ملخص
للروائي التركي أورهان باوك ست محاضرات في اللغة الإنجليزية حول النقد الأدب، لم تقنع القراء، ولا سيما الجامعيين منهم، بصواب القسمة التي أقامها بين من سماهم روائيين سذج وآخرين اعتبرهم روائيين عاطفيين، إذ إن معظم الذين راجعوا الكتاب وعلقوا عليه وجدوا في التقسيم تعميماً غير مستحب
لعل أول ما يصدم القراء في الكتاب الأقل شهرة بين الكتب العديدة التي أصدرها الكاتب التركي أورهان باموك، هو كتابه "الروائي الساذج والروائي العاطفي"، وهو عنوان مستعار بصورة "فاضحة" من عنوان كتاب للمبدع الألماني الكبير فردريك شيللر. وهي استعارة معلنة على أية حال، يقصد منها باموك أن يعلن انتماءه الفكري إلى صاحب المسرحيات الشكسبيرية الكبرى في اللغة الألمانية، و"النشيد إلى الفرح" الذي جعله أهل القارة العجوز بموسقة من بيتهوفن النشيد الرسمي لأوروبا الموحدة.
ويمكننا أن نفترض هنا أن تلك الاستعارة تعلن عدداً من الانتماءات، بقدر ما تعلن عدداً من المعاني، ولكن عبر دروب جانبية قد لا تهمنا كثيراً هنا. فالحال أن ما يهمنا هو ما يحتويه الكتاب وتحديداً خارج إطار عنوانه، حتى وإن كان العنوان يلعب في مضمونه دوراً كبيراً. وهو الدور الذي أثار من حول الكتاب سجالات صاخبة، ولا سيما في الأوساط النقدية الجامعية الانغلوفونية.
ولكن لماذا الأوساط النقدية؟ ببساطة لأن ما يضمه الكتاب إنما هو ست محاضرات تغوص في عالم النقد الروائي لا في عالم الإبداع الروائي، وهو أمر لم يكن منتظراً من باموك على أية حال على رغم كثرة كتبه غير الروائية، ولا سيما منها تلك التي كرسها لمدينته إسطنبول.
والمحاضرات الست هي تلك التي ألقاها الروائي الشهير بعد حين من فوزه بجائزة نوبل في عام 2009 في جامعة هارفارد باللغة الإنجليزية، التي اضطر إلى تحسين أدائه فيها لذلك الغرض، وقد نجح في ذلك.
سجالات جامعية
غير أن نجاحه اللغوي في كتابة المحاضرات وإلقائها لم يوازه نجاح في إقناع قرائه، ولا سيما الجامعيين منهم، بصواب القسمة التي أقامها عبر محاضراته بين من سماهم روائيين سذج وآخرين اعتبرهم روائيين عاطفيين، إذ إن معظم الذين راجعوا الكتاب وعلقوا عليه وجدوا في التقسيم تعميماً غير مستحب.
ولم يفهم معظمهم تماماً، بحسب ما كتبوا، ما الذي أراده الروائي الكبير من ذلك التقسيم الذي لم يكونوا قلة الذين رأوا أنه في نهاية المطاف ينم عن نظرة ساذجة وعاطفية إلى الرواية وكتابها بصورة عامة.
ويقيناً أن كل ذلك قد اشعل معركة بالغة الطرافة عرف باموك كيف ينجو منها من دون أن يتنازل عن أفكاره في هذا المجال، وحتى من دون أن يجد أنه من الضروري له شرح العلاقة التي يفترضها بين توصيفاته وما استعاره من شيللر.
ومع هذا نراه يبدي سروره في الأقل تجاه الناقد الإنجليزي في صحيفة "تلغراف" فيليب هنشر، على رغم أن هذا كان واضحاً في قسوة ما كتبه، وبالتحديد في معرض انتقاده للكتاب ولكن بصورة مواربة، إذ كتب حوله ما يأتي: "إننا لنلاحظ أن النقد الأدبي ومنذ ما يربو على 50 سنة، قد تخلى عن واجبه في أن يعبر عما هو مفيد في توجهه نحو ما يهم القارئ العادي. فجعلنا محكومين إما بالتعرض لآراء مبتسرة، مثل (إنني أحب هذا الكتاب لأنني أراه رائعاً)، أو لكتابات أكاديمية لا يرتضي كثر بقراءتها إلا إذا قبضوا ثمن ذلك".
ولعل ما أرضى باموك عن هذا التعليق هو أن صاحبه أورد استثناءين، أولهما نقاد صحيفته نفسها (!)، وثانيهما النصوص حول فن الرواية التي يصدرها الروائيون أنفسهم باعتبارهم "مبدعين يعرفون كيف تجري الأمور في حقيقتها". فما الذي أحبه باموك هنا؟ بالتأكيد كون المعلق قد احتسب كتابه بين هذا الصنف الأخير!
تعميم غير مقنع؟
فماذا، بعد كل شيء، عما يقوله الكتاب عبر محاضرات صاحبه الإنجليزية؟ يدور الكتاب كما بات واضحاً لقارئنا هنا، من حول التفريق الذي يقيمه باموك بين ذينك النوعين من الروائيين، النوع الساذج والنوع العاطفي.
وفي هذا السياق يخبرنا الروائي التركي، ودائماً في استعارته من شيللر، بأن كاتب النوع الأول يبدو على الدوام منغمساً في عمله الكتابي غير مهتم بعملية الخلق وقوانينها، حتى وإن كان يعرف أن لعملية الخلق قوانينها، أما كاتب النوع الثاني فإنه على العكس من ذلك يبقى برانياً (أي واقفاً خارج لعبته الفنية)، متنبهاً إلى حتمية اللجوء إلى كل ما يخدم الصنعة لديه.
بيد أن باموك سرعان ما ينبهنا هنا إلى أن النوعين لا يكونان بالضرورة منفصلين عن بعضهما بعضاً انفصالاً حاسماً، وهو لا يكتفي هنا كدليل على ما يقول باللجوء إلى أمثلة من أدبه الخاص وتجربته كروائي مميز، بالطبع، بل يجول بنا حول ما قد نحب أن نعرفه عن تألقه الإبداعي مع كبار الروائيين الأوروبيين الذين علموا القرنين الأخيرين بدءاً من تولستوي وبلزاك وهرمان ملفيل وتوماس مان.
واستناداً إلى هذه الأسماء الكبيرة، يسارع باموك إلى التأكيد في هذا السياق بأن الرواية هي وقبل أي فن آخر فن بصري، وحتى وإن كان ثمة في هذا السياق استثناءات كبرى كروايات دوستويفسكي على سبيل المثال، وفي السياق ذاته يخبرنا باموك أيضاً أن لكل نص روائي كبير "مركز ثقل سري" يبقيه أقرب إلى اللغز، بحسب ما تقول صحيفة "ذي هندو" هي الأخرى في مجال تعليقها على الكتاب، مبدية عدم رضاها عن هذه الناحية فيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اعتراضات بارزة
بيد أن اعتراضات ناقدي "التلغراف" و"ذي هندو" ستبدو لطيفة وودية مقارنة بالاعتراضات الحادة على الكتاب التي أبداها على سبيل المثال، ناقد "الأوبزرفر" آدم مارس - جونز الذي شجب توجه باموك نحو نمط "ساذج" من التعميم "من دون أن يصل إلى عمق الأمور". ويشير هذا الناقد إلى أن التعميم إنما يبدأ لدى باموك منذ العنوان الذي اختاره لكتابه، ليصل إلى ذلك "التمييز الغريب"، الذي يقيمه بين من يسميهم "الكتاب اللفظيين" و"الكتاب البصريين"، في فقرة لا يلبث أن ينسف مدلولها بنفسه حين يقول إن هذه النظرة لا تبدو دائماً مصيبة.
وهو ما يدفع هذا الناقد إلى التساؤل حول موقف جهابذة هارفارد، وعما إذا لم يكونوا، في عز استماعهم إلى هذه العشوائية الباموكية، لم يتساءلوا بينهم وبين أنفسهم عما إذا كانوا في اختيارهم باموك لإلقاء هذا النوع من الأفكار أمام سمعهم وبصرهم، قد أحسنوا الاختيار!؟؟