ملخص
مزيج من التوترات الجيوسياسية وازدياد الرهانات على خفض الفائدة وتنامي المشتريات ترفع أسعار المعدن الأصفر
واصل الذهب تعزيز مكاسبه التاريخية مع افتتاح تداولات الأسبوع الجاري، متجاوزاً حاجز 4261.55 دولار للأونصة الواحدة تقريباً صاعداً بنسبة 0.3 في المئة ما يعادل 9.73 دولار وسط ترقب المستثمرين بيانات التضخم الأميركية ومحادثات التجارة الثنائية مع الصين.
وأتت هذه المكاسب مدفوعة بمزيج من التوترات الجيوسياسية، وازدياد الرهانات على خفض الفائدة، وتنامي مشتريات البنوك المركزية، مما يطرح تساؤلاً حقيقياً: هل نحن أمام مرحلة استقرار سعري للذهب، أم أن السوق تمهد لعملية تصحيح قد تعيد التوازن بين العرض والطلب؟
مكاسب سنوية بأكثر 60 في المئة
أفاد محللون لـ"اندندنت عربية" بأن أسعار الذهب سجلت ذروة تاريخية خلال الفترة الأخيرة مدفوعة بتوقعات خفض الفائدة الأميركية وضعف الدولار وتصاعد التوترات العالمية، مما أسهم في تحقيق مكاسب سنوية تجاوزت 60 في المئة حتى الآن.
وأضاف المحللون أن مؤشرات فنية بدأت تظهر دخول أسعار الذهب العالمية في حال تشبع شرائي، مما يفتح الباب لتصحيح محتمل تراوح نسبته ما بين خمسة وثمانية في المئة في حال انحسار التوترات أو صدور بيانات تضخم مفاجئة، موضحين أن موجة الصعود الأخيرة للمعدن الأصفر تستند إلى عوامل هيكلية، أبرزها الطلب المؤسسي القوي.
بلغ إجمال الطلب العالمي في الربع الثاني من العام نحو 1249 طناً، منها 166 طناً مشتريات رسمية من بنوك مركزية، في مقدمها الصين وتركيا، وهو ما يعكس رغبة واضحة في التحوط من تقلبات النقد وتراجع الثقة بالدولار.
وأشار المحللون إلى أن هذا الطلب المركزي يعد صمام أمان للأسعار، إذ لم يعد الذهب مجرد أصل استثماري، بل أصبح جزءاً من استراتيجيات الاحتياطات النقدية للدول، وأسهمت تدفقات صناديق المؤشرات المدعومة بالذهب في تعزيز الزخم، على رغم توقعات بتباطؤ طفيف في وتيرتها مستقبلاً، مما قد يدفع الأسعار إلى مسار استقرار موقت ضمن الاتجاه الصاعد العام.
ولفت المحللون إلى أن بقاء هذه المحفزات، لا سيما السياسية والنقدية منها، يبقي على التوقعات الصعودية للمعدن الأصفر، لكن بوتيرة أكثر توازناً، مؤكدين أن السيناريو الأقرب يظل هو موجات تذبذب صحية ضمن مسار صاعد، ما لم تظهر مفاجآت في بيانات التضخم أو تتراجع حدة الأخطار الجيوسياسية بصورة كبيرة.
قال رئيس قسم البحوث في "إيكويتي غروب العالمية" رائد الخضر إن ما تشهده أسعار الذهب حالياً هو نتيجة تراكم عوامل مالية وجيوسياسية متشابكة بدءاً من ضعف الدولار وتراجع الثقة النقدية الأميركية، وصولاً إلى موجة شراء المؤسسات والبنوك المركزية، مؤكداً بأن الذهب يعيد تثبيت موقعه كأصل تحوط رئيس في نظام نقدي يشهد تحولات عميقة.
وبين الخضر أن موجة الارتفاع الحالية لا تستبعد حصول تصحيح فني، لكنه سيكون موقتاً ضمن الاتجاه العام الصاعد، مع الإشارة إلى أن أي تراجع سيبقى محدوداً ما بقيت الديناميكيات المؤسسية في صالح الذهب.
هل هناك مخاوف للركود؟
أشار نائب رئيس إدارة البحوث في شركة "كامكو إنفست" رائد دياب، إلى أن الارتفاع الكبير للذهب هذا العام جاء مدعوماً بما يشبه إعصار من المحفزات: مخاوف من الركود، حرب تجارية، مشتريات كبيرة من البنوك المركزية، وتراجع الثقة بالدولار، مما دفع المؤسسات إلى إدراج الذهب كأصل ثالث إلى جانب الأسهم والسندات.
وأضاف أن الأسواق تتهيأ لاحتمال تصحيح فني على المدى القصير بسبب حال الإفراط في الشراء، لكن الدعم المؤسسي يبقى عنصراً حاسماً لاستقرار المعدن فوق مستويات 4300– 4200 دولار، ما لم يحدث اختراق كبير في الملف الأميركي ‑ الصيني أو الروسي ‑ الأوكراني.
طريق أعلى نحو الأسعار
قال رئيس قسم الأبحاث في مجموعة "إكس أس جلوبال" أحمد نجم، إن ارتفاع الذهب إلى هذا المستوى يعكس إلى حد كبير إعادة ضبط دوره داخل النظام المالي، لكن الطريق للأعلى قد لا يكون سلساً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت إلى أن نحو 95 في المئة من البنوك المركزية العالمية باتت تفضل الذهب كملاذ آمن بديلاً عن الدولار، في ظل حجم الدين الأميركي الذي تجاوز 37 تريليون دولار، وغياب اليقين في السياسات المالية والاقتصادية الأميركية.
وأضاف أن أي تطور على صعيد المفاوضات الدولية أو قرارات الفائدة سيسهم في تحديد ما إذا كان الذهب سيواصل الصعود أو يدخل مرحلة تصحيح وتقويم.
استثمار أفراد أم حكومات؟
من جهته، قال المتخصص الاقتصادي ومدير أول تطوير الأعمال لدى شركة "إنسينكراتور" الشرق الأوسط وأفريقيا، محمد كرم، إنه يجب التفريق بين مسألة شراء الذهب للأفراد وشراء الذهب للحكومات والمؤسسات المالية الكبرى.
وبين كرم أن قرارات الحكومات والمؤسسات المالية الكبرى بتكديس الذهب ومقايضته مقابل الدولار تعود لأسباب "جيوسياسية واضطرابات سياسية" مثل تلك الحاصلة بين الصين والولايات المتحدة.
في المقابل، أوضح أن الوضع بالنسبة إلى الأفراد "أكثر صعوبة" عند التفكير في شراء الذهب، وأنه بمجرد شراء الفرد للذهب، فإنه يفقد نحو اثنين أو ثلاثة في المئة من قيمته عند الشراء مقارنة بسعر البيع، مشيراً إلى أن هذا الفارق يتسع بصورة كبيرة عند تسييل الذهب من قبل الأفراد.
وأشار إلى أن سلوك المؤسسات المالية والحكومات سيظل على حال، مؤكداً أنه "ما دامت هناك ضبابية واتفاق واضح ما بين أكبر سوقين في العالم أميركا والصين"، فإن التوقعات تشير إلى زيادة واضحة في شراء الذهب من قبل هذه الكيانات.
توقعات مؤسسات عالمية
وتتلاقى توقعات كبريات مؤسسات الأبحاث المالية مع ما تظهره المؤشرات الحالية، إذ تذهب التقديرات نحو مزيد من الارتفاع في المدى المتوسط، مع تحفظ على احتمالية التصحيح القصير الأجل.
وفي هذا الإطار، توقعت مؤسسة "بنك أوف أميركا" أن تصل أسعار الذهب إلى 5 آلاف دولار للأونصة بحلول 2026، إذا ما استمر ضعف الدولار وتواصل الزخم الشرائي من البنوك المركزية، مشيرة إلى أن المعدن يستعيد دوره كأصل تحوطي أول في مواجهة التقلبات النظامية.
أما "غولدمان ساكس" فترى أن الاتجاه الصاعد ما زال مستقراً على المدى المتوسط، لكنها حذرت من احتمال حدوث تصحيحات موقتة قد تدفع الذهب إلى مستويات 4000–4100 دولار قبل معاودة الارتفاع نحو مستويات فوق 4500 دولار، بخاصة في حال استمرار التوترات السياسية من دون حل قريب.
بدورها، أشارت "سيتي غروب" إلى أن التدفقات الاستثمارية المؤسسية تعد الداعم الأساس لسعر الذهب حالياً، مؤكدة أن تجاوز عتبة 4300 دولار لم يكن وليد صدفة بل نتيجة تراكمات استراتيجية في مراكز المؤسسات الاستثمارية والبنوك المركزية، ورجحت المؤسسة أن تبلغ الأسعار مستويات قرب 4900 دولار في حال أقر خفض مزدوج للفائدة خلال الربع الأخير.
ومن جانبها، حذرت مؤسسة "مورغان ستانلي" من حال المبالغة الشرائية التي قد تدفع بالسوق إلى تصحيح طبيعي في نطاق ستة إلى ثمانية في المئة، لكنها اعتبرت أن هذا التراجع المحتمل لا يلغي الاتجاه الصاعد بل يوفر فرص دخول جديدة للمستثمرين على المدى الطويل.
العوامل الأساسية في السوق
في ضوء ما تقدم يتضح أن الذهب اليوم ليس في عزلة عن المتغيرات الاقتصادية والجيوسياسية، بل في قلبها، وبينما تبقى العوامل الداعمة قوية — ضعف الدولار، تحوط المؤسسات، مشتريات البنوك المركزية، بيئة خفض محتمل للفائدة — فإن احتمال تصحيح فني قصير ومتوسط الأجل لا يزال قائماً في ظل ارتفاع الأسعار إلى مستويات قياسية.
ويبدو أن سوق الذهب تمضي نحو مرحلة استقرار سعري مبدئي، مع فرص أكبر لصعود إضافي على المدى المتوسط، لكن بخطوات أكثر حذراً وتثبيتاً، وسيكون مراقب البيانات النقدية الأميركية، وتحركات البنوك المركزية، ومسار التوترات الجيوسياسية مفتاحياً لتحديد الوجهة التالية.