ملخص
إلغاء قمة بودابست بين بوتين وترمب كشف حدود نفوذ واشنطن ووَهْم قدرة ترمب على فرض السلام، فيما تواصل أوكرانيا حربَها بدعمٍ غربي متزايد وسط إنهاك روسي وعقوبات خانقة. ومع غياب تسوية قريبة، يبدو أن الحسم لن يتحقق إلا عبر موازين القوة لا عبر المبادرات الدبلوماسية.
من المطمئن أن فلاديمير بوتين لا يزال أقرب إلى زعيم متسلط منه إلى مخطط إستراتيجي، فلو كان يتمتع بدهاء رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، لكان على الأرجح قد نجح في استدراج الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى دعم "وقف لإطلاق النار" يترجم فعلياً إلى انتصار له وإفلات من المساءلة.
لكن بدلاً من ذلك أعلن البيت الأبيض إلغاء المحادثات التي كانت مقررة بين كل من ترمب وبوتين في العاصمة المجرية بودابست، بعدما دعا الرئيس الأميركي إلى وقف فوري لإطلاق النار يُبقي خطوط القتال على حالها.
كان لدى بوتين ما يجعله يعتقد أنه حصل على دعم متجدد من الرئيس الأميركي لمطلبه القاضي بأن تتنازل أوكرانيا عن أراض إضافية تتجاوز ما استولت عليه روسيا حتى الآن، في إطار صفقة تهدف إلى وقف القتال، خصوصاً أن ترمب كان قد ألمح إلى ذلك سابقاً.
لكن الآن ومع إصرار الأوروبيين والمملكة المتحدة، إضافة إلى أوكرانيا، على أن أي وقف لإطلاق النار لا يمكن أن يشمل سوى المناطق التي تشهد قتالاً فعلياً في الوقت الراهن، اختار سيد الكرملين مقاطعة "قمة بودابست" التي كان يتوقع عقدها خلال الأسابيع المقبلة.
وبحسب وكالة "بلومبيرغ" يعكف القادة الأوروبيون حالياً على إعداد مقترح جديد مستلهم من الخطة الخاصة بغزة التي وضعها الرئيس الأميركي، ويقضي بتشكيل "مجلس سلام" يترأسه ترمب نفسه للإشراف على وقف إطلاق النار في أوكرانيا، أما كييف فقد أعربت منذ فترة طويلة عن استعدادها لوقف فوري للقتال، على أن يستتبع ذلك بمفاوضات تهدف إلى إرساء سلام طويل الأمد.
ويرى بعض الخبراء، ومنهم المارشال البريطاني ديفيد ريتشاردز، أن أوكرانيا غير قادرة على تحقيق نصر عسكري على روسيا التي استولت حتى الآن على نحو 20 في المئة من أراضيها في الشرق، حتى في ظل الاتهامات الموجهة إلى بوتين بارتكاب جرائم حرب.
وقد تميل كييف اليوم إلى تقبل هذا الواقع بوصفه وضعاً قائماً طويل الأمد، مع استمرار تأكيد مطالبها القانونية بالأراضي التي ضمتها روسيا بصورة غير قانونية، لكنها لن تفعل ذلك إلا إذا حصلت على ضمانات أمنية قوية.
لو أن بوتين حضر "قمة بودابست" لكان من المحتمل أن يحاول إقناع ترمب بأن مناطق شرق أوكرانيا تمثل امتداداً طبيعياً للأراضي الروسية، مبرراً ذلك بأنها أراض "مكتسبة بالحرب" وأن غالبية سكانها يتحدثون الروسية، وهو الادعاء الذي تبناه مراراً مبعوث الرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط وروسيا، الساذج وعديم الخبرة، ستيف ويتكوف.
ترمب كان قد أشاد بتدمير نتنياهو قطاع غزة، واصفاً ما قام به بأنه "انتصار كبير"، ومعتبراً أنه نجح في إحلال السلام في الشرق الأوسط بعد 3 آلاف عام من الصراع، لكن الحقيقة أن النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين لم يبدأ سوى عام 1947، غير أن قادة العالم سمحوا لترمب بأن يتباهى بهذا "الإنجاز الزائف"، فقط لأن المجازر في غزة كانت قد خمدت تقريباً، ويبدو أن قادة مثل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أغفلوا حقيقة أن نتنياهو نفسه يواجه اتهامات بارتكاب جرائم حرب.
أما بوتين فلا يستطيع أن يجني مكاسب مماثلة، إذ إنه عاجز حتى عن تحقيق هدنة موقتة تتيح له إعادة تنظيم صفوف قواته وتسليحها وإمدادها، قبل أن يستأنف تقدمه نحو المناطق التي لا يزال يطمح إلى السيطرة عليها في دونباس وغيرها من الأراضي الأوكرانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الأثناء تبذل أوكرانيا وكندا ودول الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة جهوداً حثيثة لضمان دعم ترمب لمبادرتها الجديدة التي تُعد في نظر كييف الخيار الأقل سوءاً بين الخيارات المطروحة.
ويبدو أن ترمب أصبح منفتحاً على فكرة بيع صواريخ "توماهوك" لأوكرانيا لتمكينها من شن ضربات بعيدة المدى داخل العمق الروسي، بهدف زيادة الضغط على بوتين وإجباره على العودة لطاولة المفاوضات، ولكن هذه المرة بشروط لا تصب في مصلحة الكرملين.
وعلى رغم أن الحرب لا تسير في مصلحة أوكرانيا، إلا أنها، كما قال الرئيس فولوديمير زيلينسكي لم تخسرها أيضاً، فقد كشفت زيارات ميدانية إلى خطوط المواجهة قرب كراماتورسك وزابوريجيا أن التقدم الروسي هناك يُدفع ثمنه بكلفة بشرية باهظة على أرض بوتين نفسها، كما أن حرب الطائرات المسيرة حدت من قدرة روسيا على إرسال آلاف الجنود في هجمات انتحارية تُزهق فيها الأرواح بشكل جماعي أمام نيران الرشاشات، كما يخصص نحو 40 في المئة من الاقتصاد الروسي لخدمة المجهود الحربي، فيما تترنح موسكو تحت وطأة العقوبات الاقتصادية، وقد تتفاقم أزمتها أكثر إذا توقفت صادراتها من الوقود إلى كل من المجر وسلوفينيا.
في المقابل أبدت أوكرانيا استعدادها للنظر في وقف لإطلاق النار، لكنها اشترطت ضمانات واضحة بأن دولاً أخرى ستتدخل فعلياً لحماية كييف من أي هجمات روسية جديدة، غير أن تنفيذ هذه الحماية سيكون مهمة ضخمة قد تستهلك الـ 100 مليون جنيه إسترليني (133 مليون دولار) التي تعهدت بها المملكة المتحدة لتمويل قوة أمنية مستقبلية خلال أيام قليلة، ولذلك فإن منع روسيا من التوغل أعمق داخل الأراضي الأوكرانية، أو من استعادة أجزاء أخرى من أوروبا الشرقية، يتطلب جهداً شاملاً لا يبدو أن أوروبا قادرة على تحمله، وفقاً لتقديرات اللورد ريتشاردز.
وقد يكون من الأجدى اقتصادياً دعم أوكرانيا لتمكينها من إلحاق هزيمة كاملة بروسيا عبر تزويدها بكل الموارد العسكرية اللازمة لمواصلة الحرب بدلاً من الاكتفاء بمحاولات تأمين السلام، فالقوات الروسية في أوكرانيا تعاني ضعفاً في الحافز وسوءاً في القيادة، لكنها تتعلم بسرعة فنون الحرب بالطائرات المسيرة، ما يمنحها خبرة متقدمة في تقنيات القتال الحديثة قد تنافس معظم جيوش العالم، باستثناء الجيش الأوكراني نفسه.
أما الهياكل القيادية الروسية فهي هشة، وقد أثبتت أوكرانيا قدرتها على قطع الإمدادات اللوجستية الروسية عبر ضربات عميقة تصل إلى موسكو، ويمكن هزيمة القوات الروسية في دونباس، وإذا ما عاد جيش مهزوم إلى دياره وأطاح الديكتاتور الذي أرسله لغزو جيرانه، فسيكون لذلك أثر جانبي بالغ الأهمية يتمثل في تمكين أوكرانيا من تأجيل أي وقف لإطلاق النار إلى أن تتحرر تماماً من الغزاة.
الجنود الأوكرانيون منهكون ومتعبون، وكثر منهم يبحثون عن وسائل للتهرب من الخدمة العسكرية، وسيشعرون بالارتياح لو جرى إعلان وقف لإطلاق النار الآن، ومع ذلك فلا أحد منهم يعتقد أن هناك من سينهي حربهم أو يحمي أوروبا أكثر من الرئيس الأميركي ترمب الذي يزعم أنه حقق السلام في الشرق الأوسط.
© The Independent