ملخص
إدراك رينوار لهذه الحقيقة هو الذي جعل تلك المرحلة في حياته تعبر بسرعة ليستعيد الفنان حرية تعبيره وألقه الفني. ومهما يكن من أمر فإن تلك المرحلة لم تضع سدى. وذلك لأن رينوار حتى وهو يرسم نساء لوحاته ونساء جامعي اللوحات، عرف كيف يجعل تطوره الانطباعي المتأصل ينسف الكلاسيكية القديمة في تلوينات بالغة الثراء وحيوية تشكيلية أنقذته من المطب الذي وقع فيه.
في سنوات الثمانينيات من القرن الـ19، لا سيما بعد مرحلة تزعم فيها الفنان الفرنسي بيار أوغوست رينوار تيار الانطباعية في الفن التشكيلي في بلاده وربما في أوروبا كلها، وقد حل على تلك الزعامة محل رفيقيه إدوارد مانيه وكلود مونيه، أحس هذا الرسام أنه بات أمام طريق مسدود وأن كل الفن الذي يمارسه لم يعد يرضيه.
صحيح أن في إمكاننا اليوم أن ندرك أن كل أفكاره حينذاك عن هذا الموضوع كانت مجرد نزوة سيتبين أنها عابرة، لكنها أوقعته في أزمة حقيقية وجعلته يبدو وكأن ضروب إلهامه انتهت وأنه بات قادراً على التراجع عن كل التجديدات التي كان حققها وبوأته زعامة ذلك التيار الذي انطلق عند بدايات الربع الثالث من ذلك القرن يعم العالم وليس فقط من حيث انتشاره وتلقيه بحماسة وإقبال من جانب هواة الفن والنقاد، بل أيضاً من حيث إقبال جامعي اللوحات المحليين والأجانب، الأميركيين والروس بخاصة، على شراء اللوحات الانطباعية.
وإذا صدقنا ما يرويه جان رينوار، ابن الرسام الذي سيصبح لاحقاً واحداً من ملوك السينما الانطباعية في فرنسا، في الكتاب الرائع الذي وضعه عن أبيه وعلاقته به بعنوان "رينوار أبي"، إذا صدقنا سنكتشف كيف أن العائلة كلها قد عاشت تلك المرحلة في بحبوحة بفضل إقبال الجامعين على ما ينتجه الأب الكبير من لوحات.
ومن هنا ربما ينبع سؤال محق: إذا كان هذا صحيحاً، وثمة كثير من الدلائل على صحته... ما الذي حرك ذلك التأزم لدى بيار أوغست؟ من المؤكد إذن أننا لسنا هنا مع رينوار الأب أمام أزمة معيشية أو مالية، بل أزمة إبداع حقيقة دفعت الرسام إلى التساؤل حول جدوى الفن الذي يمارسه.
كايبوت غير المرغوب به
غير أن ثمة في الوقت نفسه أموراً يمكن أن تكتشف من كتاب "رينوار أبي" الذي سيضعه الابن بعد عقود من تلك المرحلة، بل حتى من رحيل الأب الرسام. ومنها بصورة خاصة، الكراهية التي لا يكف جان رينوار عن التعبير عن شعوره بها تجاه غوستاف كايبوت وهو بدوره رسام بدا في كثير من لوحاته شديد القرب من الانطباعية غير أن أهميته في الحياة الفنية الفرنسية عند نهايات القرن الـ19 لم تقتصر على ذلك، بل نبعت أيضاً، وربما بخاصة، أول الأمر على أية حال، من كونه ثرياً كرس مبالغ كبيرة للإنفاق على رفاقه الفنانين الانطباعيين، وأحياناً غير الانطباعيين، عبر شراء لوحاتهم التي يعجزون عن بيعها، ناهيك بتوسطه لدى أصدقاء أميركيين من معارفه لشراء عديد من تلك اللوحات.
ومن المؤكد أن هذا الجانب "غير الفني" من حياة كايبوت كان هو ما أثار ثائرة جان رينوار ضده، وجعله يعبر عن ذلك في صفحات عديدة من كتابه متناسياً بصورة صادمة أن كايبوت كان فناناً بدوره. لكن ما نود أن نتساءل حوله إنما يتعلق بما إذا كان كايبوت قد لعب، وغالباً من دون أن يدرك، أن الفتى جان يراقبه ويراكم من الذكريات والملاحظات ومن المشاعر العدوانية ما سيشكل فصولاً من كتابه لاحقاً. معتبراً أنه هو من لعب دوراً من قريب أو من بعيد في تأزم أحوال رينوار الأب وجعله يقرر ذات يوم أن يتراجع عن حرية الانطباعية والواقعية إلى نزعة كلاسيكية جعلت فنه يبدو، خلال المرحلة التي نشير إليها في الأقل، محاكاة ولو محدثة بعض الشيء لفن القصور البورجوازي الفرنسي كما تجلى قبل ذلك بقرن ونيف في الصالونات الفرنسية تحديداً وربما بخاصة من خلال نتاجات فرنسوا بوشيه الفنية التي غالباً ما صورت نساء في حياتهن الحميمية يبدون معها وكأنهن جزء من الأثاث المنزلي البديع والفخم.
نساء بين بوشيه ورينوار
ويحيلنا هذا على أية حال إلى ما عبر عنه الأب الرسام عبر تفسير مقتضب لتوجهه "الجديد" هو الذي كان لا يتوقف عنه في مجالسه الخاصة بين خلانه بأنه لم يعد يعرف في أزمته ما إذا كان يرسم أو يخط اسكتشات. وأن ثمة ما يناديه إلى اتباع الدروس الفنية التي يمكن تلمسها لدى أسلاف كلاسيكيين كبار يبدأون برافائيل النهضوي الكبير ليصلوا إلى إنجرز صاحب الكلاسيكية المحدث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقيناً فإن السير على خطى هؤلاء لم يكن أمراً تشوبه أية شائبة، لكن المشكلة الجديدة التي وقع فيها صاحبنا الفنان كانت أنه بدلاً من أن يحقق انطلاقاً من هذا التفكير، فناً يحاكي ما يتطلع إليه، كان عليه أن يحقق فناً يحاكي فرنسوا بوشيه. لا سيما بالنسبة إلى النساء العاريات اللاتي راح يرسمهن بوفرة غير دار أنه بات يكاد يصبح فناناً تجارياً.
وربما في عودة منا هنا إلى الجذور التي كانت في خلفية كراهية رينوار الابن لكايبوت، سنجد هذا الفشل الذي قاد الأب إلى أن يصبح، ولو لفترة يسيرة من مساره الفني، بوشيه جديداً بدلاً من أن يكون رافائيل مجدداً أو حتى إنجرز محدثاً.
فالواقع أن كايبوت كان وربما لإشفاقه على صديقه الرسام راغباً له في تجاوز أزمة تلك السنوات، لا يكتفي بشراء لوحات النساء العاريات، التي لم يكن هو على أية حال يستسيغها بوصفه فناناً أصيلاً، إنما يجد فائدة في الحصول عليها بوصفها صفقات تجارية جيدة، لا يكتفي بذلك بل يروج لهذا التوجه الفني الجديد لبيار أوغست رينوار لدى كل أولئك الذين راح يتصور أنهم سيدفعون مقابل اللوحات أثماناً جيدة، وهم بالطبع كبار الجامعين وتجار الفن الذين، وهنا بحسب ما نفهم من كتاب جان الابن، باتوا زبائن الأب الأكثر حماسة.
في بيوت الأثرياء
ومهما يكن من أمر هنا، وقبل أن نواصل الكلام في هذا السياق قد يكون من المفيد أن نذكر أن ذلك التوجه لن يدوم طويلاً وذلك لأن رينوار وبعدما خاض تلك الممارسة الكلاسيكية التي استقبلت بوجوم من قبل الانطباعيين، الذين لم يعودوا يخفون عن رفيقهم الكبير أنه بات الآن يدمر فنه، لا سيما حين راح الجامعون الأثرياء يتدفقون عليه ليس فقط لشراء ما يرسم، بل لدعوته إلى بيوتهم كي يرسم على سبيل "التوصية" بناتهم وزوجاتهم في تناقض تام مع حرية الإبداع التي كانت وظلت تعد شرطاً أساساً للفن الكبير.
ومن المؤكد أن إدراك رينوار لهذه الحقيقة هو الذي جعل تلك المرحلة في حياته تعبر بسرعة ليستعيد الفنان حرية تعبيره وألقه الفني. ومهما يكن من أمر فإن تلك المرحلة لم تضع سدى. وذلك لأن رينوار حتى وهو يرسم نساء لوحاته ونساء جامعي اللوحات على طريقة بوشيه، عرف، وهذا هو السياق الذي نعود إليه هنا كما أشرنا قبل سطور، عرف كيف يجعل تطوره الانطباعي المتأصل ينسف الكلاسيكية القديمة في تلوينات بالغة الثراء وحيوية تشكيلية أنقذته من المطب الذي وقع فيه، وقد أنقذته في الوقت نفسه من أزمته السابقة... أما ثمن ذلك كله فقد كان كايبوت هو من دفعه، وفي الأقل في السمعة السيئة التي وسمه بها جان رينوار ملقياً عليه عبء أزمات والده متجاهلاً أنه هو الآخر فنان كبير له أزماته وكان من فضائله على الرسام الأب تلك المحاولات التي بذلها لإنقاذه فنجحت ولكن... من حيث لا يدري، على طريقة "رب ضارة نافعة".