ملخص
في مساء قارس من ديسمبر (كانون الأول) 1985، كانت نيويورك تضج بصخبها المعتاد، حين انشق هدير المدينة على وابل من الرصاص أمام مطعم فاخر في قلب مانهاتن. وسط الفوضى والذعر، سقط بول كاستيلانو، زعيم عائلة "غامبينو" الإجرامية، مضرجاً بدمائه على الرصيف. لم يكن أحد ليتخيل أن الرجل الذي حكم عالم الجريمة بالحديد والنار، وجمع ثروته من الابتزاز والصفقات المشبوهة، كان يحتفظ في قصره الفخم في "لونغ آيلند" بقطعة أدبية نادرة، تحمل توقيعاً بالحبر الأخضر لاسم ينتمي إلى عالم آخر تماماً: جاك كيرواك (1922–1969)، أيقونة جيل الـ"بيت" وصوت الحرية والتشرد الأميركي.
المدهش في هذه القضية ليس فقط العثور على نص جديد لجاك كيرواك، بل الرحلة الغامضة التي سلكها هذا النص حتى خرج من ظلال المافيا إلى الضوء. ولا تختلف قصة العثور على النص عن كثير من الاكتشافات التي طواها النسيان. أثناء تصفية ممتلكات بول كاستيلانو، وكان ورثته يستعدون لبيع قصره الفخم في لونغ آيلند، لمح أحد المتخصصين بين التحف والساعات الذهبية مظروفاً جلدياً مهترئاً، بدا كأنه لا يخبئ شيئاً ذا قيمة، حتى فتح ليكشف عن كتيب صغير من صفحتين كتبتا على الآلة الكاتبة، وفي أسفلهما توقيع باهت بالحبر الأخضر: جاك كيرواك.
كيف وصل هذا النص إلى وكر المافيا؟ وما الذي يجمع بين كاتب جعل من الارتجال طريقاً للحرية، ورجل مهر في تدبير الخطط؟ هل التقت الروحان صدفة في لحظة من عبث القدر، أم أن خيطاً خفياً يربط بينهما: كاتب نقب في عتمة الإنسان، وزعيم عاش فيها؟
وصفت صحيفة "الغارديان" البريطانية الأمر بأنه "مفارقة تكاد تنتمي إلى رواية بوليسية"، مشيرة إلى أن العثور على النص بين مقتنيات زعيم مافيا "يشكل جسراً غريباً بين أدب التمرد والسلطة المظلمة للعالم السفلي"، أما "نيويورك تايمز" فذهبت إلى أن "المخطوط، إذا صحت نسبته، يكشف الوجه الآخر لأميركا الخمسينيات: أمة يكتب أحد أبنائها عن الحرية على الطرق، بينما يبني آخرون إمبراطوريات من الخوف".
في المقابل، رأى بعض النقاد أن القصة نفسها تحمل روح فيلم نوار كلاسيكي، حين "يلتقي الشاعر المتجول بالقاتل الأنيق في مشهد واحد"، بينما يرجح آخرون أن كاستيلانو، المعروف بشغفه بالمقتنيات النادرة، ربما احتفظ بالمخطوط كقطعة فنية يفاخر بها أمام ضيوفه، من دون أن يدرك أن بين يديه إرثاً من أكثر نصوص الأدب الأميركي تمرداً.
أياً تكن الحقيقة، فإن وجود نص غير منشور لكيرواك في أرشيف رجل قتل بوابل من الرصاص يضيف طبقة جديدة إلى أسطورة الكاتب الذي عاش حياته متنقلاً بين الحانات ومحطات القطار، يكتب عن المنبوذين والمطاردين والحالمين بالحرية.
رسالة من العالم الآخر
جرى بيع المقتنيات في مزاد خاص، اشترتها شركة أميركية تعرف باسم Your Own Museum، المتخصصة في الآثار الأدبية والقطع النادرة. لم يدرك القائمون على الشركة في البداية أهمية الوثيقة، حتى بدأت سلسلة من عمليات التحقق الدقيقة التي شملت فحص الورق ونوع الحبر وتاريخ الآلة الكاتبة المستخدمة. وبعد أشهر من التحليل المخبري، أكدت شركة توثيق مستقلة تدعى Proper & Verified أن المخطوط يعود إلى عام 1957، أي إلى الفترة نفسها التي كان كيرواك يكتب فيها روايته الأشهر "على الطريق"، كما تطابق التوقيع تماماً مع نماذج مؤكدة من خط يده، فوصف المتخصصون الاكتشاف بأنه "حلقة مفقودة" في مسيرة كيرواك. وقالت الشركة في بيان: "لقد ظلت في حيازة خاصة، محفوظة بعناية فائقة، لأكثر من ستة عقود. إنها تمثل رابطاً مباشراً وملموساً بلحظة تفجر جيل البيت في الوعي الأميركي".
لا يعرف حتى الآن كيف أو متى وصل إلى يد بول كاستيلانو النص المعنون بـ"القديس والمنهك والجنون القادم"، الذي يعد بمثابة "الفصل المفقود" من روايته الأشهر على الطريق. كتبت القصة في اللحظة ذاتها التي كان فيها كيرواك يعيد رسم حدود الحرية والجنون في الأدب الأميركي، فهل وصلت إلى كاستيلانو مصادفة عبر شبكة من التجار والوسطاء؟ أم اقتناها عمداً كما كان يفعل مع التحف واللوحات النادرة التي ملأت قصره الفخم في "لونغ آيلند"؟
بحسب الشركة المالكة الجديدة، يعتقد أن المخطوطة كانت قد أهديت في الأصل إلى شاعر من دائرة شعراء جيل الـ"بيت" في سان فرانسيسكو، قبل أن تنتقل بطريقة غير معروفة إلى نيويورك.
كان كيرواك معروفاً بعادته الغريبة في تلك المرحلة الخصبة من حياته الأدبية: كتابة كتيبات صغيرة على أوراق طويلة يطويها بنفسه، ثم يهديها للأصدقاء والعشاق والرعاة، كمن يريد أن يرسل إشارات من العالم الآخر.
فصل آخر من "على الطريق"
تحمل المخطوطة عنواناً فرعياً هو حكاية موجزة، ويرجح الباحث البريطاني ديف مور أن كيرواك كتبها أثناء وجوده في لندن في ربيع 1957، حين كان يعيش حياة متقلبة بين العواصم والمدن، باحثاً عن الإلهام في الطرق والوجوه العابرة. يرى مور أن النص "يمثل جسراً مفقوداً بين الكتابة الأولى لـ’على الطريق‘ ورؤيته المتأخرة للعالم"، إذ يكشف عن كيرواك في ذروة نضجه الأسلوبي، حين كانت اللغة تنفلت من القواعد لتصبح صوتاً للحياة بكل تناقضاتها.
القصة تعيد سرد مشهد من رواية "على الطريق"، لكن بنغمة أكثر حيوية وحسية، يقول المقطع الافتتاحي منها: "وصلنا دنفر ومؤشر الوقود يلامس الصفر، وسيارة الهدسن تسعل غبار ألف ميل في الصحراء. كانت تلك الفترة البرية، المقدسة والمجنونة، حين كان دين وأنا لا نفترق، نصفين لعملة ضائعة ومكتشفة من جديد...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على قصره، يختزل النص روح كيرواك المتمردة، موسيقى الطرق السريعة، وحيوية الشباب، والبحث عن الحرية المطلقة وسط ضجيج العالم. كان الكاتب يستخدم أسماء متخيلة لأصدقائه من جيل "البيت": فـ"دين" هو نيل كاسادي، و"ماريلو" هي لويان هندرسون، و"كارلو ماركس" هو الشاعر ألن غينسبرغ.
قفص الحرية
يرى النقاد أن النص لا يقدم مشهداً جديداً فحسب، بل يعيد تعريف النغمة التي صاغ بها كيرواك على الطريق، كأنه كان يختبر صوته قبل أن يصهره في عمله الأكبر. ولهذا وصف بأنه "الفصل الضائع النموذجي"، قطعة صغيرة لكنها مكتملة من العالم الذي جعل كيرواك أيقونة للتمرد الأدبي في خمسينيات أميركا.
حين كتب على الطريق عام 1951، رفضها الناشرون واحداً تلو الآخر، فقد بدا أسلوبها المتدفق ومحتواها الصريح صادمين لذائقة الخمسينيات المحافظة، إذ تجرأت على مقاربة الممنوعات والمخدرات والعلاقات المثلية، وعلى طرح أسئلة وجودية جريئة عن معنى الحرية والبحث عن الله في الطرق السريعة. ستة أعوام ظلت الرواية تنتظر من يجرؤ على نشرها، حتى صدرت أخيراً عام 1957 فقلبت المشهد الأدبي رأساً على عقب، معلنة ميلاد جيل جديد من الكتاب الحالمين بالخلاص.
يلخص كيرواك روح رحلته في رسالة إلى أحد أصدقائه: "شرعنا، أنا ودين، في رحلة عبر أميركا ما بعد ويتمان، لإيجاد الأميركا التي نتخيلها، وإيجاد الخير المتأصل في الرجل الأميركي. كانت حقاً قصة عن رجلين كاثوليكيين يجوبان المدينة بحثاً عن الله، وقد وجدناه".
فهل كان يتخيل أن نصه الذي ولد على قارعة الطريق سيحبس في خزانة مغلقة لأكثر من 60 عاماً؟ أم أن رحلة البحث عن الله كانت تقوده، من دون أن يدري، إلى العالم السفلي؟