ملخص
لم يكد المصريون يبدؤون في الاستعداد لإجراء الحسابات، ورصد المصروفات، ومراقبة الإنفاق، والخروج ببرنامج إنقاذ، كل بحسب دخله وإنفاقه وحاجاته الأساسية، حتى صدر قرار زيادة أسعار الوقود، وتبعته دعوة التبرع السيسي لإعادة إعمار غزة
لم تكد تمر ساعات على خبطة زيادة أسعار "البنزين" (الوقود) في مصر، وتوابعها التي ما زالت تتجلى في تأثير الدومينو بزيادة كل أسعار السلع والخدمات، المتصلة والمنفصلة عن الوقود، حتى آفاق المصريون على صخب فعل وردود فعل دعوة بالتبرع لإعادة بناء غزة.
الدعوة لم تكن واضحة المعالم في الدقائق الأولى لتداولها. من دعا، ومتى، وأين، ولماذا؟ ونظراً إلى طبيعة عدم الوضوح في تداول القيل والقال على أثير السوشيال ميديا، مرت الدعوة في ساعاتها الأولى بهدوء لافت، مفسحة المجال لهدوء زيادة أسعار الوقود وغيره من السلع، وهو الهدوء النابع من مناعة مكتسبة بفعل الخبطات، وإيمان عميق بمنظومة القدر الذي لا اعتراض عليه. لم يكتب لحالة الهدوء التي اكتنفت دعوة التبرع لإعادة إعمار القطاع الاستمرار طويلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد ساعات قليلة من "الندوة التثقيفية" (فعالية دورية يحضرها السيسي) رقم 42، التي تنظمها القوات المسلحة المصرية، التي عقدت قبل أيام بمناسبة الذكرى الـ52 لانتصار أكتوبر (تشرين الأول) 1973، تركزت العناوين الأولى المنطلقة من الفعالية على تكريم أبطال الحرب، والإشارات المؤثرة عن شهدائها، وإنجازات الدولة من مشروعات قومية وبنى تحتية كبرى، وجهود مصر لوقف حرب غزة على مدار عامين، واتفاق "السلام" الذي أبرم في شرم الشيخ.
وكعادة التغطيات الإعلامية خرجت تغطيات شاملة ملخصة للفعالية، وبعدها عناوين خبرية مصحوبة بتحليلات المحللين تارة، وتعليقات المعلقين تارة أخرى، متناولة كل جزئية بالتفصيل. هذه المرة، توقف المصريون كثيراً عند جزئية دعوة الشعب المصري للمساهمة الفعالة في جهود إعمار (غزة)، تعبيراً عن التضامن والمسؤولية والمحبة تجاه الأشقاء الفلسطينيين".
ما استوقف كثراً لم تكن دعوة المصريين للمساهمة في مساعدة غزة وأهلها، بل المساهمة في إعادة إعمار منطقة مدمرة دماراً يشبهه البعض بدمار "ناغازاكي"، ويتداول البعض الآخر صوره التي تظهر تسوية مبانيه ومنشآته وبيوته وبناه الفوقية والتحتية بالأرض، ويحفظ آخرون رقم "70 مليار دولار" الذي يتردد كثيراً في نشرات الأخبار مقترناً بكلفة الإعمار.
المصريون بين التبرع والاحتياجات
على مدار عامين كاملين، لم يألُ المصريون جهداً في التعبير عن دعم أهل غزة، أو يدخروا جنيهاً يمكنهم التبرع به لتقديم أي صورة من صور المساعدة للقطاع وأهله. جمعيات وصناديق ومنظمات وهيئات أخذت على عاتقها جمع التبرعات العينية والمادية لسكان غزة على مدار عامي الحرب الضروس.
وعلى رغم الأوضاع الاقتصادية بالغة الصعوبة، التي أثرت سلباً في الغالبية العظمى من المصريين بدرجات متفاوتة، فإن حملات التبرع وتجهيز قوافل الإغاثة، سواء بتمويل رسمي مصري أو بتبرعات شعبية صميمة، حيث بسطاء كانوا يتبرعون بـ10 و20 و30 جنيهاً مصرياً، وهي مبالغ ضئيلة، لكن مؤثرة في موازناتهم الشخصية بالغة الانكماش، ظلت تتسع وتقابل باستجابة شعبية حقيقية، على رغم ضيق ذات اليد والجيب.
فعل المصريون ذلك باختيار وسعة صدر ورغبة حقيقية في المساعدة في التخفيف عن "الإخوة" في القطاع. ووصل الأمر في الأشهر القليلة الأولى التالية لاندلاع الحرب إلى أن أفراداً بدأوا في جمع أموال من جيرانهم ومعارفهم من دون تنظيم مسبق، أو تصريح رسمي، والجانب الأكبر منها كان عفوياً برغبة المساعدة الفعلية، لا النصب أو الاحتيال.
كما دأبت وسائل الإعلام على نشر وسائل التبرع الموثوق فيها، مثل "جمعية الهلال الأحمر" و"بيت الزكاة والصدقات" التابع للأزهر، وغيرهما، وهي المعلومات التي كان يجري تشاركها بحرص شديد من قبل ملايين المصريين.
هذه المرة، وجد ملايين المصريين أنفسهم في حيرة من أمرهم. فبعد إبرام "قمة شرم الشيخ للسلام: اتفاق إنهاء الحرب في غزة" قبل أيام قليلة، ساد شعور لدى كثيرين أنه حان وقت التقاط الأنفاس. إنها الأنفاس التي ظلت محبوسة على مدار عامين، جراء الهلع والقلق والغضب لما يتعرض له أهل غزة.
وعلى رغم معرفة الغالبية أن "قمة شرم الشيخ" ليست حلاً نهائياً للأزمة، وأنها لا تعني فتح صفحة جديدة أوتوماتيكياً لحاضر غزة ومستقبل أهلها، فإنها في الأقل تعني فرصة لالتقاط الأنفاس، والالتفات للمشكلات المحلية، والتركيز في كيفية التعامل مع الأوضاع الاقتصادية الصعبة، والبحث عن مزيد من سبل إعادة هيكلة الإنفاق المنزلي، وترشيد بنود المشتريات والبحث عن مخارج أو مهارب تخفف من وطأة التهاب الأسعار.
ولم يكد هؤلاء يبدأون في الاستعداد لإجراء الحسابات، ورصد المصروفات، ومراقبة الإنفاق، والخروج ببرنامج إنقاذ، كل بحسب دخله وإنفاقه وحاجاته الأساسية، حتى صدر قرار زيادة أسعار الوقود ليل الخميس، وبدأ تأثير دومينو زيادة الأسعار صباح الجمعة. ويوم الأحد، وصلت إليهم دعوة التبرع لإعادة إعمار غزة.
رد الفعل الشعبي الجامع الأول كان صمتاً مطبقاً، ربما بغرض التدقيق أو التفكير أو التحليل أو التعليل، وربما أيضاً للاستجابة أو الامتناع، ولكل سببه. البعض على غير العادة لجأ إلى التدقيق. ربما تكون الدعوة "شغل سوشيال" (أي كلام مرسل من دون مصدر أو توثيق على السوشيال ميديا)، وربما تكون الدعوة صدرت في وقت سابق وأعاد أحدهم نشرها، وربما قيلت بالفعل، لكن في سياق آخر غير المعنى المباشر، ألا وهو اقتطاع جزء من اليومية أو الراتب أو ما تبقى من مدخرات، وربما قائمة طويلة أخرى من الاحتمالات التي تبخرت في هواء التيقن من الدعوة إلى التبرع والمساهمة.
كلفة وآلية وتمويل
كان الرئيس يتحدث من دون نص مكتوب خلال "الندوة التثقيفية" عما جرى قبل وأثناء قمة شرم الشيخ، وعن المؤتمر المقرر أن تنظمه مصر الشهر المقبل حول إعادة إعمار غزة، ثم قال "بهذه المناسبة، ناس كانت تقول يجب أن نقف إلى جوار أشقائنا في القطاع ونحارب. الآن، كل الدنيا المفروض ستجتمع حتى تسهم في إعمار غزة، نحن في مصر، وقبل الدنيا ما تجتمع، هل نحن في مصر مستعدون نساهم من الآن؟ ليس بالمساعدات. أكرر 70 - 80 في المئة من المساعدات كانت تدخل (القطاع) طوال السنتين، كانت مصر تقدمها، ليس مناً. الآن، نتكلم في نقطة ثانية، يا ترى هل نحن المصريون مستعدون للتبرع أو المشاركة لإعادة تعمير القطاع؟ كنا نتألم على ما يجابهه الناس في القطاع"، مشيراً إلى حجم الدمار في القطاع). وأضاف "أؤكد للناس في مصر والعالم أننا بفضل الله سبحانه وتعالى سنكون مبادرين، بلا أي تزيد، في الإعمار. شوفوا هنعملها ازاي!".
هنا ضجت القاعة بالتصفيق قبل أن يضيف الرئيس: "لا أريد أن أحدد رقماً، لكن أتكلم عن أرقام معتبرة تعكس المسؤولية والتقدير من جانبنا لأهلنا في قطاع غزة". وهنا، ضجت القاعة مجدداً بالتصفيق.
خارج القاعة، جاءت ردود الفعل المتأخرة نسبياً للأسباب السابق ذكرها مراوحة ما بين الدهشة والصدمة، ومتناقضة بين التأييد الكامل والفخر الشامل والاستعداد الطاغي من جهة، والعكس من جهة أخرى.
القاعدة العريضة من المصريين من البسطاء من عمال محال وبناء و"دليفري" ونظافة وأفراد أمن وغيرهم التزمت السكوت. هذه القاعدة التي لصقت "فلسطين" على خلفية الـ"توك توك"، وطبعت أوراق الدعاء لأهل غزة ووزعتها على أهل الحارة، وأخرجت الكوفية الفلسطينية من خزانة ملابس الشتاء وارتدها أثناء توصيل الطلبات أو ربطتها على ذراع الدراجة النارية أو الهوائية تضامناً مع غزة، وجدت نفسها في وضع حرج أمام دعوة التبرع، لا سيما بعد ما اتخذت شكلاً شبه رسمي.
فقد عرفت القاعدة أن الرئيس كلف مجلس الوزراء بالتنسيق مع مؤسسات المجتمع المدني والجهات المعنية في الدولة لدراسة آلية وطنية لجمع مساهمات وتبرعات المواطنين لتمويل عملية إعادة إعمار القطاع. كلمات مثل "كلف" و"آلية" و"تمويل" تتسم بهالة من الغموض المثير للقلق لدى البسطاء. الحس الفطري يخبرهم أن إجراء ما جاري الإعداد له لسن ضريبة أو تحصيل فاتورة، وكلاهما أمر مثير للقلق، لا سيما في ظل ظروف اقتصادية أقل ما يمكن أن توصف به هو "بالغة الصعوبة".
هذه القاعدة تعد دعمها النفسي والعاطفي للقطاع، والملصقات التي لصقتها، والكوفيات التي ارتدتها، والأدعية التي رددتها على مدار عامين هي أقصى درجات العون والدعم. أما مسألة التكليف، والآلية، والتمويل، فأمور لا طاقة لها بها.
طاقات أخرى فجرتها دعوة السيسي للمصريين بالتبرع "المعتبر" لإعمار غزة. هذه الطاقات راوحت ما بين مؤيدين للرئيس ومبتهجين بـ"قمة شرم الشيخ" وداعمين لدور مصر على مدار عامي الحرب، لكن اعتبرت دعوة التبرع صادمة لأسباب تراوح ما بين التوقيت والأوضاع من جهة، وبين معارضين للرئيس لأسباب مختلفة، سواء أنصار جماعة الإخوان وداعميهم الذين يناصبون الرئيس المصري العداء بغض النظر عن الموضوع أو القضية أو الزاوية، أو منتمين لتيارات سياسية مختلفة تعارض السياسات الحالية، أو يعدون أوضاعهم الاقتصادية المقياس الوحيد لتأييد أو معارضة النظام، أي نظام، تلقفوا دعوة التبرع وبنوا عليها المزيد.
بعيدون من السياسة والجدل
اللافت في ردود الفعل الشعبية لدعوة التبرع تلك التي ظهرت من قبل مصريين لا اهتمام لهم بالسياسة، أو رغبة في الجدل، أو هواية تتبع الرأي والرأي الآخر وما ينجم عنها من خناقات وتراشقات. هؤلاء قلما يُسمع لهم صوت، أو يصدر منهم رد فعل جماعي أو حتى اجتماعي. هذه المرة، ظهروا وسمعت أصواتهم وقرأت تغريداتهم وتدويناتهم. بين دعابات "يا ريس نجيب منين علشان نتبرع؟"، و"لولا زيادة البنزين الأخيرة كان ممكن أتبرع بعشرة جنيه (0.2 دولار)"، وجدية "ما يحتاج إليه البيت يحرم على الجامع، وأوضاعنا الاقتصادية بكل تأكيد ليست أفضل من دول أغنى منا بكثير"، و"بصراحة أي صدقات أو زكاة سأوجهها لمن يحتاج من المصريين"، سادت نبرات تعد توقيت الدعوة إلى التبرع صعباً للغاية.
بين من قالت إنها "من الصعيد، وتزور أهلها بصفة مستمرة، وإنها ما إن تضمن أنهم يحظون بالحد الأدنى من مقومات وحاجات الحياة الكريمة، ستشارك بقوة في إعمار عزة. الحياة أولويات"، ومن كتب أن "توقيت الدعوة إلى التبرع لإعادة الإعمار صعب جداً جداً"، ومن يقترح أن تقتصر الدعوة على رجال وسيدات الأعمال وأصحاب المال والبيزنس، وغيرهم، دار محتوى السوشيال ميديا مرآة للشارع.
من جهة أخرى أعادت دعوة الرئيس السيسي للمصريين للتبرع لإعمار غزة تسليط الضوء على اختلافات أيديولوجية وسياسية بين قطاع من المصريين فيما يتعلق بحركة "حماس"، والخلاف حول دورها فيما وصلت إليه أحوال القطاع وأهله من خراب كامل بسبب حرب ضروس أعقبت هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أو أنها أيقظت القضية بعد سُبات عميق.
الغالبية المطلقة من هذه الاختلافات لا تدور حول دعم القضية الفلسطينية أو التعاطف مع أهل القطاع أو تقديم كل ما يمكن تقديمه من مساعدة لهم من عدمه. الغالبية المطلقة تدعم، وتتعاطف، وتساعد، لكن الاختلاف يدور حول دور "حماس" فيما سبق، وفيما هو قادم.
فريق غارق في استحضار أفعال وأدوار وعمليات منسوبة للحركة في أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 في مصر، وفي أعقاب أحداث 30 يونيو (حزيران) عام 2013، التي تعكس دعمها لجماعة الإخوان المسلمين، وتقديم يد العون لها في محاولات منع قطاع عريض من المصريين من المطالبة بإنهاء حكمها. سبب الاستحضار، كما يظهر من مناقشات هذا الفريق، هو التذكرة بالتاريخ القريب، والتخوف من فتح مصر ذراعيها أمام رموز الحركة، والضلوع غير المدروس في شؤون القطاع، وأن التبرع الآن ربما يأتي بنتائج عكسية أمنية، وبالطبع اقتصادية، على الداخل المصري.
فريق آخر يحمل الحركة مسؤولية ما ألمَّ بأهل القطاع من مآسٍ ومصائب نتيجة ما يعدونه عملية غير مدروسة فجرت نشوة يوماً وتركت ألماً يكفي دهراً. ويرى هذا الفريق أن استمرار وجود الحركة في القطاع، مع استمرار الجزء المتعلق بما ينعتونه بـ"الرعونة" أو "الطيش" من قبل الحركة، وعدم أخذ مصلحة أهل القطاع في البقاء على قيد الحياة في الحسبان. هؤلاء يعدون التبرع الحالي لإعمار غزة، مع بقاء "حماس" على سابق عهدها، بمثابة إعمار يعقبه دمار ثم عمار، وهلُمّ جرّا.
في المقابل، بين المصريين من يعد "حماس" إما مقاومة شريفة، أو أن عمليتها في السابع من أكتوبر كانت إعادة إحياء لقضية أوشكت على الموت، أو أن قضيتها تبقى التحرر، أو أن وجودها في غزة حائط صد لأخطار يمكن أن تتعرض لها مصر، أو كل ما سبق. هؤلاء كانوا يتمنون التبرع لإعمار غزة، لولا ضيق ذات اليد، وأوضاع اقتصادية محلية ودولية يصعب التنبؤ بمساراتها المستقبلية، مما يعني الإبقاء على القليل المتبقي تحسباً لما قد يحدث غداً أو بعد غد في محيط الأسرة.
ولا يخلو رد الفعل الشعبي المصري لدعوة التبرع لإعمار غزة من قلة تؤكد وتجزم، والأهم إنها تجاهر، بأنها ستتبرع بكل ما يمكن التبرع به، لدرجة أن البعض ذكر مبالغ مالية بعينها. جانب من هؤلاء ذيلوا "تبرعهم" بكلمات عن المأساة التي يعيشها أهل القطاع، أو عبارات تفيد بأن كل ما يصدر عن الرئيس هو بكل تأكيد لخير مصر والمصريين.
وانتظاراً لما سيسفر عنه تكليف الرئيس المصري للحكومة بإيجاد آلية للتبرعات الوطنية لإعمار غزة، ينتظر المصريون بترقب وتمهل.
الطريف أن الأصوات التي كانت تملأ الدنيا صخباً متهمة مصر بإغلاق المعبر، وعرقلة دخول المساعدات، ووصل الأمر ببعضها إلى اتهام مصر بالمساهمة في مأساة أهل غزة صمتت تماماً، واختفت آثارها من الأثير، ربما تخوفاً من حرج المطالبة بالتبرع للبدء في الإعمار، لا توصيل المساعدات فحسب، أو فتح الحدود من أجل إتمام التحرير.