Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بازوليني يروي حكايات "أولاد الحياة" في ضواحي روما

رحلة قاسية وغير آمنة إلى قاع المدينة عبر فتيانها الفقراء

السينمائي والشاعر والروائي الإيطالي بازوليني (مؤسسة بازوليني)

ملخص

صدرت رواية "أولاد الحياة"، للكاتب والشاعر والسينمائي الإيطالي بيير باولو بازوليني (1922-1975) في ترجمة عربية أولى، أنجزها عن الإيطالية الكاتب رامي طويل. وفيها يروي بازوليني العالم السفلي لمدينة يعيش فيها الشباب الفقير.

ولد بيير باولو بازوليني عام 1922، بعيد الحرب العالمية الأولى، وقبل الحرب العالمية الثانية التي جرت خراباً وموتاً وتصدعاً للبنى الاجتماعية لا مثيل لها، في بلدان أوروبا، والعالم، ولا سيما في بلد الكاتب إيطاليا، وعاصمتها التي كانت نهباً للصراعات المدمرة بين الفاشية والأحزاب الشيوعية وغيرها.

قصة الرواية

قد لا تظهر الحبكة القصصية جلياً، في سياق رواية "أولاد الحياة" التي صدرت بالإيطالية، وبلهجة الرومانسكو، وما لبث أن عدل فيها لتناسب القراء الإيطاليين العاديين. إذاً، تدور أحداث الرواية، في روما بعيد الحرب العالمية الثانية، وجل شخصياتها مراهقون من الطبقة البروليتارية الرثة، يقوم على قيادتهم مراهقٌ منهم يلقب بالمجعد، أو ريتشيتو بالإيطالية. ولعل القاسم المشترك بين هؤلاء المراهقين، وزعيمهم ريتشيتو، أنهم كانوا يعيشون على ما يسرقونه، أو تقع أيديهم عليه، ليعاد بيعه، لإبقائهم على قيد الحياة، في ظل فقر مدقع، وانهيار الأوضاع المعيشية اللذين كان أهلوهم يقبعون فيهما.

أما الفتى ريتشيتو، والذي كان هائماً في الشوارع، فيكتشف أن ثمة إمكانيات كثيرة للعيش، على حساب الآخرين، وذلك بعد أن يتناول سر القربان، والتثبيت، (وهما سران في الكنيسة الكاثوليكية، تؤهلان المؤمن، البالغ عشر سنوات أو تسعاً، لكي يتقبل جسد المسيح في القربانة، وسر التثبيت أي ترسيخ انتمائه إيمانياً إلى تعاليم الكنيسة) في عام 1943. وفي إثر ذلك، نرى الفتى يسرق أعمى، ومن ثم ينتقل من السرقة إلى الاحتيال، فإلى ممارسة الدعارة (المثَلية)، في حين يُقتل زملاؤه أو يموتون جوعاً ومرضاً. وفي آخر المطاف، يُقبض على ريتشيتو، أو المجعد، متلبساً بجريمة سرقته الحديد وبيعه لأجل أن يشتري لخطيبته سلسلة من ذهب. وما إن يُطلق سراحه حتى يعود إلى سابق عهده من حياة الشارع.

ما بقي لفتيان الضواحي

لكن الثورة التي أحدثتها الرواية حال صدورها، لم تكن بسبب مخالفتها قواعد أخلاقية مفترضة، على ما ادعت بعض المراجع النقدية، في الدعوى المقامة ضد الرواية عام 1954، - والتي انتهت إلى تبرئة بازوليني من التهم الموجهة إليه لغياب الدليل- وإنما بسبب تسليطها الأضواء على حياة الفقراء والمهمشين في ضواحي روما، ممن تنوء بهم الشوارع المتسخة، ونهر التيبر الملوث بما كانت المصانع، في حينه، ترمي فيه سوائلها الكيماوية. فلا يبقى لهم من حياة الضواحي سوى السباحة في مياهها، وتجزية أوقاتهم العديمة القيمة بالسرقة، والنهب، والاحتيال، وتحدي رجال الشرطة، حيثما أتيح لهم ذلك. وما بقي لهم كذلك، على ما تبينه الرواية، الهروب من واقع عائلي مرير، قائم على فقر مدقع، وخلافات شديدة بين الأهل، وآباء عنيفين، وإخوة مسوقين إلى العدالة، وأمهات خاضعات كلياً لأزواجهن، وأفق مستقبلي مسدود بتحول المدارس إلى مراكز إيواء لآلاف من المهجرين من قراهم وبيوتهم، بفعل الأعمال الحربية، لأكثر من سبع سنوات خلت.

والواقع أن بازوليني، ولئن سبقه غيره إلى وصف حياة الناس العاديين عبر الأفلام نظير ما فعله روبرتو روسليني إذ تناول بوصفه الناس العاديين، فإنه قصد تصوير الطبقة الأقل من العادية، أي الطبقة المعدومة، من الفقراء، ومصابي الحروب، والمهجرين، والمهمشين، والذين تأبى مدينة روما- بحسبه- الإقرار بوجودهم، وتفضل إبقاءهم في الظل، بل في العتم، حتى لا يُساء إلى تطلعات الطبقة الميسورة، مالكة مفاتيح الثروة، والرفاه، والعافية، والانسجام الأخلاقي.

وبناء على ما سبق، لا يُعتبر الفتى ريتشيتو، أو المجعد، البطل الأوحد، وزعيم شلة الفتيان من أترابه، من هذا المنظور، (أمثال آنيولو، وأوراتزيو، ومارشيللو، وأميريغو، وآلدوتشو، وغيرهم) وإنما يختار المؤلف أن يجعل سيرته المخلصة، نوعاً ما، نموذجاً لسيَر رفاقه المشار إليهم، وسط إطار أقل ما يقال فيه إنه محبِط ومدعاة للأسى وللتمرد من قبَل أرواح فتية، لا تجد سوى فتات الحياة تسترد به كرامتها المهدورة.

السرقة والمراهنات والدعارة

ولو أردنا أن نحدد سلوك هؤلاء الفتيان، في ضواحي روما، كما وصفه الروائي في روايته "أولاد الحياة"، لكسب العيش، في ظل التحديات القاتلة لكل منهم، لقلنا إنه يتجسد في ثلاثية أشرنا إليها، وهي في السرقة والمراهنات والدعارة. ولعل الفصول الثمانية التي تضمنتها الرواية خير سجل للأعمال الخارجة على القانون، والتي يمارسها فتيان أحياء روما في أماكن عدة من ضواحيها، من مثل مونتي دي سبليندوري، ومنتيفردي، وفيرو بيدو، وزوكيليتي، ومحطة تيبورتينا، وكاسال بيرتوني، وفيلا بورغيزي الحديقة العامة المشهورة. وكما أسلفنا، يسرد الكاتب بعضاً من مشاهد سرقة الفتيان للحديد والصلب بكل أنواعه، ينتزعونه من أغطية الصرف الصحي، ويبيعونه للتجار بأثمان تكفل لهم البقاء على قيد الحياة زمناً غير محسوب، وتضمن لهم رفقة ذات سلوك بائن، تعوض لهم عن غياب الإطار العائلي. بل إن أغلب الفصول الثمانية يحوي مشهداً، أو مشهدين، عن سرقة تحصل، يكون بطلها ريتشيتو، (أو المجعد) ويفشل في الحصول على قوالب الجبن، وملاحقة الحراس له، ووقوع زملائه في قبضة الشرطة، من دونه. "نستطيع تشكيل رابطة عرصات ضواحي روما".

وإن تضاءلت حظوظهم في السرقة، انتقلوا إلى المراهنات، وخسروا خسارات فادحة، لم يأمنوا من شرورها إلا قتلى، كما حصل لأميريغو أحد فتيان الشلة، والمهووس بلعب الورق والمراهنات، والذي ذهب به هوسه حد خسارة كل أموال المراهنين من رفاقه، والهرب من الشرطة التي أمسكت به لكونه سجيناً فاراً، ومراهناً ومتعاملاً بالممنوعات. ولما سُجن، حاول الانتحار، وإذ لم يتحقق موته انتحاراً، عاود الامتناع عن الطعام والدواء، فمات في سجنه.  أما الدعارة، وهي المصدر الأخير لحيازة المال، والحصول على بعض اللذة الوقتية، فكان الفتيان يمارسونها، خالطين بها شيئاً من ذكرياتهم الطرية، التي لم يرد لها أن تتفتح في واقع أجمل مما أوتوا، وعيال أكثر صحة واستقراراً مما خبروا وذاقوا.

بين التحريم والتقويم

منذ صدورها عام 1955، لم يتوان النقد الجارح، سواء من المنتديات الثقافية أو السياسية، أو الدينية، من تناولها واتهامها وصاحبها بأنها رواية فاحشة، وتدعو إلى الدعارة المثَلية، وأنها تحط من المستوى الأخلاقي للبشر، بجعل أغلب شخصياتها "الفتيان" القاصرين خارجين عن القانون، ومنحرفين، وفاقدي البوصلة، حيثما حلوا. وبحسب وجهة النظر هذه، لا يشكل هؤلاء الفتيان سوى النموذج السيئ لأجيال آتية. ولنا دليل، في الرواية المترجمة إلى العربية، على لغة هؤلاء الفتيان، التي تفيض بالشتائم، والأوصاف البذيئة، والتي سعى المترجم– مشكوراً- إلى إيجاد معادلات لها من العامية اللبنانية أحياناً، ومن الفصحى القريبة من العامية.

وبناء على ما ورد، تقدمت إدارة مدينة ميلانو بدعوى ضد الرواية، وصاحبها، عام 1955، بسبب طابعها البورنوغرافي، على زعمها. غير أن المحكمة أقرت، في ختام مطالعاتها ومرافعات المحامين، ببراءة الكاتب والرواية من التهمة، بسبب غياب الدليل.

وهنا لا بد من الإقرار بأن الكاتب بيير باولو بازوليني، حين حمل هؤلاء الفتيان هذا النوع من الكلام الزقاقي، أو السوقي، إنما أراد أن ينقل صورة شديدة اللصوق بالواقع المنحرف الذي انجرف إليه هؤلاء الفتيان، وأن يوثق صورة الظلم القاتمة التي لحقت بهؤلاء الفتيان وذويهم، بفعل تناسي المجتمع الإيطالي لهم، وبفعل حرمانهم من كل أسباب الحياة الكريمة، بعد أن كانوا وقوداً للحربين (العالميتين الأولى والثانية)، وكانوا أنصاراً للدولة ورجالاً محاربين لتحقيق مصالح إيطاليا العليا في أوروبا وخارجها.

ثم إن الرواية، وفي العديد من مفاصلها، تتحدث بلسان هؤلاء الشخصيات أنفسهم، عن دور الكنيسة الفاعل، والوحيد ربما، في بلسمة جراحهم، وتوفير الغذاء والمأوى للعديد منهم، وتوجيههم، والبقاء إلى جانبهم في أدق الأوقات وأصعبها، عملاً بشعار الرحمة الذي ما برحت الكنيسة الكاثوليكية ترفعه، قبل اندلاع الحروب وبعدها.

مدخل إلى بازوليني

وأياً يكن من أمر التجاذبات حول رواية الكاتب والسينمائي والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني، فإن هذا الكتاب، المنقول إلى العربية، قد يشكل مدخلاً، بل باباً للدخول إلى عالم بازوليني العظيم الثراء، وسبيلاً للمزيد من البحث عن القضايا التي عالجها، والتي يمكن أن تتقاطع أو تتصادى مع العديد من القضايا التي تطرقت إليها الرواية العربية واللبنانية بصورة أخص.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن ما نعرفه عن بازوليني الأديب- وهذا مثال واحد عنه بروايته- يكاد لا يشكل سوى جزء من إنتاجه الفني، والذي يحمل بعضاً من رؤيته وفكره. منْ يعرف بازوليني الشاعر، عبر مجموعاته الشعرية الثلاث ("رماد غرامشي"، و"ديانة زمننا"، و"حيوية ميؤوس منها")، يدرك أن بازوليني الشاعر، والذي ترسم في كتابته الشعرية أساليب الكبار الأوائل، وصاغ قصائده على شكل أناشيد مؤلفة من ثلاثيات، ومنظومة على إيقاعات الشعر التقليدي الإيطالي، يعبر فيها عن رؤيته المتحولة من الإيمان بالدين المسيحي (الكاثوليكي) إيماناً طوباوياً، إلى التشكيك بالدين والاعتقاد بالماركسية عنواناً للدفاع عن الطبقة العمالية المقهورة، وصولاً إلى المرحلة الأخيرة التي تقرب أن تكون إعلاناً للثورة (قصيدة على شكل وردة)، وإن مجهضة، مجبولة بغنائية جريح، لا.

"ثمة فصل من الألم المسلح / وأنا الذي كنتُ نصيراً من دون سلاح / متصوفاً، وفارساً بلا لحية ولا اسم... / حسناً، للمرة الأولى في حياتي أستيقظ / وبي رغبة في حمل السلاح. / والمضحك في ذلك أن أقولها شعراً".

ولا نحسب فيلمه الشهير "المسيح بحسب القديس متى" خارجاً عن رؤيته الدينية الطوباوية، التي هشمها الواقع، وما أنزلته الحرب العالمية الثانية من كوارث في أوروبا والمجتمع الإيطالي بنوع خاص، يضاف إليهما قناعاته السياسية الجديدة (اليسارية) التي استخلصها من قراءاته، ومن معايشته واقع الفقراء والمهمشين في ضواحي روما، والذين يُحرمون من كل نِعَم المجتمع الصناعي الإيطالي، الناهض حديثاً على أكتافهم، ويُعذبون كما عُذب المسيح على الصلب، ويموتون مثله كل يوم.

وأياً تكن الدلالات العميقة من فيلم بازوليني، ومن أفلامه الأخرى (ماما روما، والفتيان، وتيوريما، وأوديب ملكاً، والأرض منظوراً إليها من القمر)، ومن رواياته، وشعره، فإن التفات العرب إلى أدب بازوليني قد يشكل مدخلاً إلى نظرة جديدة للإبداع الإيطالي الحديث.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة