الحكاية على أية حال.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة