Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأدب والفلسفة يتقاطعان في المغامرة المعرفية ويتبادلان لعبة القناع

هل الفيلسوف شاعر متنكر في لباس المفكر أم أن الشاعر في عمق إلهامه فيلسوف يعبر عن فكر لا يمكن العقل أن يصوغه؟

لقاء الفلسفة والشعر (غيتي)

ملخص

هل الأدب موضوع للفلسفة أم هو أحد أساليبها في التعبير؟ وهل يمكن الفكر الفلسفي أن يكون أدبياً من دون أن يفقد صرامته المفهومية؟ أو هل من حدود صارمة تفصل بين الفلسفة والأدب؟

بحسب التصور الكلاسيكي، إن الفلسفة هي مجال البحث عن الحقيقة والكشف عن بنية الواقع، في حين يناط بالأدب دور الإمتاع والتخييل وإيقاظ الحس الجمالي. غير أن هذا التمييز بين "العقل" و"الخيال" وبين "البرهان" و"الأسلوب"، لم يسلم من النقد. فهل آن الأوان لإعادة التفكير في هذه القسمة القديمة؟ وهل يمكن أن يكون للأدب خطاب فلسفي خاص به؟ أو أن تتعلم الفلسفة من الأدب ما لم تستطع التعبير عنه بنفسها؟

 ثمة تاريخ طويل من الشد والجذب بين هذين المجالين. فمع فلاسفة ما قبل سقراط، كهيراقليطس وبارمنيدس وأمبيدوكليس، كانت الفلسفة لا تزال تكتب بلغة وشذرات شعرية، تجاور بين الصورة والفكرة، وتقيم في حيز الغموض الخلاق بين القول المجازي والتأمل العقلي. فالفلاسفة كانوا قراء شعر، والشعراء غالباً ما كانت قصائدهم تأملاً في الوجود والحقيقة. غير أن هذا القرب كان دوماً مثقلاً بالتوتر. فالفيلسوف هو الباحث عن الحقيقة في صفائها العقلي، بينما الأديب هو من يصوغ التجربة في جمالها الرمزي. وهكذا تقاطعت طرق الأدب والفلسفة دون أن تلتقي تماماً. ثم جاء أفلاطون الذي تناول الأدب بوصفه موضوعاً للدرس، ففصل بين الشاعر والفيلسوف، معتبراً أن الشاعر خطر على المدينة، لأنه صانع أوهام، يقدم صوراً زائفة عن الواقع، فطرده باسم الحقيقة من جمهوريته.

مفارقة أفلاطون

لكن المفارقة أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتخلى عن الأسطورة والاستعارة حين حاول وصف عالم المثل أو فكرة الخير، فاضطر إلى استعمال الصور التي كان يدينها، علماً أننا نجد لديه عناصر حل لما لا يعد حتى تناقضاً بين الأدب والفلسفة، إذ إن حواراته، وهي بالضرورة أدبية، تكشف في أدق تفاصيلها عن الفكر الفلسفي. ولتذوق الحوار الأفلاطوني من الناحية الجمالية والفنية، يجدر بالقارئ المضي إلى أقصى حدود الفكر الفلسفي، وهذا الفكر يستعمل انعكاسات النص الأدبي وتلألؤه ليعبر عما يتصل جوهرياً بروح الكتابة الإشكالية وبمكانة هذه الممارسة الغريبة عنده. هنا يبدأ التوتر البنيوي في علاقة الفلسفة بالأدب: رفض ظاهر واعتماد خفي.

أما أرسطو، فقد دافع عن الشعر من موقع مغاير، وجعله محاكاة تنتج معرفة خاصة بالاحتمال الإنساني، لا بالوقائع التاريخية. ومنذ ذلك الحين، ظل الأدب مرآة يتأمل فيها الفلاسفة صورة الإنسان ولغته وخياله.

لكن هذا التأمل لم يكن محايداً دائماً. فماركس رأى في الأدب انعكاساً للبنية الاجتماعية والاقتصادية، واعتبره سلاحاً في الصراع الطبقي، بينما جعل هيغل من الفن مرحلة في تجلي الروح المطلق. أما الفلاسفة الظاهراتيون والوجوديون، كسارتر وميرلوبونتي، فقد ردوا الأدب إلى تجربة الحرية والمسؤولية. فالأديب ليس مجرد صانع كلمات، بل فاعل في التاريخ.

لكن نيتشه قلب المعادلة وكتب الفلسفة بأسلوب الشاعر، معتبراً أن الحقيقة ليست سوى "وهم نسي أنه وهم". لقد منح نيتشه للفلسفة بعداً فنياً وأعاد إلى القول الفلسفي حيويته الأسلوبية. ثم جاء هايدغر الذي جعل من اللغة الشعرية وسيلة للكشف عن الوجود. كما جاء جاك دريدا ليعمق هذا الانقلاب عبر مشروع التفكيك، مبيناً أن المفاهيم الفلسفية نفسها ذات أصل بلاغي ومجازي. فالتفكيك هو تذكير دائم بأن الفلسفة هي ابنة اللغة، وأنها لا تفكر إلا من داخلها. في هذا الأفق، يصبح الأدب مرآة الفلسفة الخفية التي تكشف محدودية يقينها وادعائها امتلاك الحقيقة.

ثلاثة أنماط

في كتاب بعنوان "الفلسفة والأدب: مناهج ومآلات المسألة" صدر منذ بضعة أعوام، اقترح فيليب سابو تصنيفاً لثلاثة أنماط من المقاربات الفلسفية للأدب: أولها النموذج التعليمي أو التمثيلي الذي تحدث عنه آلان باديو، والذي يعامل النص الأدبي كوسيلة لإيضاح فكرة فلسفية مسبقة. وفي هذا النمط، لا يكون الأدب سوى مثال على ما يقوله الفيلسوف، كما فعل جيل دولوز حين قرأ رواية بروست "البحث عن الزمن المفقود" بوصفها تطبيقاً لمفاهيمه الخاصة عن العلامة والزمن والاختلاف. إلا أن هذا النوع من القراءة يفرغ النص الأدبي من خصوصيته، ليصبح خادماً للفكر بدلاً من أن يكون منتجاً له.

أما النمط الثاني فهو النموذج التأويلي أو الهرمنوطيقي، الذي ينظر إلى الأدب باعتباره حاملاً لحقيقة فلسفية خفية، وعلى القارئ الفيلسوف أن يكشف عنها، كما في قراءة بول ريكور للرواية بوصفها وسيلة لفهم التجربة الزمنية التي تعجز الفلسفة النظرية عن وصفها. ففي المجلد الثاني من كتابه "الزمان والسرد"، يتحدث ريكور عن "البحث عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، و"الجبل السحري" لتوماس مان، و"السيدة دالاواي" لفرجينيا وولف، فيرى أن هذه الأعمال الأدبية الثلاثة تظهر على نحو نموذجي قدرة الرواية على التعبير الإيجابي عن جوانب من تجربتنا الزمنية، لا يستطيع الخطاب الفلسفي مقاربتها إلا بصيغة مفارقات أو تعقيدات لا حل لها. غير أن هذا النمط يظل أسيراً لمنطق الفلسفة، لأنه يرد المعنى إلى فكرة خارج النص، ويغفل البعد الشكلي والأسلوبي الذي قد يكون هو نفسه حامل التفكير.

والنمط الثالث هو النموذج الإنتاجي أو الخلاق، الذي عبر عنه الفيلسوف الفرنسي فإنسان ديسكومب (1943) في كتابه "بروست، فلسفة الرواية". في هذا النموذج، لا يكون النص الأدبي مستمداً من الفلسفة بل منتجاً لها. فالأدب ههنا ينتج فكراً خاصاً به، من خلال لغته وبنيته وأسلوبه، لا من خلال المضمون الصريح فحسب. الرواية، مثلاً، تفكر من خلال الشخصيات والزمن والحوار والمفارقة، تماماً كما يفكر الفيلسوف من خلال المفاهيم والبرهان. بهذا المعنى، يصبح الأدب مختبراً للفكر، لا مجرد مادة لشرحه. ومن هذا المنطلق، يعيد بعض الباحثين اليوم صياغة السؤال الجوهري: ما نوع الحقيقة التي يمكن أن تقولها اللغة الأدبية؟ لعل الجواب يستعين هنا بتحليلين لافتين: قراءة آلان باديو لبيكيت، وقراءة ميشيل فوكو للكاتب والشاعر الفرنسي "ريمون روسيل". فبين التأمل السوداوي لبيكيت واللعب اللساني أو اللغوي لدى روسيل، يكشف الأدب عن "فراغ أنطولوجي" في عمق اللغة، إذ لا تطابق تاماً بين "الكلمات والأشياء"، بل مسافة هي عين إمكان التفكير. هذه المسافة هي الحقيقة التي ينتجها الأدب: حقيقة اللااكتمال، وهشاشة القول، وانفلات المعنى من قبضة المنطق. يقول باديو إن صموئيل بيكيت سعى في كتاباته إلى التعبير عن كثافة الكينونة الإنسانية وتصدعاتها. أما فوكو الذي أولى الأدب مكانة استثنائية، فقد قال إن اللعب اللغوي الذي كرَّس له روسيل حياته يملك قيمة تجربة فكرية فلسفية حقيقية، سعى هو إلى الكشف عن معناها.

مشروعان مختلفان

لكن هذا التصور، على عمقه، لا يخلو من إشكالات. فهو يجمع بين مشروعين مختلفين: من جهة، محاولة لتحديد منهج فلسفي في قراءة الأدب، ومن جهة أخرى، طرح ميتافيزيقي حول طبيعة الحقيقة الأدبية نفسها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن ماذا عن مسألة الأجناس الأدبية؟ ففلسفة الرواية ليست كفلسفة الشعر أو المسرح واختزال الأدب في بعد لغوي أو تأويلي قد يغفل اختلاف البنى والأنواع التي تنتج أنماطاً متباينة من التفكير. إن فنسان ديسكومب حصر اهتمامه بالفائدة الفلسفية للرواية ضمن مجال الأخلاق. والرواية، كما يرى، تقدم نماذج حية للتجربة الإنسانية، مانحة الفيلسوف مادة للتأمل في القيم والمواقف والاختيارات. هذا ما أكدته أيضاً الفيلسوفة الأميركية مارثا نوسباوم، التي عدت أن الأدب، لا سيما الرواية، يوسع إدراكنا الأخلاقي لأنه يضعنا أمام تعقيدات الحياة الفردية. ففي مقالة لها بعنوان "البلورات المعيبة: رواية ’الوعاء الذهبي‘ لهنري جيمس والأدب بوصفه فلسفة أخلاقية"، الصادر في مجلة "التاريخ الأدبي الجديد" التي تنشرها جامعة جونز هوبكنز، أكدت نوسباوم أن الحقيقة الأدبية ليست ميتافيزيقا اللغة، بل حكمة العيش ومعرفة الذات في علاقتها بالآخرين.

من خلال هذه الأفكار، تتضح أهمية إعادة درس العلاقة بين الأدب والفلسفة لا بوصفها منافسة بين مجالين، بل بوصفها تبادلاً في طرق الفهم والتعبير. فالأدب لا يقدم أطروحات مبرهنة، لكنه يمنح الفلسفة ما تفتقر إليه: الحس بالتفاصيل والانفتاح على التناقض والقدرة على الإصغاء إلى صمت اللغة. أما الفلسفة، فهي تعيد إلى الأدب وعيه بالأسئلة الكبرى التي تحرك الخيال وتؤسس المعنى. ولئن كانت الفلسفة، كما قال دريدا، تبدأ من داخل اللغة ولا تستطيع تجاوزها، فإن الأدب هو المجال الذي يجسد هذا الانتماء بصفائه الأقصى. إن الكلمة الأدبية لا تدعي قول الحقيقة، لكنها تجربها، وتفتحها على الاحتمال. هنا يتقاطع الأدب والفكر، لا في النتائج، بل في المغامرة، ويبرز السؤال الآتي: هل الفيلسوف شاعر متنكر في لباس المفكر؟ أم أن الشاعر في عمق إلهامه فيلسوف يعبر عن فكر لا يمكن للعقل أن يصوغه؟ يبدو أن الشاعر والفيلسوف يسعيان إلى الشيء نفسه بطرائق مختلفة: الحقيقة من جهة، والمعنى من جهة أخرى. مما يعني أن العلاقة بين الأدب والفلسفة ليست علاقة هيمنة أو تبعية، بل علاقة تفاعل خصب. فالفلسفة، لكي تبقى حية، تحتاج إلى لغة تجسد الفكر في تجربة إنسانية محسوسة، والأدب، لكي لا يتحول إلى زخرف لغوي، يحتاج إلى عمق مفهومي ينير تجربته الجمالية.

في عالم اليوم، إذ تذوب الحدود بين المعارف، يصبح هذا التداخل ضرورة لا ترفاً. إن النص الفلسفي يمكن أن يكون أدبياً دون أن يفقد صرامته، كما يمكن للنص الأدبي أن يكون فلسفياً دون أن يفقد حريته. كلاهما، في النهاية، بحث في الإنسان ومعناه. فلا بد في نهاية المطاف من تجاوز القطيعة بين الفلسفة والأدب، ولو أن الأدب لا يقول الحقيقة كما تقولها الفلسفة. لكنه يعلمنا أن الحقيقة ذات وجوه عديدة، وأن الطريق إليها يمر عبر الكلمة التي تضيء وتضلل في آن واحد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة