ملخص
بمناسبة دخول أعمالها في الملك العام، تنظم المكتبة الوطنية الفرنسية في باريس، مكتبة فرانسوا ميتران، معرضاً كبيراً للكاتبة والروائية والصحافية والممثلة والراقصة الاستعراضية سيدوني، غابرييل كوليت (1873 – 1954)، التي تعد اليوم من أبرز أعلام الأدب الفرنسي في القرن الـ20، وأكثرهم إثارة للدهشة والإعجاب.
يضم المعرض أكثر من 300 قطعة فنية وأدبية تجمع بين مواد بصرية ونصوص مكتوبة، من بينها مخطوطات وطبعات كتب أصلية، فضلاً عن أعمال فنية تتصل بحياة كوليت أو بكتبها، تعبر عن عوالم امرأة عصية على التصنيف، سبقت زمنها بخطوات جريئة، وكتبت نصوصاً متقدمة في رؤيتها، متجددة في لغتها، نابضة بجرأتها وعلى درجة مدهشة من المعاصرة.
إنه معرض يدعو إلى التوغل أكثر في عالم الكاتبة، مثيراً الرغبة في قراءة مجمل مؤلفاتها، لا سيما تلك التي بقيت خارج دائرة الأعمال الكلاسيكية المعروفة، وهو ثمرة تعاون بين نخبة من المهتمين بسيرة كوليت وأعمالها والقيمين على إرثها من مخطوطات ومحفوظات كإميلي بوفار ولورانس لو برا وجوليان ديمرمان وسواهم.
يكشف المعرض، في محطاته المتعددة، عن غنى شخصية كوليت المولودة في مقاطعة "اليون" المتاخمة لإقليم "البورغوني"، وعن عمق تجربتها الإبداعية، مبرزاً كل تفصيل من حياتها يعكس حداثة فكرية وأنوثة فياضة وحساً جمالياً مدهشاً.
بين المخطوطات الأصلية المكتوبة على أوراق زرقاء اللون كانت كوليت تختارها لتخفيف إجهاد عينيها، والكتب واللوحات الزيتية والصور الفوتوغرافية التي تظهر وجوه كوليت المختلفة، امرأة شابة أمام المرآة، زوجة مطيعة على نحو ظاهري، "فون" مزين بالألوان، روائية على مكتبها، عاشقة ميسي، وامرأة جذابة ومغرية في زي الرجال، والنقوش والقطع الرمزية والأفلام والمقاطع المسرحية واللقاءات المصورة، يجد الزائر نفسه في مواجهة عالم داخلي متشابك، تهيمن عليه أسئلة الهوية والحرية والرغبة والطبيعة، وتتردد فيه لعبة المرايا بين الكاتبة وشخصياتها، بين كتابة الذات والخيال.
5 محطات
يقوم المعرض على خمس محطات كبرى تروي سيرة كوليت عبر مراحل حياتها ونتاجها الأدبي، فتتيح لكل زائر أن يعيش تجربة القراءة كما لو كان داخل نصوصها، بكل ما فيها من عذوبة حسية وعمق تأويلي. تتجلى في هذه المحطات العلاقة الوثيقة التي لم تفصل يوماً بين حياة كوليت وكتابتها، فحياتها كانت مادة أدبها، وأدبها كان مرآة روحها، منذ أن بدأت الكتابة في أواخر القرن الـ19، مدفوعة من زوجها الأول ويلي الذي حثها على تدوين ذكرياتها المدرسية.
من بين الأعمال التي يضيء عليها المعرض مخطوطات هذه الروايات الأولى التي ظهرت باسم ويلي، وهو الاسم المستعار لهنري غوتييه ڤيلار، الذي وقع في البداية باسمه سلسلة "كلودين" الناجحة، الذي باع حقوقها من دون علم كوليت قبل أن تتحرر الأديبة من وصايته وتستعيد اسمها وحقها في الكتابة. ففي سلسلة مقابلات غير منشورة تعود لعام 1950، روت كوليت علاقتها بويلي وظروف كتابتها لتلك الروايات منذ صدور "كلودين في بيتها" (1902) و"كلودين ترحل" (1903) و"مين" (1904)، ثم بدءاً من توقيعها باسمها الحقيقي عام 1921، حين أخذت تبني عالمها الأدبي المستقل بخطى واثقة.
يتوقف المعرض كذلك عند انفصال كوليت عن ويلي عام 1905، واضطرارها إلى العمل لتأمين عيشها، في زمن لم تكن فيه النساء يمتهن العمل المأجور إلا نادراً. فصارت كوليت ممثلة إيمائية، وراقصة استعراض، ولاعبة جمباز، وخبيرة تجميل. وكما تتنوع أساليبها الأدبية بين المسرح والرواية الرسائلية والسيرة الذاتية المتخيلة والمقالات الصحافية، كذلك كانت حياتها المهنية زاخرة بالمواهب والوجوه المتعددة.
ففي شهر فبراير (شباط) عام 1906، ظهرت كوليت للمرة الأولى على خشبة المسرح في عرض بعنوان "الرغبة والخيال والحب"، مرتدية زياً يمثل الإله الأسطوري "فون"، الذي أعيد تصميمه خصيصاً للمعرض ليعيش الزائر تجربة حسية كاملة، تجمع بين الأدب والفن والذاكرة، لكن عروضها المسرحية وتحديها للمحظورات كانت سبباً في اندلاع فضيحتين كبيرتين: ارتبطت الأولى بمسرحية "لحم" حين كشفت كوليت عن صدرها، رافضة ارتداء القميص الداخلي المعتاد. أما الفضيحة الثانية التي أثارت الجدل، فتتعلق بمسرحية "حلم مصر" التي عرضت على خشبة ملهى "المولان روج" عام 1907، ولعبت فيها كوليت دور المومياء التي تبعث إلى الحياة بقبلة من عالمة آثار تؤدي دورها صديقتها ورفيقتها ميسي – ماتيلد دو مورني، المنحدرة من عائلة مرتبطة بنابوليون الثالث وجوزفين دو بوهارنيه، التي منعت لاحقاً من الصعود إلى المسرح.
في تلك الفترة، أخذت كوليت تهتم أيضاً بكواليس قاعات الموسيقى. ففي روايتها "المتشردة" (1910)، رسمت لوحة واسعة عن أوضاع الفنانين، وفي كتابها "الوجه الآخر للمسرح الغنائي" (1913) صورت من الداخل مشاهد العمل الجسدي القاسي وهشاشة حياة الفنانين.
الممثلة والمسرح
يظهر المعرض صوراً التقطت لكوليت على المسرح بملابس تبرز بدايات التحول الجنسي الرمزي، رجال في هيئة نساء ونساء في هيئة رجال، إلى جانب إشارات إلى علاقات حب مثلية. كما تعرض صور لها وهي تتدرب على الأجهزة الرياضية في منزلها، في دليل على انضباطها اليومي، كل ذلك يغمر الزائر في أجواء الحراك الفني على هامش المجتمع الباريسي في تلك الحقبة.
بعد مرحلة المسرح الغنائي، ومع استمرارها في الكتابة الأدبية، لم تتردد كوليت في خوض تجربة جديدة مدفوعة بضرورات العيش: ففتحت في باريس صالوناً للتجميل، مستفيدة من الخبرة التي اكتسبتها في فن الماكياج خلال عروضها المسرحية، مظهرة حساً عملياً وذكاء تجارياً، إذ أطلقت مجموعة مساحيق تجميل حملت اسمها. لم يكتب لصالون كوليت الاستمرار طويلاً، لكن هذه التجربة ألهمتها التفكير في المكانة المالية للأدباء، لا سيما الكاتبات، وهشاشة وضعهن المادي في مجتمع يربط الإبداع غالباً بسلطة الرجال والمال.
في المعرض يقع الزائر أيضاً على مخطوطة نص تستعرض فيه كوليت سلسلة "تقمصاتها" المهنية، التي مكنتها من الاستقلال المادي ومن اختبار حرية كانت متشبثة بها بشدة. كما تعرض مخطوطات رواياتها كـ"انبلاج النهار" (1928) التي استلهمت فيها كوليت رسائل أمها "سيدو" لتكتب من جديد عن الحب والزمن، باحثة عن معنى جديد للعيش بعد تجاوزها الـ50 وخروجها من زواجها الثاني من السياسي والديبلوماسي هنري دو جوفنيل.
ولا يغفل المعرض التوقف عند زواجها الثالث من موريس غودوكيت، تاجر اللؤلؤ الذي كان يصغرها بـ16 عاماً، الهارب من قبضة النازيين ومعسكرات اعتقالاتهم وعلاقتها بابنتها كوليت رينيه دو جوفنيل.
أما المحطة الأخيرة من المعرض، فتتناول مساهمة كوليت في الكتابة الصحافية، التي خصصت لها أكثر من 1200 مقالة منذ عام 1910 في جريدة "لو ماتان" ومن ثم "لو فيغارو" و"لو كوتيديان"، وقد كتبت في مجالات شتى: التحقيقات والنقد الأدبي والفني، مازجة عملها الصحافي بإبداعها الأدبي. ومن مقالاتها عن الحرب العالمية الأولى، التي عاينتها من الخطوط الخلفية، ولد كتابها "الساعات الطويلة".
حياها زملاؤها بصفتها مراسلة بارعة، فقد غطت ابتداء من عام 1912 محاكمة السفاح لاندرو، ثم رسمت بمهارة وجوه أخرى كـ فيوليت نوزيير، الشابة التي قتلت والدها وعمرها 18 سنة. وكانت من الرائدات اللاتي اهتممن بالسينما منذ بداياتها، إذ نشرت في أوائل القرن الـ20 نحو 30 مقالة عن هذا الفن الجديد، قبل أن تصبح ناقدة وكاتبة حوارات ومترجمة عناوين للأفلام، مدركة قيمة الفن السابع وآفاقه.
"نجمة الغروب"
على رغم حماستها للكتابة الصحافية، لم يكن هذا الطريق خالياً من المشقة. ففي كتابها "نجمة الغروب" الصادر عام 1946، تعترف كوليت أن الصحافة مهنة تفقد المرء أنفاسه، وأنها لم تستطع أن تكيف إيقاعها البطيء مع وتيرة الصحف الكبرى، قائلة إن كابوس المقال المتأخر، والسطور التي يجب أن تكتب بين منتصف الليل والثانية صباحاً، حل محل كابوس الامتحان في أحلامها طويلاً.
طوال حياتها، أقامت كوليت علاقة معقدة مع العمل. فبعد طفولة هادئة في حديقة منزلها في سان سوفور، لم تكن بداياتها الأدبية يسيرة أبداً. قيل كثيراً إنها لم تكن ميالة إلى العمل، ومع ذلك لم تتوقف يوماً عن الكتابة أو عن خوض تجارب جديدة. لم تشعر أبداً بأنها في المكان "الملائم"، لكنها بفضل موهبتها الفريدة استطاعت أن تفرض حضورها في كل عالم عبرته. وفي الأوساط الأدبية خصوصاً، نالت إعجاب كبار الأدباء من بروست إلى أراغون.
كانت كوليت في حياتها الشخصية كما في كتابتها، تمضي حيث لم تجرؤ الأخريات: كانت من أوائل النساء اللاتي ركبن المنطاد، وخضعن لجراحة تجميلية، واعتمدن تسريحة شعر رجولية وارتدين أزياء الرجال، متحدية المجتمع بنظراته الضيقة من دون أن تفقد خفة ظلها وسحرها الأنثوي، ولعل شخصيتها المتفردة هي التي دفعت سيمون دو بوفوار إلى القول إن كوليت هي الكاتبة الفرنسية الوحيدة التي استطاعت أن تجعل من جسدها وتجربتها وعاطفتها مادة للأدب من دون ابتذال. كانت راقصة وممثلة وكاتبة في آن، تملك حساً نادراً في قراءة النفس البشرية، وتقدم من خلال رواياتها صوراً دقيقة لأحوال النساء، في الحب والأمومة والرغبة، وفي البحث عن الذات داخل عالم تحكمه الأعراف الذكورية.
إن العوالم التي نسجتها كوليت في أعمالها، وإن بدت متخيلة، حملت صدى حياتها نفسها. فبين الكتابة والوجود لم يكن هناك فاصل: حياتها كانت نصاً متواصلاً، والخيال فيها ليس سوى وجه آخر للحقيقة. إن المرايا والانعكاسات وتكرار الصور الذاتية تشكل جوهر إبداعها، إذ تمتزج السيرة بالأسطورة والأنوثة بالحكمة، وهذا بالضبط ما نجح في إظهاره القيمون على هذا المعرض.
مكانة فريدة
تركت كوليت إرثاً أدبياً غنياً منحها مكانة فريدة في الأدب الفرنسي، كانت امرأة تكتب كما تعيش: بحرية كاملة، وبحس مرهف بكل تفاصيل الحياة الصغيرة. لقد جسدت نموذجاً نادراً للاستقلال الأنثوي في زمن كان يضيق على النساء، فصارت مثالاً للجرأة والصدق. وقد رافق اهتمامها بذاتها انفتاح عميق على العالم، امتثالاً لوصية أمها التي قالت لها يوماً: "انظري!". هذه الكلمة جعلتها عنواناً لأحد كتبها المصورة بالتعاون مع الفنان ماتوران ميهو. وفي المعرض، تتجاور صور الحيوانات والنباتات مع أعمال فنية لأندريه دونوييه دو سغونزاك وراوول ديفي وإميلي شارمي ولويز هرفيو، في حوار بصري يعكس هذا التفاعل الجميل بين كوليت والطبيعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم تكن كوليت كاتبة فحسب، بل كانت رمزاً لحرية مكتسبة بالجهد والعرق. استقلالها المادي مكنها من أن تقول ما تشاء وأن تعيش كما تشاء، لذلك رسمت في كتبها صوراً حادة وصادقة لمن أحاطوا بها، خصوصاً في كتابها "الوجه الآخر للمسرح الغنائي"، الذي تعرض مخطوطته مصحوبة بصور ولوحات للفنانتين ماري لورنسين وكيس فان دونغن، وكلتاهما شاركتاها عشق عالم المسرح.
تجاوزت كوليت حدود الأدب التقليدي كما سبق، وذكرت إلى الصحافة والفن والسينما. فقد كشفت عن نشاطاتها الصحافية المكثفة، التي ترافقت مع أفلام ووثائقيات، عن كاتبة مشدودة إلى نبض عصرها، تقرأ التحولات الاجتماعية والتقنية بعين واعية. وعلى رغم ادعاء بعضهم أنها كانت بعيدة من السياسة، إلا أن كتاباتها تبرهن على وعي عميق بالتحوّلات التاريخية والاجتماعية التي عاشتها فرنسا وأوروبا في النصف الأول من القرن الـ20.
ليس معرض "عوالم كوليت" مجرد احتفاء بذاكرة أديبة فرنسية استثنائية، بل هو قراءة جديدة لعلاقتها بالعالم والزمن والوحدة والفن والحرية. هو محاولة لإعادة صوتها لقلب النقاش الثقافي المعاصر، واستعادة حضورها كامرأة عاشت بشجاعة وكتبت بنبل نادر عن معنى أن تكون امرأة حرة في زمن لا يرحم الحرية.
يرافق المعرض كتالوغ فاخر يضم نصوصاً نقدية وصوراً ورسائل ووثائق نادرة، كتبها عدد من الباحثين المعاصرين، قدموا من خلالها قراءات متجددة لأعمال الأديبة، تكشف عن حداثتها الدائمة وحيوية فكرها من خلال القضايا التي شغلتها، كالجسد والحرية والهوية النسوية والعلاقة بالطبيعة والفن كخبرة في العيش والوحدة والشيخوخة.
المعرض عبارة عن رحلة مزدوجة: أدبية وبصرية، يجول الزائر خلالها بين الكلمات والصور، بين الذاكرة والحلم، تكريماً لامرأة حولت حياتها إلى عمل فني كامل يتنفس الجمال في أدق التفاصيل جاعلاً من العين والحس واللغة طريقاً نحو الحرية.