Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أشباح الحرب الثانية تغزو طوكيو في "غابة اللهب والظلال"

الياباني - الفرنسي أكيرا ميزوباياشي يروي ثلاثة مصائر تتقاطع بين الرسم والموسيقى

طوكيو العام 1944 (المتحف الوطني)

ملخص

 في رواية "غابة اللهب والظلال"، (دار غاليمار- باريس 2025)، يعود الكاتب الياباني - الفرنسي أكيرا ميزوباياشي لزمن الحرب العالمية الثانية ويصوغ من خلالها تأملاً عميقاً في علاقة الإنسان بالفن والألم والذاكرة التي لا تنطفئ، مستنداً إلى ثيماته المألوفة: مناهضة الحروب وما تؤدي إليه، والفن كملاذ أخير ضد الجنون البشري.

تدور أحداث الرواية في قلب طوكيو عام 1944 حيث تتسلل أشباح الحرب في كل شارع لتتقاطع مصائر ثلاثة شبان: الرسام رين ميزوكي الذي يغرق في لوحات غويا وسيزال، وشريكته المستقبلية يوكي التي تشاركه حب الفرشاة والألوان، وبين عازف الكمان المغرم بموسيقى بيتهوفن.

تجمع هؤلاء الرفاق الأحلام نفسها: الفن، الجمال، والبحث عن معنى وسط عالم يتهاوى، لكن القدر مثل عاصفة نارية يبدل كل شيء حين يُستدعى رين إلى الجبهة في منشوريا ويعود منها جريحاً ومشوهاً وفاقداً القدرة على الرسم.

انطلاقاً من هذا التحول يبدأ النص في استكشاف سؤال الخلاص: هل يستطيع الإنسان أن يستعيد ذاته بعد أن يفقد ما كان يعرفه؟ وهل يمكن للحب أن يرمم ما أفسدته الحرب؟ وهذه التساؤلات يجري تأملها من خلال شخصية يوكي عبر حبها القوي لرين، إذ إنها ترفض الاستسلام وتدفعه نحو معركة جديدة: إعادة اكتشاف الرسم بطرق غير تقليدية، بالفم والأنف، حتى بالجذع المعطل.

وتبرز عبقرية ميزوباياشي في تصوير التحول، فالألم لا يُمحى بل يُحول إلى "غابة من اللهب والظلال"، سلسلة من اللوحات الضخمة تصرخ بصمت ضد وحشية الحرب، محولة التراجيديا إلى عمل فني خالد يشهد على قوة الإنسان، لنقرأ "أتذكر، هناك الأحمر والأسود والأخضر والبني والأصفر والرمادي، الألوان تتفجر، تنبثق من كل مكان، إلى اليسار يظهر شيء يشبه جذع شجرة. يبدو أيضاً كجسد، لكن جسداً ممدداً، ركبتاه مطويتان على سرير معلق عمودياً، فوقه تطفو عصا كأنها مزمار سحري، وفجأة، لا أدري لماذا، أرسم عيناً، عيناً عائمة، حمراء، تبكي دماً، تائهة في فضاء الغرفة المظلم، تلك العين المضرجة بالدماء تحدق في الجسد الممدد تحتها لكنها في الوقت نفسه، وفي أعماق ذاكرتي الحية الممزقة، تحدق أيضاً في النار العظيمة التي تلتهم الأشجار، وتطوقني كجدار لا يمكن عبوره".

مركز البريد

يبني الأصدقاء الثلاثة في مركز البريد الذي يعملون فيه روابط صداقة تتجاوز الزمن، مزيجاً من الحب الناشئ والإعجاب المتبادل، كأنه ملاذ من الجنون الذي يحيط بهم، وربما علينا التوقف أيضاً أمام نوع العمل الذي يشترك فيه الأصدقاء، في مركز البريد، عمل يُضفي على الرواية طبقة درامية إضافية، إنه نظام فريد في اليابان نشأ خلال فترة الحرب العالمية الثانية وتحديداً عام 1944، ومع تصاعد القصف الجوي الأميركي على طوكيو وغيرها من المدن، أصبحت شبكة البريد التقليدية معرضة للانهيار، فأُنشئت مراكز تُعتبر جزءاً من الجهود الحكومية للحفاظ على الاتصال بين العائلات المفصولة.

كان العاملون في هذه المراكز، مثل أبطال الرواية، شباباً وفتيات في سن الخدمة الإلزامية يُجبرون على العمل فيها بدلاً من الخدمة العسكرية المباشرة، فيُصنف عملهم "خدمة وطنية"، يقومون بفتح الرسائل، قراءتها، وإعادة كتابة محتواها على بطاقات موجزة، وهذا النظام كان سرياً إلى حد كبير، وكثيراً ما كشف أسراراً شخصية وحميمة.

يصبح هذا المركز مسرحاً للقاء الأبطال الثلاثة، يكتشفون ويتعلمون عن حيوات الآخرين من خلال رسائلهم مما يعزز شعورهم بالارتباط في زمن الفقدان والانفصال، وكأنهم يحافظون على ذاكرة الشعب الياباني بينما تشتعل المدينة حولهم.

تحول فني

يبدو أبطال الرواية مثل رموز حية للصراع الإنساني والتحول الفني، رين ميزوكي، البطل الرئيس، يتجسد كنموذج للرسام المأزوم، يبدأ كشاب حالم يغوص في أعماق غويا ثم يصبح ضحية للحرب يتشوه جسدياً ونفسياً، لكنه يعيد اختراع نفسه عبر الرسم بالفم محولاً إعاقته إلى قوة إبداعية تجعله صوتاً ضد الدمار النووي، ويوكي، شريكته وحبيبته، تمثل الصمود الأنثوي الهادئ، ليست مجرد مصدر إلهام بل محفزة نشطة تدفع رين نحو الشفاء، تجسد الوفاء الذي يتحدى الموت والفقدان، أما بين عازف الكمان ذو الجذور الأوروبية، فيقف كجسر بين الثقافات، شخصية متعددة الأبعاد تتطور من صديق مرح إلى عازف تشيلو مشهور يحمل ذاكرة الحرب في أنغامه، رمزاً للإرث الموسيقي الذي يربط الأجيال، وتُكمل آيا ابنة رين ويوكي الدائرة كوريثة تجمع بين الرسم والموسيقى، تجسد الأمل الجديد.

يبني الكاتب هؤلاء الشخصيات كطبقات مثل لوحة تعبيرية يتداخل فيها ضعفهم وقوتهم، مما يجعلهم مرايا تعكس الحب والظلام في آن واحد، لنقرأ "الرحمة، هي الإحساس الأول في الإنسان بوصفه كائناً حياً، إنها ذلك الشعور الذي يدفعك إلى أن تتألم مع الآخر، بل نيابة عنه، كما قال أحد الفلاسفة في ما مضى، فالفن، سواء كان موسيقى أم رسماً، يقرب الأرواح من بعضها ويفتح الواحدة على الأخرى، لأنه يوقظ فيها تلك القدرة على التعاطف، والقوة الفريدة على التماهي مع الكائن المتألم".

إرث عبر الأجيال

تمتد الرواية عبر عقود، من اليابان المحترقة إلى باريس النابضة بالحياة، حيث تنتقل عائلة رين، بما في ذلك الابنة آيا، عازفة الكمان التي ترث موهبة رين، لتؤسس معرضاً ينشر إرث لوحاته، وهذا الجسر بين الشرق والغرب ليس مجرد انتقال جغرافي، بل احتفاء بثقافة أوروبا كمصدر إلهام، من الموسيقى إلى اللوحات التعبيرية.

ترى آيا والدها رين وهو يرسم بفمه بعد إعاقته، تشهد عملية التحول المؤلمة من اليأس إلى "غابة اللهب والظلال"، وتنمو محاطة بلوحاته الضخمة في البيت، فتصبح لغة الرسم جزءاً لا يتجزأ من هويتها، أما الموسيقى فتأتيها من بين، صديق والدها ووالدتها من أيام العمل في مركز البريد، يصبح بين معلماً لها على الكمان منذ طفولتها، وبعد الحرب يعود من أوروبا كعازف تشيلو مشهور، ويعيش مع العائلة في طوكيو، ثم ينتقلون معاً إلى باريس، حيث يعلمها تقنيات بيتهوفن وفيفالدي، ويجعل الموسيقى "صوت اللوحات" الذي تراه آيا بعينيها. أما يوكي، الأم الداعمة، فإنها تُكمل الدائرة مثل محفز مشترك، تدفع رين للرسم وتشجع آيا على الكمان، فتجعل الفنين متكاملين في حياة ابنتها.

فعل مقاومة

يظهر الفن في الرواية كقوة أخلاقية تمنح الإنسان إمكان النجاة، إن رين، بعد إصابته، لا يستعيد ذاته عبر الشفقة أو الحنين، بل عبر إعادة اكتشاف الرسم كوسيلة لفهم ما حدث له وللعالم. الفن هنا هو مقاومة ضد العدم وضد الحرب التي تحول البشر إلى رماد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتميز أسلوب الكاتب بنبرة هادئة وتأملية، كأنها تنبع من هواء طوكيو الملبد بعد الغارات، لغته مشحونة بالصور، لكنها تميل إلى البساطة، وتفتح المجال أمام التأمل، يقول: "لم يُسمع خلال العزف بأكمله أدنى نَفَس من المستمعين الثلاثة، وحين هم بين بإزالة الأسطوانة، سألته يوكي إن كان بإمكانها أن تستمع إلى المقطوعة مرة أخرى، فهز رأسه مبتسماً بسعادة، وخلال الدقائق الثماني وأربع وثلاثين ثانية من تلك الموسيقى السماوية، تحقق نوع من الاتحاد الروحي بين الأرواح الثلاث المنصتة لتلك الأنشودة البالغة الروعة المنبعثة من الآلات الوترية، أنشودة قادرة على طرد شيطان العنف، وتهدئة آلام الجرحى، وتسكين عذاب الموتى، وبذر بذرة السلام في كل قلب".

بين الشرق والغرب

الرواية ليست مجرد سرد تاريخي بل هي تأمل فلسفي في كيفية تحول الجرح إلى جمال والفقد إلى إلهام. الكاتب يترك القارئ يتساءل: هل يمكن للفن وحده أن يعيد بناء ما دمرته القنابل؟ الإجابة تكمن في تلك الغابة المتقلبة بين اللهب والظل، ومع انتصار الروابط الإنسانية في النهاية، وما يميز أدب أكيرا ميزوباياشي هو هذا المزج النادر بين الحس الياباني بالتأمل، والنَفَس الفرنسي الإنساني. هو لا يكتب حكاية حب في زمن الحرب، بل أراد تقديم حوار بين ثقافتين: بين الفن الغربي الذي يثير الإعجاب لدى الشخصيات، وجذور شرقية تبحث عن طريقها بين التقليد والحداثة، وهكذا يبدو الكاتب، وكأنه يقول لنا إن الانتماء لا يكون جغرافياً، بل ثقافياً وروحياً، فالفن هو اللغة المشتركة التي تعبر النار والظلال معاً.

في "غابة اللهب والظلال"، نقرأ لهجة كاتب يؤمن بأن الإنسان، مهما خسر، يظل قادراً على الحب، على الإصغاء، وعلى الإبداع.

ويشير عنوان الرواية إلى هذا التناقض الذي يرافق الإنسان بعد الحرب: النار التي تدمر، والظلال التي تبقى بعدها، لكنها ليست ظلال الموت فقط، بل ظلال الحياة التي تتكون من جديد .الغابة رمز للتيه والبحث، واللهب رمز للفناء، لكنهما معاً يشكلان مسار التحول الذي يسلكه البطل نحو ذاته.

يُعد أكيرا ميزوباياشي، أحد أبرز الأصوات الأدبية اليابانية المعاصرة التي اختارت الكتابة باللغة الفرنسية، وُلد في طوكيو عام 1951 ودرس الأدب الفرنسي في اليابان قبل أن يكمل دراساته العليا في باريس، حيث اكتشف لغة فولتير وجعلها أداته الأولى في التعبير الأدبي، ونال شهرة واسعة بفضل روايته "الروح المكسورة" الصادرة عام 2019، والتي تُرجمت إلى لغات عدة ونالت جائزة الكتاب الفرنسيين، وفي أعماله اللاحقة مثل "ملكة القلوب" و"حب لألف عام"، واصل الكاتب الكتابة عن مواضيعه الأثيرة: الموسيقى، الذاكرة، الحرب، والبحث عن الخلاص الإنساني عبر الفن.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة