ملخص
يمثل ألبرتو كاييرو أبرز وجه مستعار اتخذه فرناندو بيسوا اسماً لذاته المنقسمة إلى أنوات متعددة. وصدرت حديثاً الترجمة العربية لكتاب بيسوا الشعري "قصائد ألبرتو كاييرو"، وفيه يطل على العالم بحواس راعي الأغنام، الذي لا تحرمه البساطة ممارسة تأمله الخاص.
"أنا لم أرع قطيعاً قط، لكنني أبدو كذلك"، عبارة توجز الصورة التي يرسمها ألبرتو كاييرو لنفسه، كشاعر تلقائي يراقب الطبيعة الأم، وكإنسان عادي يرعى الكائنات الأليفة. تعكس شخصية كاييرو الوجه الأكثر سذاجة، وربما الأكثر صدقاً، من جملة الشخصيات (الأنوات، البدائل)، التي ابتدعها الشاعر والكاتب البرتغالي البارز فرناندو بيسوا (1888 - 1935)، ليقدم من خلالها نفسه إبداعياً وفلسفياً وإنسانياً.
أسماء ونصوص
تتعدد أسماء بيسوا على أغلفة مؤلفاته التي تدرجه ضمن أعظم شعراء البرتغالية وفي قائمة أهم مبدعي القرن الـ20. فمن هذه الأسماء: "ريكاردو رييس" بنصوصه المحافظة والملتزمة نسبياً بالموروث الشعري والتعاليم الموسيقية والجمالية، و"ألفارو دو كامبوس" بجرأته الفنية وطابعه الحيوي وتمرده الثوري وقلقه الوجودي.
وعلى رأس أسماء بيسوا المختلقة، يأتي الشاعر ألبرتو كاييرو (1889-1915) كأقصر هذه الشخصيات عمراً، إذ توفي شاباً في الـ26 بعد معاناته مع مرض السل. وترك كاييرو، الذي قضى عمره كله في القرية من دون أن ينال تعليماً رسمياً، ثروة شعرية تتسم بالطزاجة والبراءة والانفلات من إسار التفكير المنطقي والإعمال الذهني، وإن كانت لا تخلو من تأملات في الذات القريبة والعالم المادي. وقوام هذه التأملات، الحدس والشفافية والتفاعل الفطري المباشر مع مفردات الحياة والطبيعة من حوله "روحي، مثل أي راع، تألف الريح والشمس. تقودها يد الفصول، فتتنقل وتتأمل. والسلام الذي في الطبيعة، الخالية من البشر، يأتي ليجلس إلى جانبي".
النثرية شكلاً وموضوعاً
هذه الثروة الشعرية التي تركها بيسوا على لسان كاييرو، بلغة الكلام اليومي، المتخففة من البيان والبلاغة والمجاز والرمز، يلتفت إليها الشاعر والمترجم العراقي حيدر الكعبي، المقيم في الولايات المتحدة الأميركية، لينجز ترجمته العربية لكتاب "قصائد ألبرتو كاييرو"، الذي صدر حديثاً عن دار خطوط وظلال الأردنية (2025) في 180 صفحة.
ويعتمد الكعبي في عمله المهم على أكثر من مصدر لقصائد بيسوا/ كاييرو. من بينها، كما يوضح في مقدمته، كتاب "فرناندو بيسوا: الأشعار، قصائد ألبرتو كاييرو" بتحرير خوان بارخا وخوانا إيناريخوس، وكتاب "فرناندو بيسوا: قصائد ألبرتو كاييرو" بترجمة بابلو دل باركو، وكتاب "الأشعار الكاملة لألبرتو كاييرو" بتحرير فرناندو كابرال مارتينز وريتشارد زينث، إضافة إلى كتاب "ألبرتو كاييرو: الأعمال الشعرية الكاملة" بالإسبانية، بترجمة أنجليكا رودريغس فارغاس، ومصادر أخرى.
ولتعدد هذه المصادر، يقسم المترجم قصائد بيسوا/ كاييرو إلى نصين كبيرين، هما "راعي القطيع"، و"الراعي العاشق"، إلى جانب مجموعة من القصائد المتفرقة التي لا تحمل عناوين في أصولها. ويحسب للكعبي، إلى جانب جهده في جمع النصوص وتوثيقها، حياديته في توصيل الحالة الشعرية بموضوعية، وتمرير لغتها بأمانة. وهي لغة تثبت قناعة بيسوا/ كاييرو الكاملة بالنثرية "أنا أكتب قصائدي نثراً وأنا مقتنع، لأنني أدري أنني لا أعرف الطبيعة إلا من خارجها. فأنا لا أعرفها من الداخل، لأن الطبيعة ليس لها داخل، وإلا لما كانت طبيعة". وهذه النثرية، بمفهومها الأعم، ليست مجرد التحلل من الوزن والقافية فحسب، وإنما تعني التخلص التام من الزينة والتكلف وكل صيغ الانزياح والاصطناع.
دهشة الوليد
لماذا تبدو قصائد ألبرتو كاييرو، دون غيره، مرآة تعكس جوهر فرناندو بيسوا؟ لأن شخصية كاييرو، دون غيرها من ذوات بيسوا المتنوعة، لا تمرر نتاجها على التخطيط التفصيلي المسبق في مختبر الوعي، وفق شروط محكمة وقوانين محبوكة ومسارات جاهزة ومعدة سلفاً. هي قصائد المباغتة والصدمة والعفوية والطفولية، وتحطيم أطر التوقع، والرؤية المتجددة على غير نهج مرسوم "ما أراه في كل لحظة، شيء لم أره من قبل. فأنا أعرف كيف ألاحظ الأشياء جيداً، وأشعر بذات الدهشة التي يشعر بها الوليد حين يولد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولأن الطبيعة نفسها لا تتوقف عن مفاجآتها، فإن المراقبة الحسية والشعورية التي تنجو من سلطة العقل في قصائد ألبرتو كاييرو هي بحد ذاتها سلسلة من الاكتشافات الحرة، لا تنتهي حلقاتها. هذا الموقف من الانسجام مع الطبيعة، حد التماهي، يتوازى مع الرفض الصريح للتعقيد الفلسفي، كما يتماشى مع مخاصمة الاستغراق الميتافيزيقي، وكل ما يعرقل الانسياب الوجداني "ليست لدي فلسفة، لكن لدي أحاسيس".
وهكذا، يتقصى الشاعر مشاهداته، كما هي، زاهداً في التحريف، ونائياً عن التأويل. وهذا الوضوح الذي يحدث من حوله يستلزم بدوره أبجدية واضحة، فالكائنات والموجودات والأشياء والظواهر هي فقط ما تبدو عليه، في حقيقتها وتجددها وجمالياتها. كما أن حب العالم، والإيمان به، نتيجة أيضاً للمعاينة وليس للتفكير "أؤمن بالعالم مثلما أؤمن بزهرة الأقحوان، لأنني أراه، لكنني لا أفكر فيه، فالتفكير يعني عدم الفهم. العالم لم يوجد لكي نفكر فيه. أن تفكر يعني أنك مصاب بعلة في عينيك. العالم وجد لكي ننظر إليه ونتقبله".