ملخص
"يوميات طبيب شاب" هو مسلسل مسلسل مقتبس من كتاب بتوقيع ميخائيل بولغاكوف بالعنوان نفسه حاز منذ عقود شهرة عالمية، ليس فقط لأنه مؤلف واحدة من أشهر الروايات في الأدب الروسي في القرن الـ20، "المعلم ومارغريتا"، بل كذلك لأنه، بسبب هذا الكتاب الأخير بالذات، اشتهر بكونه من بين الكتاب الروائيين الروس، صاحب المشكل الأكثر تعقيداً في الزمن الستاليني.
صحيح أن الرقم لا يبدو مذهلاً في حسابات المشاهدات الهائلة لأيامنا هذه، والتي تتعلق بالمسلسلات التلفزيونية الناطقة بالإنجليزية. ففي نهاية الأمر لا يبدو رقم 257 ألف متفرج الذين تابعوا خلال موسمين موزعين على ثماني حلقات مسلسلاً بثته محطة "سكاي آرتز" البريطانية في موسمي عامي 2012 و2013، عدداً كبيراً، لكنه في التمحيص سيبدو لنا مهماً بالنسبة إلى مسلسل يبدو منذ عنوانه شديد الكآبة والمحدودية، حتى وإن كان من بطولة الممثل الذي كان خارجاً لتوه من نجاحات عمله الكبير الأول "هاري بوتر" في أفلامه المتعددة دانيال رادكليف.
العنوان هو "يوميات طبيب شاب". ولا بد أن نشير منذ الآن إلى أن ثمة عنصراً أدى دوراً نخبوياً على أية حال في نجاح المسلسل المحدود، وهو أن المسلسل مقتبس من كتاب بتوقيع ميخائيل بولغاكوف الذي حاز منذ عقود شهرة عالمية، ليس فقط لأنه مؤلف واحدة من أشهر الروايات في الأدب الروسي في القرن الـ20، "المعلم ومارغريتا"، بل كذلك لأنه، بسبب هذا الكتاب الأخير بالذات، اشتهر بكونه من بين الكتاب الروائيين الروس، صاحب المشكل الأكثر تعقيداً في الزمن الستاليني.
أما كتابه المقتبس منه هذا المسلسل فيروي التجارب الحقيقية التي عاشها خلال الثورة الروسية، عام 1917 ثم خلال الحرب الأهلية الروسية التي تلت تلك الثورة في نهايات ذلك العقد الثاني من القرن الـ20 حين كان لا يزال طبيباً متخرجاً منخرطاً في الخدمة الصحية للثوار حيناً، ولأعداء هؤلاء من مقاتلي الحرس الأبيض الرجعي في أحيان أخرى.
"طبيبان" في واحد
بيد أن ما يمكن اعتباره جديداً هنا، في عالم هذا النوع من كتابة اليوميات المبنية على وقائع هو ما عبر عنه المسلسل بصورة جيدة، أي تلك المحاكمة العميقة التي يجريها الطبيب لذاته ولماضيه، بعد أكثر من عقدين مرا على التاريخ الذي يسجله في يومياته، أي النصف الأول من العقد الرابع حين بات طبيباً معروفاً وكاتباً يخط طريقه نحو الشهرة، فراح يقرأ يومياته القديمة ويتناقش في شأنها مع ذاته في مشاهد أخاذة اجتمعت فيها الشخصيتان معاً في حوارات بديعة لا شك أنها صنعت جزءاً كبيراً من قوة المسلسل.
ومهما يكن فإن المسلسل نفسه، كما اليوميات، إنما يدور في مدينة روسية متخيلة، وتحديداً في مستشفى تلك المدينة الريفية، حيث يعمل الطبيب بولغاري فور تخرجه وبمفرده كطبيب مقيم وسط عدد من ممرضات ومتدربات في وقت راح فيه الجرحى والقتلى يتدفقون على المستشفى ما يشغله ليلاً نهاراً ولا يحميه من ارتكاب الأخطاء والغرق في ضروب اليأس والأسئلة اللاحقة. وهو ما سيواجه فيه أناه الآخر بعد سنوات عديدة في الموسم الثاني من المسلسل وبعد انقضاء سنوات طويلة على الأحداث التي تروى لنا في الموسم الأول، ومنها حكايات غرام وهيام وانفصال وخيانات شخصية، وما إلى ذلك وسط أسئلة سياسية، بل حتى مواقف غريبة يذكر بعضها على أية حال ببعض أشد مواقف "المعلم ومرغريتا" حدة وغرابة، علماً أن بولغاكوف قد كتب يومياته في عامي 1924 – 1925، أي في زمن طويل قبل كتابته روايته الكبرى التي تعد عمله الأساس، ولا شك أن في إمكاننا أن نتعرف على إرهاصات له في هذه اليوميات بالذات.
مزيج مبتكر
بيد أن المجال الذي جدد فيه هذا المسلسل وعلى الطريقة الإنجليزية الأخاذة عادة، هو السيناريو. ففي أصل هذا الأخير، هناك بالطبع تلك المجموعة الكبيرة من القصص القصيرة التي صاغها الكاتب بصورة إبداعية غير واقعية تماماً، اقتباساً من تجاربه التي عاشها حقاً، كما أشرنا، غير أن الأهم من هذا كان ما أقدم عليه كتاب السيناريو بكل جرأة حين مزجوا قصص بولغاكوف عن مرحلة شبابه في الأرياف، بسيرته الذاتية غير مروية بقلمه هذه المرة، بل مستقاة من سيره العديدة المعروفة، والتي لم يدونها هو بنفسه. وهذا ما يبدو أكثر وضوحاً بصورة خاصة في الموسم الثاني من المسلسل، وبخاصة في تلك الجزئية التي تصور لنا المجابهة بين الطبيب والكاتب المتقدم في العمر، وذاته حين كان شاباً.
وبكلمات أخرى بين بولغاكوف وهو يتذكر ماضيه وارتباكاته في ممارساته الأولى لمهنته الطبية كما ارتباكاته المضحكة هذه المرة أمام أولى الغراميات التي يعيشها داخل المستشفى، من دون أن يكون قد أعد نفسه لها، وكل ذلك وسط أوضاع سياسية وأمنية بالغة الصعوبة - وهي على أية حال تتوزع على مشاهد تصل أحياناً إلى حدود الهزل المضحك بفعل الأخطاء التي يرتكبها الطبيب الشاب، ولا سيما في مجال استخدام الأفيون مخدراً وما شابه ذلك في العمليات الجراحية، ناهيك بارتباكاته النسوية.
واللافت هنا هو أن في مشاهد ذكريات الماضي في العقد الرابع كثيراً ما يحدث أن يظهر الطبيبان معاً في مشاهد مشتركة يبدو فيها بولغاكوف المسن وكأنه شبح آتٍ من المستقبل كما في مشاهد أخرى تدور من حول هذا الأخير، ولكن يحضر فيها خريج الطب الشاب وكأنه بدوره شبح آتٍ من الماضي، مما يدفعنا إلى التساؤل أيهما يعلم الآخر الآن.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أنه لا شيء من هذه المشاهد مأخوذ من قصص الطبيب الشاب، بل ينتمي إلى حياة الطبيب المتقدم في العمر، والذي يتفحص ماضيه الآن في مزيج من الحنين والندم على الزمن المنقضي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعجوبة فنية صغيرة
ولعل اللافت في هذا كله هو أن اللعبة السيناريستية قد حققت نجاحاً نادراً في عالم التلفزة، حيث بدلاً من أن يؤدي هذا المزج بين الماضي والحاضر، وبين الواقع الملموس وسيل الذكريات، تمكن السيناريو من أن يوضح أموراً كثيرة بدلاً من أن يغمرها بغموض يمكن توقعه.
وبدا المسلسل في جزئيه بعد كل شيء أقرب إلى أن يكون سيرة جانبية للكاتب الكبير بأكثر مما هو سرد مواجه لطبيب يروي ذكرياته، مما عاد على هذا المسلسل بجوائز كبيرة عدة عززت مكانته في عالم الإبداع التلفزيوني، بل حتى جعلت مخرجاً روسياً كان استبق ذلك المسلسل قبل ظهوره في موسمه الأول عام 2012 بفيلم حققه في بلاده عن قصص بولغاكوف القصيرة نفسها، جعلته يبدي ندمه، إذ "ليتني انتظرت ظهور المسلسل قبل اشتغالي على كتابة فيلمي، حيث بدت تقنية العمل التلفزيوني هذا أكثر واقعية ونجاحاً مما فعلته أنا، إذ اكتفيت بأفلمة مجموعة من القصص القصيرة، من دون أن أنتبه إلى الجانب الذاتي المتعلق ببولغاكوف فيها بما يكفي...".