ملخص
يرجح متابعون للشأن الديني والسياسي في البلاد أن شغور منصب "المفتي" سيفتح الباب أمام إعادة هيكلة الإفتاء على نحو مؤسسي أكثر اتساقاً مع المرحلة، عبر تنظيم وحوكمة قد تشمل كل قطاع الشؤون الدينية.
شهدت السعودية السنوات الماضية عاصفة من الإصلاحات، التي ظنها كثيرون في الداخل والخارج من المستحيلات.
لكن تلك العاصفة لم تقترب فيما أتت عليه من العمود الفقري للمؤسسة الدينية في البلاد، وهو "الرئاسة العامة للإفتاء"، إلا عبر تعديل محدود، أعاد الشيخين سعد الشثري ومحمد العيسى لـ"هيئة كبار العلماء" فيها بتمكين أكبر، بعد خروج سابق منها، أحيط بظروف تلك المرحلة وجدلها السياسي والديني، قبل عهد الملك سلمان.
يعود ذلك التحاشي، في تقدير عدد من المهتمين، لأمور عدة، مثل حساسية الشأن الديني في بلد كان شديد المحافظة، ومرض رأس المؤسسة كل المدة الماضية المفتي الراحل في الـ23 من سبتمبر (أيلول) الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وانسجام علماء الإفتاء مع الإصلاحات البنيوية في المناهج والتعليم والمساجد وعمل المرأة، من دون استفزاز للرأي العام أو السلطة بأية فتاوى خارج السياق، ساعدهم في ذلك كف أيدي منافسيهم من التيارات الحركية، التي كانت تزايد عليهم بفتاوى تحريم أو تحريض تظهر المؤسسة لا تواكب عصرها.
في هذا السياق يرجح متابعون للشأن الديني والسياسي في البلاد أن شغور منصب "المفتي" سيفتح الباب أمام إعادة هيكلة الإفتاء على نحو مؤسسي أكثر اتساقاً مع المرحلة، عبر تنظيم وحوكمة قد تشمل كل قطاع الشؤون الدينية. وتضم "رئاسة الإفتاء" في هيكلها الحالي: منصب المفتي (رئيسها)، وهيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء، المتفرعة عنها. لكن تأثيرها الديني يمتد إلى أجهزة عدة في القضاء، والشؤون الإسلامية، وهيئة الأمر بالمعروف، وشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي، وقطاعات علمية ومدنية عدة.
تسند هذا التحليل مؤشرات عدة، من بينها عدم إعلان القيادة السعودية حتى الآن مفتياً جديداً، خلفاً لآل الشيخ، على رغم تعدد الخيارات على النمط الشائع في وقت مضى.
وقال مصدر مقرب من رئاسة الإفتاء تحدث إلى "اندبندنت عربية"، بشرط عدم ذكر اسمه، "إن الترقب على أشده بين أوساط المشايخ، إلا أنهم ليس لديهم حتى الآن أية إشارة يفهم منها تسمية شخص بعينه، ولو على سبيل التكليف ليكون شاغل الموقع الشاغر"، مشيراً إلى أن التفسير واسع النطاق بين المعنيين، هو "النظر في إعادة بناء الهيئة والإفتاء على نحو مؤسسي، وتفعيل دورها في البحث والاجتهاد العلمي على أسس أكثر صلة بالمرحلة والعصر".
إشاعة ثم ترقب
وكانت تكهنات سرت فور إعلان وفاة آل الشيخ بأن عدداً من المرشحين سيخلفه أحدهم، ولا سيما الشيخ صالح بن حميد (عضو كبار العلماء، وخطيب المسجد الحرام، وتقلد مناصب عدة) الذي سرت إشاعة عريضة بأنه المفتي الجديد، لدرجة أن عدداً من المعلقين عندما ناقشتهم أثناء كتابة هذه القصة، ظنوا تلك الإشاعة خبراً نهائياً ناجزاً، وما هي إلا إشاعة، تعددت تفسيرات الغرض منها، "والأرجح أن أحد المريدين روج لها ليجعل من تعيينه أمراً واقعاً"، وفق تقدير مصدر، أكد أن القرار في هكذا قضايا، حصري بالملك وولي عهده، فهو "شأن سيادي محض، لا ينبغي التشويش عليه".
وتعتقد أوساط عدة استقصت "اندبندنت عربية" آراءها في شأن ملامح المرحلة التالية، بأن "التقديرات حتى الآن تشير إلى إعادة الهيكلة والمأسسة".
وهل سيبقى منصب المفتي أم يصار إلى تغليب الاجتهاد والفتوى الجماعية عوضاً عن الفردية؟ لم يشأ أحد الخوض في تفاصيل كهذه، إلا أن مصدراً رسمياً استبعد من وجهة نظر شخصية "اللجوء لهذا الخيار في المرحلة الراهنة في الأقل"، هذا على رغم أن المملكة شهدت في عهد الملوك فيصل وخالد وفهد (في سنواته الأولى)، غياب المنصب لنحو 23 عاماً، ولم يؤثر ذلك في سلاسة الشأن الديني والفتوى في البلاد.
وعلمت "اندبندنت عربية" أن هيئة كبار العلماء التي ينعقد مجلسها مرتين في العام، قد تمت جدولة اجتماعها الأقرب في شهر شعبان المقبل، الذي يوافق الـ22 من مارس (آذار) 2026م، وذلك قبل رحيل رئيسها آل الشيخ. فيما رجحت مصادر أن يأتي التشكيل الجديد قبل ذلك الوقت، مفسرة تأخر تعيين مفت جديد بـ"استغراق إعادة الهيكلة والتنظيم وقتاً".
وينص نظام المؤسسة الصادر 1971م ولم يشهد تعديلات جوهرية، على أن دورها يقتصر على "إبداء الرأي في ما يحال إليها من ولي الأمر من أجل بحثه وتكوين الرأي المستند إلى الأدلة الشرعية فيه"، إلى جانب "التوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامه ليسترشد بها ولي الأمر".
آخر تشكيل للهيئة كان قبل نحو عام في سبتمبر 2024، جرت العادة أن يتم تحديثه كل أربع سنوات، ومن غير المعروف ما إذا كان ستبقى الهيئة بصورتها الحالية أو تؤلف من جديد بعد تكليف رئيس لها.
سردية جديدة
ورجحت تقديرات غير رسمية أن يضم التشكيل المقبل دماء مغايرة من علماء وباحثين، من خلفيات علمية مختلفة، لإغناء المشارب والاجتهادات الفقهية في المؤسسة العلمية العريقة، وهي التي شهدت لعقود مراحل تطور عدة، كان آخرها تشكيلها على مستوى "المذاهب الأربعة" لتجسد شخصية المملكة ومرجعيتها للعالم الإسلامي، فقهياً وسياسياً، بعد أن كانت من قبل، أقل تنوعاً في المذاهب.
#الديوان_الملكي: وفاة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة ورئيس هيئة كبار العلماء، وسيصلى عليه في جامع الإمام تركي بن عبدالله في مدينة الرياض بعد صلاة عصر هذا اليوم، وقد وجه #خادم_الحرمين_الشريفين -حفظه الله- بأن تقام عليه صلاة الغائب أيضًا في… pic.twitter.com/YFbeExWIzI
— واس الأخبار الملكية (@spagov) September 23, 2025
وشهدت مؤسسات دينية في البلاد، إصلاحات هيكيلية مثل "شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي"، التي جرى فصل الجانب التشغيلي فيها عن الإرشادي المحض. كما فرضت قيود كبيرة على عمل "هيئة الأمر بالمعروف"، التي صارت جهازاً دعوياً لم تعد لديه صلاحياته السابقة في الضبط وفرض التعاليم الدينية الصارمة في اللبس والعلاقات بين الجنسين في المشهد العام.
وقال الباحث والكاتب السعودي فهد الشقيران إن التجارب في دول عربية وإسلامية عدّة تُظهر أن "المؤسسات الدينية الحيّة تتطور مع تغيّر تحديات الناس، وكذلك الحال في السعودية، حيث شهدت مؤسسة الإفتاء وهيئة كبار العلماء مراحل من التجديد الفقهي والمعرفي مواكبةً لتحولات العصر".
ويرى يزيد الهريش، وهو باحث في التاريخ الوطني من جيل الشباب، أن الشخصية الراحلة بما تمثله من ثقل وتاريخ ديني، بوصفها "أحد أبرز رموز المدرسة العلمية السعودية، يصعب تعويضها، إذ تميّز الراحل بتفانيه وإخلاصه وطول حلمه في أداء واجباته الدينية والاجتماعية والرسمية، فجمع بين ورع السلف وحنكة العلماء الكبار الذين سبقوه. وقد حظي بمكانة رفيعة لدى الملوك والعلماء وعامة الناس، حتى غدا فقده فراغاً صعب الملء"، وهو ما يفسّر بحسب قوله تأخر تعيين مفتٍ جديد للبلاد بعد رحيله، "هذا إن لم يكن آخر المفتين ذوي الثقل".
وكانت الشخصيات الدينية التقليدية، على النسق الذي ساد عقوداً في البلاد وقروناً مضت منذ عهد الدولة السعودية الأولى، تُعدّ في بعض الأدبيات شركاء في تثبيت شرعية الحكم، لا مجرد علماء يوضحون مسائل الحلال والحرام، ويقدمون الاستشارة لصانع القرار في المسائل التي يحيلها إليهم، وفق ما ينص عليه نظام هيئة كبار العلماء في البلاد.
لكن الواقع السياسي في الرياض شهد في السنوات الأخيرة تطوراً لافتاً، أعاد ترتيب المشهد ووضع النقاط على أحرف التاريخ التي حاول أتباع التيار الديني ترسيخها لعقود. فقد أعادت الدولة تأريخ نشأتها إلى عام 1727م، الذي أصبح "يوم التأسيس" الوطني، ويُحتفل به في 22 فبراير (شباط) من كل عام، بعد "إعادة سردية نشوء الدولة" التي أظهرت أن آل سعود كانوا حكاماً قبل تحالفهم مع الشيخ محمد بن عبدالوهاب، الذي لجأ إليهم "يطلب الأمان" بعد نحو عقدٍ من تأسيس محمد بن سعود مشروع دولته، كما يرى المؤرخ السعودي راشد بن عساكر وعدد من الباحثين في تلك الحقبة.
بل إن الكاتب السعودي المتمكن في قضايا الفكر والتاريخ مشاري الذايدي، يؤصل أن يوم التأسيس، "جاء لتركيز الانتباهِ على لحظة ظلمت في التاريخ"، فهو يعيد الاعتبار للسردية التي تدعمها الوقائع والتاريخ والمنطق، إذ "يزيح النظرية السردية الأصولية السياسية حول انبثاق الدولة من عباءة رجل الدين، من دون إلغاء دور أهل المشيخة، لكن وضعه في إطار أكبر وأشمل هو إطار الدولة، ذاك هو جوهر يوم التأسيس".
وفي هذا السياق، يوثّق المؤلف المختص بتاريخ الدولة السعودية عبدالعزيز الثنيان أن الملك عبدالعزيز، مؤسس الدولة في طورها الحديث (المملكة)، كان صارماً في الفصل بين دو العلماء وسلطة الحكم، حين وقف أمام مشايخ نجد غاضباً وقال لهم: "أنتم فوق رأسي، تمسكوا بي، لأني إذا هززت رأسي وسقط منكم واحد فلن أرفعه".
وهو، مثل باحثين آخرين، يعيد تاريخ إمارة الدرعية التي أسسها أجداد آل سعود إلى قرونٍ تتجاوز الثمانية، قبل أن تتطور لاحقاً إلى مشروع دولة انطلق قبل ثلاثة قرون على "مبادئ راسخة ترتكز على إعلاء الشريعة الإسلامية وإقامة العدل والشورى"، وفق ما أكده ولي العهد أخيراً أمام مجلس الشورى.
ولذلك يحاجج الثنيان بأن الدرعية هي الامتداد والوارث الشرعي للدولة الإسلامية – العربية الأولى بعد سقوطها في بغداد ومصر، قبل أن يستحوذ العثمانيون على المشهد بالقوة.
وكانت صحف أجنبية مثل "نيويورك" تايمز الأميركية، رجحت هي الأخرى أن غياب المفتي "كان بمثابة نهاية رمزية لحقبة من تاريخ السعودية".
وتؤيد الباحثة في الشؤون السياسية نجاح العتيبي هذا الرأي، بأن المفتي الراحل ستطوى معه مرحلة من "تاريخ الإفتاء التي ارتبطت بتوجه تقليدي محافظ في الخطاب الديني، تميز به جيل كبار العلماء في العقود الماضية". فهي تراه امتداداً لمدرسة علمية تمثل الجيل الذي عاصر الشيخين ابن باز وابن عثيمين ومن قبلهم، "المعروفين بمواقفهم الفقهية الحذرة تجاه قضايا التغيير الاجتماعي، ومنها على سبيل المثال عمل المرأة ومشاركتها العامة".
بينما ينظر الباحث في الشأن الثقافي والتاريخي الهريش إلى المؤسسات الدينية في المرحلة الراهنة على أنها "مهما يكن التغيير الذي سيُجريه صانع القرار بشأنها، فإنها تقف على مفترق طرق حقيقي، ويفترض بها أن تعيد تقييم دورها ذاتياً وتأثيرها في المشهد الوطني، بما يواكب روح التحديث التي تقودها المملكة".
ولفت، بحكم قربه من الجيل الجديد من المشايخ الشباب، إلى أن العديد منهم يدرك أن "الوقت قد حان لإصلاحٍ جاد عبر توحيد الجهود وتجاوز الانشغال بالمواقع والألقاب، فالمرحلة تتطلب قيادة دينية حصيفة تُعيد ترتيب الأولويات وتُفعّل دور هذه المؤسسات بما يخدم الغايات الوطنية الكبرى، ويحوّلها من عبءٍ إداري وخطابي إلى رافدٍ تنموي ينسجم مع رؤية المملكة ومستقبلها".
غير أن آخرين يرون أن دور الفقهاء والعلماء أكثر تعقيداً، إذ ينصرف إلى البحث والتقصي العلمي والإجابة عن تساؤلات الناس الدينية ومسائل الحلال والحرام، المتصلة بعباداتهم من صلاة وزكاة وصوم وحج، في ظل تزايد هذه الأسئلة مع تعدد وسائل الاتصال الحديثة. وتقول "رئاسة الإفتاء" السعودية إنها أجابت العام الماضي وحده عن "5آلاف فتوى"، شارك في معالجتها 120 عالماً وباحثاً، إضافة إلى إصدار 50 مؤلفاً علمياً في سياق عمل المؤسسة.
مواكبة الإصلاحات
ومع أن آل الشيخ الذي حظي باحترام كبير من جانب العاهل السعودي وولي عهده، ينتمي إلى هذا الجيل المحافظ في رؤيته الشرعية، إلا أنه وفق العتيبي المراقبة عن كثب "كان من أكثرهم مرونة في التعامل مع التحولات الجديدة التي شهدتها المملكة خلال السنوات الأخيرة".
وأكدت العتيبي في حديث مع "اندبندنت عربية" أن الفقيه الثمانيني "أبدى تفهماً ملاحظاً للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية التي أطلقتها رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وواكبها بخطاب ديني أكثر اعتدالاً وواقعية"، في مناخ عام قالت إن الرؤية التي كانت اقتصادية في الأساس أمكنها خلقه، حين أسهمت في "في تعزيز صوت الاعتدال داخل المؤسسة الدينية، ومكنت العلماء من مواكبة متطلبات المرحلة الجديدة بروح منفتحة تتسق مع أهداف التطوير والتحديث في المملكة".
معالم الإصلاح المنتظر
وكانت الباحثة السعودية في مؤسسات بحثية غربية عدة وسعودية مثل مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، لاحظت في بحث لها قبل بضع سنين، أن ولي العهد اتسمت إصلاحاته في النطاق الديني بالحذر، لكن أيضاً بالذكاء والفاعلية.
وذكرت مثالاً على ذلك نطاق التعليم والثقافة والإرشاد الدعوي، فقد شمل "مسار الإصلاح الديني والاجتماعي في المملكة تقليصاً كبيراً من صلاحيات بعض الهيئات الدينية التقليدية، وفي مقدمها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي كانت تمتلك نفوذاً واسعاً في السابق، إذ جرى حصر دورها حالياً في التوعية والإرشاد من دون صلاحيات تنفيذية أو توقيف. كما أن قطاع التعليم بدوره شهد تغييرات جوهرية، تمثلت في تعديل المناهج لتقليل التركيز على المواد الدينية وتعزيز المحتوى العلمي والثقافي، إلى جانب تحديث المفاهيم مثل معالجة قضايا معاداة السامية، وتوظيف معلمين مؤهلين ذوي توجهات معتدلة، بما يعكس تحولاً مؤسسياً نحو الاعتدال والانفتاح الفكري".
رؤية 2030: إصلاح التعليم الديني في المملكة العربية السعودية#تقرير_خاص
— مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية (@KFCRIS) September 8, 2020
للباحثة د. نجاح العتيبي
لكن هذا المسار، لا يبدو أنه سيتوقف عند ذلك الحد، ففي عدد من الحوارات التي أجراها رجل الدولة القوي مع وسائل الإعلام المحلية والدولية، كشف عن نظرة عميقة للقضايا الفكرية والدينية، وفلسفته في التعامل مع تحدياتها، تظهر أن طموحه الإصلاحية في هذا السياق، تمس جوهر أصول الاستدلال والعمل البحثي والاجتهاد الشرعي ومؤسسات الفتوى.
ولي العهد يناقش جدلية الحاكم والمفتي
إحدى أبرز تلك النقاشات كانت في الحوار المطول مع "ذي أتلانتك" الذي استفاض في إجابته المحاور عندما سأله قائلاً "إن معرفتك المتقنة التي تتحدث بها عن الشريعة الإسلامية فريدة حقاً بين حكام السعودية، والموقف الذي تتخذه يعد موقفاً عصرياً جداً، لكنه أيضاً غير شائع بين علماء المسلمين. لذلك هل نتوقع في المستقبل أن يهتم حكام السعودية أنفسهم اهتماماً شخصياً وثيقاً بمسائل الشريعة الإسلامية؟ ففي الماضي كان علماء الدين يسيطرون على هذا المجال".
جاء الرد من الأمير مفصلاً، إذ أعاد المسألة لجذورها الأصلية في الشريعة الإسلامية، التي تؤكد أن "رأس المؤسسة الإسلامية هو ولي الأمر، أي الحاكم. لذلك، فإن القرار النهائي في شأن الفتاوى لا يأتي من المفتي، بل يتخذ القرار النهائي من الملك، وبهذا فإن المفتي وهيئة الإفتاء يقدمون المشورة للملك، لكن في التعاليم الإسلامية للحاكم القرار النهائي، وقد بويع على ذلك، وكلمة الفصل هي لملك المملكة العربية السعودية".
وأضاف "إنهم يعلمون أن باستطاعتهم النقاش، فعليك أن تناقش، وعليك أن تشرح، وعليك أن تستند على الأدلة من تعاليم الإسلام، ومن زمن الرسول، ومن زمن الخلفاء، وعليك أن تتدبر القرآن، وعليك أن تتأمل الحديث حتى توضح مقصدك، ومن ثم عليك أن تكون متأكداً من أن الشعب مستعد لهذه الفتوى ويؤمن بها، وعندئذ يتخذ الملك القرار، ولكن إذا استخدمت السلطة بصفتك الملك واتخذت القرار، من دون المرور بمراحل هذه العملية، فإن ذلك قد يخلق صدمة في الشارع، وصدمة للشعب".
الإجابات في هذا الصدد، بدت صادمة للصحافي الأميركي، الذي استوقفه عمقها، ليسأل الأمير عن حاجته إلى "المفتي" ما دام أنه يستحضر أعقد المسائل الشرعية من دون تحضير "بإمكانك فعل ذلك بنفسك"، فكان الجواب المقصود من هذا الإيراد، وهو قول ولي العهد "لأن مهمة المفتي هي الإجابة عن الأسئلة اليومية للناس، فمثلاً: إذا أكل شخص في نهار رمضان وأراد أن يعرف ماذا يفعل، هل أذنب أم لا، ثم أراد الاتصال بمن يجيبه عن ذلك، فهذا مهمة المفتي، وهذا يستدعي التنظيم، وأن يكون لديك تفويض من الحكومة، ولهذا فإن هدف الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء هو الإجابة عن أسئلة الناس في شأن احتياجاتهم".
خطباء الجوامع بالمملكة يخصصون خطبة الجمعة للحديث عن بيان هيئة كبار العلماء حول التحذير من جماعة الإخوان الإرهابية.#واس_عام pic.twitter.com/JhkRw7umPl
— واس العام (@SPAregions) November 13, 2020
خطاب ديني مواكب
لكن هذه النظريات وتفكيكها وتحويلها إلى مشاريع إصلاحية وبرامج يلمسها الرأي العام المحلي والدولي بوصف المملكة قبلة المسلمين، ظلت أقل من بقية الجوانب التي حققت فيها الرؤية نجاحات غير مسبوقة، مثل جذب السياح الأجانب وتراجع البطالة وتحقيق القطاع غير النفطي إيرادات تفوق النفطي للمرة الأولى في تاريخ البلاد، ولذلك يعتقد باحثون مثل الكاتب السعودي المختص في القضايا الفكرية مشاري الذايدي أن الجانب الفكري من الرؤية لم يشهد حتى الآن الزخم المنتظر.
غير أن هذا لا ينطبق على قطاعات في الشأن الديني، مثل "رابطة العالم الإسلامي"، بأمينها الحيوي محمد العيسى، الذي قاد خطاباً دينياً غير عادي، ذلل فيه كل ما ينظر إليه باعتباره مصاعب لا تقهر باجتهاد ديني ونظرة توائم بين المصلحة العامة وروح النص الشرعي، الذي نقض ما كان يتردد في القديم على أنه يتصادم مع الشريعة في بعض تطبيقات العلاقات الدولية والحوار مع الأديان والمذاهب، ناهيك ببعض الفتاوى والنوازل العلمية، وأحيط به على إثر ذلك جدل كبير، حاول شيطنته وإسقاطه، في حملات دولية ومحلية منسقة، إلا أن التمكين الذي وجده، جعل نشاطه في تمدد وتزايد، من أفغانستان إلى بابا روما.
وكانت "وثيقة مكة" وكذلك نظيرتها في "بناء الجسور بين المذاهب الإسلامية"، يشار إليهما باعتبارهما "النموذج" لمخرجات نظرية، تبرهن على ما يمكن أن يوصل إليه الاجتهاد الفقهي المؤسسي في تجاوز تعقيدات الماضي، وقنابل التراث المفخخة، إلى عالم أرحب، تجمعه قيم إنسانية ودينية أوسع نطاقاً.
تحول في فلسفة التأثير
يأتي ذلك في حين تشير مراكز الأبحاث الأجنبية مثل "كارنيغي" إلى أن حراك المملكة المتسارع لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي والدولي يعتمد أدوات جديدة في التأثير الخارجي، عبر الاستثمار في "قوة ناعمة" لا ترتهن للتفسيرات الدينية الضيقة، على النحو الشائع في عقود سبقت.
ويرى المركز الدولي ذائع الصيت أن الرياض تستهدف من هذا الاتجاه "نسج علاقات دولية أكثر ودية من خلال الابتعاد من نهج إيديولوجي أسهم بصورة فعالة في سياستها الخارجية والداخلية، وهي تتخذ إجراءات عدة للتخفيف من التبعات التي قد تتكبدها نتيجة هذا التحول".
ويعتبر تقليص الدعم السعودي للسلفية في هذا السياق، يرمي إلى "إعادة اصطفاف أوسع تهدف من خلاله البلاد إلى تعزيز شراكاتها مع قوى دولية غير مؤدلجة دينياً كالغرب والصين، ضمن توجه يركز على الانخراط الاقتصادي والسياسي بدل الديني".
ارتبط هذا التحول برغبة المملكة في تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على النفط، مما استلزم جذب الاستثمارات الأجنبية وتخفيف القيود الاجتماعية التي كانت تعوق صورتها الحديثة. كما أسهم التحول الديمغرافي في الداخل، إذ يشكل الشباب دون الـ30 أكثر من 60 في المئة من السكان، في دفع هذا المسار نحو انفتاح اجتماعي وثقافي يتجاوز التفسيرات المحافظة التي كانت تروجها المدرسة التقليدية.
هذا النهج الجديد في التعاطي مع الملفات، أكثر ما يظهر فيه بصورة لافتة سوريا الجديدة بعد سيطرة أحمد الشرع وتياره على دمشق، إذ على رغم خلفية الحكام الجدد الدينية، فإن نهوض الرياض بعبء إعادة تأهيلهم سياسياً ودولياً وتنموياً، أخذ طابعاً مدنياً وإنسانياً وإعلامياً، بأدوات غير أيدولوجية في الغالب، في إحدى تجليات شخصيات السعودية الجديدة في التعاطي مع الملفات الدولية والإقليمية بأساليب ناجعة، لكنها لا تنطلق من البعد الديني، فهو غني عن الذكر، أو تحصيل حاصل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويروي في هذا الصدد رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، جانباً من هذا البعد في التعاطي مع ولي العهد السعودي، في حوار مع "الشرق الأوسط اللندنية"، إذ كان رئيساً لجهاز المخابرات، ونقل رسالة من بغداد، وفيها أنه ليس لدى العراقيين مشكلة مع مذهب معين أو طائفة معينة، وإنما المشكلة التكفيريين أو الإرهابيين، "فكان جواب الأمير ذكياً، وقال نحن لا نتعاطى السياسة على أساس المذاهب، بل نتعاطى على أساس المصالح المشتركة، وعلى أساس انتماءاتنا الثقافية".
وترى الباحثة العتيبي أن أحد جوانب التميز في عملية الإصلاح السعودية، هو "الشمولية والتدرج"، إذ شمل مختلف جوانب الحياة في المملكة من التعليم إلى المسجد والأسرة والمجتمع، في إطار رؤية توازن بين الأصالة والتحديث.
ولاحظت أن "التحولات صاحبتها كذلك إصلاحات قضائية حدت من الاعتماد على التفسيرات الفردية للنصوص الشرعية، واستبدلتها بتشريعات حديثة منسجمة مع القوانين المدنية المعاصرة. ومع انطلاق الرؤية، برز علماء معتدلون مثل الدكتور محمد العيسى، الذي قاد مبادرات في حوار الأديان، من أبرزها زيارته لمعسكر الإبادة "أوشفيتس"، في خطوة رمزية تعكس التحول نحو خطاب إنساني منفتح".
التجديد بالعودة لـ"الأصالة"
يرى الباحث والكاتب السعودي فهد الشقيران من جهته أن إصلاح المؤسسة الدينية في المملكة يندرج ضمن فلسفة الأمير، التي تقوم على التطوير الحيوي والتواؤم مع المتغيرات. فالمؤسسات بطبيعتها - كما يقول - تتطور لتنهض بخطابها وتستوعب المستجدات الطارئة على حياة الإنسان، وهذا ما عبر عنه العلماء عبر مفهوم "فقه النوازل"، الذي يعنى باستيعاب الظواهر الجديدة وإصدار الفتوى الملائمة لها. ويشير الشقيران إلى أن التجارب التاريخية للمؤسسات الدينية، من الأزهر في مصر إلى هيئات الإفتاء في المغرب وتونس، تؤكد أن التطور سنة مؤسسية لا غنى عنها.
ويستشهد الشقيران بتصريحات ولي العهد حول مفهوم "الإسلام المعتدل"، مبيناً أن الأمير قدم طرحاً عميقاً حين قال: «نحن لا نغير الإسلام إلى شيء جديد، نحن نعود لتعاليمه الحقيقية، التي عاش بها الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدون، إذ كانت مجتمعاتهم منفتحة ومسالمة... المتطرفون اختطفوا الدين الإسلامي وحرفوه، ونحن راجعون إلى الجذور، إلى الشيء الحقيقي». ويرى الشقيران أن هذا التصور لا يمثل تجديداً في جوهر الدين، بل عودة لأصالته الأولى بعد أن شوهتها التيارات المتشددة.
ويؤكد الشقيران في حديثه مع "اندبندنت عربية" أن تطور المؤسسة الدينية السعودية أمر طبيعي وضروري لمواكبة التحولات الكبرى في حياة الناس، خصوصاً في زمن الثورة التقنية والذكاء الاصطناعي. فالإفتاء مسؤولية كبرى "كالتوقيع عن رب العالمين"، كما وصفها ابن القيم، مما يستلزم وعياً مؤسسياً متجدداً ينسجم مع روح رؤية 2030 التي تقوم على الحيوية والسرعة في الإنجاز.
ويرى أن تبني المفهوم المؤسسي في العمل الديني هو الضمان لقياس الأداء وتحقيق الأثر، ضمن مسار إصلاحي يجعل المؤسسة الدينية شريكاً في التنمية لا مجرد شاهد عليها.
"الدبلوماسية الدينية"
بدوره يرى الخبير السعودي هشام الغنام في "مالكوم كير" أن التحول السعودي بعيداً من السلفية يمثل "انعطافة استراتيجية كبرى تمس بنية النفوذ الديني والسياسي للمملكة، إذ يتجاوز البعد الديني إلى إعادة تعريف الدور السعودي في العالم الإسلامي". ويقول الغنام لـ"اندبندنت عربية" إن هذا التحول "ينطوي على تحديات جمة، تبدأ من توازن النفوذ الإقليمي، ولا تنتهي عند إدارة التبعات الاقتصادية والدبلوماسية"، لكنه في الوقت نفسه يعكس ثقة القيادة السعودية بقدرتها على صياغة نموذج جديد يجمع بين الإصلاح الديني والتحديث الاجتماعي والسياسي في إطار رؤية 2030.
ويشير إلى أن ولي عهد البلاد تبنى مقاربات متوازية لتعزيز هذا التحول، عبر "بناء قوة ناعمة بديلة تقوم على الثقافة والاقتصاد والرياضة والدبلوماسية الدينية"، بدلاً من تصدير الفكر السلفي كما كان في العقود الماضية، وقد أعادت الرياض توجيه مواردها نحو الاستثمار في قطاعات استراتيجية حول العالم، مثل مشروع العاصمة الإندونيسية الجديدة "نوسانتارا"، والاستحواذ على نادي نيوكاسل يونايتد، فضلاً عن تأسيس مؤسسات للحوار بين الأديان، مثل مركز الملك عبدالله العالمي للحوار، الذي "لا ينشر التعاليم الإسلامية مباشرة، بل يروج لقيمها الحقيقية عبر التفاهم والتقارب الإنساني".
ويخلص الغنام إلى أن هذا التحول يعبر عن عودة للإسلام الحقيقي الذي تحدث عنه ولي العهد، إسلام منفتح ومتسامح يحترم الثقافات والديانات الأخرى، كما عاشه الرسول والخلفاء الراشدون. وتسعى المملكة، وفق هذا النهج، إلى "التعويض عن تصدير السلفية السابقة عبر ترويج نسخة أقل تشدداً وأكثر شمولاً"، وهو ما قد يسهم في تخفيف الطائفية وتوطيد التماسك الإسلامي، ويعزز صورة السعودية كقوة إصلاحية عالمية تجمع بين الاعتدال والريادة في زمن تتبدل فيه موازين التأثير الديني والسياسي.
على رغم زخم الإصلاحات المتلاحق على هذا الصعيد، يشير آخر تقرير أميركي للحريات الدينية في السعودية في 2023 إلى أن المسؤولين الأميركيين (عهد بايدن) كثفوا تواصلهم مع القادة السعوديين في واشنطن والرياض لمناقشة تعزيز التسامح والحرية الدينية، مشيدين بالخطوات التي اتخذتها المملكة في هذا الاتجاه، مع تأكيد أهمية مواصلة تحسين بيئة الحقوق الدينية، بحسب وصفهم.
ومن المفارقات أن السعوديين يرون أن هذا النوع من الضغوط يصعب عليهم المضي قدماً، وليس كما تعتقد المنظمات الحقوقية، التي تتهم على نطاق واسع بأنها "مسيسة"، وتنطلق من معايير مزدوجة.