ملخص
لا شك أن تصدير الغاز المصري مجدداً يمثل إنجازاً لقطاع شهد ضغوطاً قاسية خلال العامين الماضيين، لكنه في الوقت نفسه يضع الاقتصاد أمام اختبار صعب: فهل تستطيع القاهرة تحويل هذا الإنجاز إلى مسار مستدام للنمو؟، أم إنها ستظل رهينة التقلبات الموسمية وأسعار الطاقة العالمية؟
يشهد قطاع الطاقة المصري مرحلة مفصلية تعيد القاهرة إلى واجهة أسواق الغاز العالمية بعد عام من الضغوط والتراجع في الإنتاج المحلي، ففي غضون أسبوعين فحسب، أعلنت وزارة البترول والثروة المعدنية المصرية تصدير شحنتين من الغاز الطبيعي المسال من مجمع "إدكو"، الأولى إلى إيطاليا والثانية إلى تركيا، بما يعادل أكثر من 300 ألف متر مكعب من الغاز المسال، هذا التحرك يأتي بعد أشهر من انكماش الإنتاج وتزايد الواردات لتغطية الاستهلاك المحلي، مما يثير تساؤلات حول ما إذا كانت عودة مصر إلى التصدير تمثل بداية تعاف مستدام أم مجرد انعكاس موسمي لظروف السوق.
تحول دراماتيكي في عقد واحد
خلال العقد الماضي، عاشت مصر واحدة من أكثر المراحل تقلباً في تاريخها الطاقوي، فبعد اكتشاف حقل "ظهر" العملاق عام 2015، تحولت البلاد سريعاً من مستورد صاف إلى مصدر رئيس للغاز في شرق المتوسط، لتبدأ في تصدير الشحنات المسالة من محطتي "إدكو" و"دمياط" إلى الأسواق الأوروبية والآسيوية.
لكن الطفرة لم تدم طويلاً، إذ بدأ الإنتاج في التراجع منذ عام 2023 بسبب انخفاض الضغوط في الحقول القديمة وتباطؤ الاستثمار في التنقيب، ومع ارتفاع الطلب المحلي على الكهرباء والمصانع، اضطرت القاهرة خلال عام 2024 إلى استيراد الغاز من الخارج لتلبية حاجاتها، في مشهد يعيد للأذهان سنوات العجز السابقة.
وبحسب بيانات رسمية، بلغ إنتاج مصر من الغاز الطبيعي في ذروته نحو 7.2 مليار قدم مكعبة يومياً عام 2021، قبل أن يتراجع إلى نحو 5.6 مليار قدم مكعبة في منتصف 2024، مما أدى إلى انكماش الفائض القابل للتصدير.
تصدير رغم القيود... وحسابات دقيقة
إعلان وزارة البترول المصرية عن تصدير شحنتين في أكتوبر (تشرين الأول) الجاري إلى كل من تركيا وإيطاليا عبر شركتي "توتال إنرجيز" و"شل" بدا بمثابة عودة رمزية لثقة السوق في قدرة مصر على الحفاظ على موقعها كمركز إقليمي لتسييل الغاز وتجارته.
إلا أن المحلل الاقتصادي الدكتور مدحت نافع يرى أن هذا التطور لا يعكس بعد تحولاً هيكلياً، موضحاً لـ"اندبندنت عربية" أن "عودة القاهرة لتصدير الغاز ترجع بدرجة كبيرة إلى تراجع الاستهلاك المحلي نتيجة تغير الفصول، إضافة إلى وجود تعاقدات مسبقة على شحنات غاز مسال يصعب إعادة جدولتها أو التراجع عنها".
ويؤكد نافع أن التحدي الحقيقي يكمن في استدامة الإنتاج المحلي، لا في زيادة التصدير الموسمي، مشيراً إلى أن نجاح مصر في التحول إلى مصدر دائم للغاز يتطلب استثمارات ضخمة في الحقول الجديدة وسرعة تنفيذ خطط الحفر المعلنة التي تشمل 480 بئراً استكشافية باستثمارات تتجاوز 5.7 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
شرق المتوسط... ميدان تنافس متسارع
تأتي عودة القاهرة إلى التصدير في سياق إقليمي بالغ التعقيد، إذ يتزايد التنافس بين دول شرق المتوسط على حصص السوق الأوروبية، من إسرائيل وقبرص إلى تركيا التي تحاول بدورها تعزيز حضورها كممر رئيسي لتجارة الغاز نحو القارة العجوز.
ومع انحسار الإمدادات الروسية وتنامي الطلب الأوروبي على الغاز المسال، أصبحت مصر، بفضل بنيتها التحتية للتسييل في "إدكو" و"دمياط"، لاعباً محورياً في المعادلة الإقليمية.
غير أن استمرار هذا الدور يتوقف على قدرتها على معالجة التراجع في الإنتاج المحلي وتحديث بنيتها التشغيلية.
تقرير البنك الدولي الأخير في الشهر الجاري، أشار إلى أن مصر تمتلك ميزة نسبية في كلف الإنتاج والبنية التحتية مقارنة بجيرانها، لكنها تحتاج إلى إصلاحات في الإطار التنظيمي وتخفيض الديون المتراكمة على شركات الطاقة الأجنبية لضمان تدفق الاستثمارات الجديدة.
بينما، يرى المحلل في شؤون الطاقة محمد شادي أن "مصر حققت إنجازاً حقيقياً بتحسين ميزان الطاقة مجدداً، لكن تحقيق الاستدامة يتطلب زيادة الاكتشافات الجديدة بوتيرة أسرع، وإصلاح بيئة التعاقدات لجذب استثمارات كبرى من الشركات العالمية".
خلال العقد الأخير، شهدت صادرات الغاز الطبيعي المصري تقلبات حادة تعكس التحولات الاقتصادية والسياسية التي مرت بها البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ففي عام 2014، كانت مصر تعاني من عجز حاد في الطاقة بعد تراجع إنتاج الحقول البحرية القديمة مثل "أبو قير" و"البرلس"، ما أجبرها على وقف تصدير الغاز وتحويل منشآت الإسالة في إدكو ودمياط إلى طاقة شبه معطلة.
ومع اكتشاف حقل "ظهر" العملاق عام 2015 وبدء إنتاجه الفعلي في 2017، بدأت القاهرة تستعيد مكانتها تدريجاً كمصدر للطاقة.
وفي الفترة ما بين عامي 2018 و2022، ارتفعت الصادرات المصرية من الغاز الطبيعي المسال إلى مستويات قياسية، متجاوزة 8 ملايين طن سنوياً في بعض الفترات، مدعومة بارتفاع الأسعار العالمية بعد أزمة أوكرانيا، مما وفر للبلاد إيرادات ضخمة بالعملة الصعبة.
غير أن منحنى الإنتاج بدأ يتراجع مجدداً في 2023 و2024 نتيجة ضعف الاستكشافات الجديدة وزيادة الاستهلاك المحلي، مما اضطر الحكومة إلى استيراد الغاز لتلبية حاجات الكهرباء في الصيف.
بين إنجاز واقعي ومستقبل محفوف بالتحديات
لا شك أن تصدير الغاز المصري مجدداً يمثل إنجازاً لقطاع شهد ضغوطاً قاسية خلال العامين الماضيين، لكنه في الوقت نفسه يضع الاقتصاد أمام اختبار صعب: فهل تستطيع القاهرة تحويل هذا الإنجاز إلى مسار مستدام للنمو؟، أم إنها ستظل رهينة التقلبات الموسمية وأسعار الطاقة العالمية؟
الإجابة، بحسب المحللين، ستتوقف على مدى التزام الحكومة بتسريع عمليات التنقيب وتطوير الحقول الجديدة، بالتوازي مع ضبط الاستهلاك المحلي وترشيد الدعم الطاقوي، فاستدامة النجاح لا تتحقق بعودة موقتة للتصدير، بل بإعادة بناء دورة إنتاج متكاملة تضمن لمصر موقعاً ثابتاً في سوق الغاز العالمية.
في سياق قريب الصلة، أعلنت شركة "شيفرون" المشغلة لحقل "تمار" الإسرائيلي البحري للغاز الطبيعي إغلاقه أمس الأربعاء لإجراء صيانة مقررة من المتوقع أن تستمر نحو 12 يوماً.
ويعد "تمار" المورد المحلي الرئيس للغاز في إسرائيل، ولا يزال حقل "ليفياثان" الأكبر قيد التشغيل، ويقع الأخير قبالة ساحل إسرائيل على البحر المتوسط ويعد مورداً رئيساً لمصر والأردن.
وقالت "شيفرون" في بيان "سنواصل إنتاج الغاز الطبيعي وتزويد العملاء في إسرائيل والمنطقة من حقل ليفياثان".
ووفقاً لـ"شيفرون"، تنتج ست آبار في تمار كميات من الغاز الطبيعي تتراوح بين 7.1 مليون متر مكعب و8.5 مليون متر مكعب يومياً.