ملخص
بلغ "مهرجان لوميير" هذا العام دورته الـ17 من الـ11 حتى الـ19 من أكتوبر الجاري. أجيال عدة تتدافع على أبواب الصالات لمتابعة الحدث على مدار تسعة أيام تجاوز خلالها عدد التذاكر المبيعة 150 ألفاً.
منذ أن انبثق أول شعاع من آلة التصوير في أحد شوارع ليون عام 1895 تمشي هذه المدينة وخيال الصورة يسير أمامها. هناك، في ثالث المدن الفرنسية، دوى الحدث الذي أضاف إلى الفنون فناً جديداً: السينماتوغراف الذي اخترعه صناعيان يعرفان باسم أوغوست ولوي لوميير قبل أن يجوب اكتشافهما الجديد العالم، موثقاً حياة البشر بدءاً من نهاية القرن الـ18. بعد أكثر من قرن على تلك اللحظة انطلقت في ليون مغامرة جديدة كانت في البداية مجرد تجربة خجولة: "مهرجان لوميير للكلاسيكيات" الذي جاءت دورته الأولى في عام 2009، كمحاولة لرد الاعتبار إلى فعل المشاهدة الجماعية من خلال إعادة الأفلام المنسية إلى الشاشة وتوفير قراءة جديدة لها في ضوء الحاضر. ما بدأ كمحاولة للإتيان بكل سينما العالم إلى ليون بلغ هذا العام دورته الـ17 من الـ11 حتى الـ19 من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري. أجيال عدة تتدافع على أبواب الصالات لمتابعة الحدث على مدار تسعة أيام تجاوز خلالها عدد التذاكر المبيعة الـ150 ألفاً.
لم يكن المهرجان في بداياته أكثر من فكرة جميلة، لكن يصعب تحقيقها على أرض الواقع. ومع ذلك كان يكفي أن يحمل اسم لوميير كي يستقطب أول سينمائي كبير أسند إليه جائزة لوميير: كلينت إيستوود. استحضاره إلى قلب ليون بدا أقرب إلى المعجزة، بيد أن اللحظة المفصلية التي غيرت مصير المهرجان جاءت بعد أربع سنوات، حين اعتلى كوانتن تارانتينو المنصة ليحمل جائزة لوميير الخامسة، فتحول من حدث محلي إلى عالمي.
اليوم، أصبح المهرجان أحد أهم المواعيد المخصصة للأفلام الكلاسيكية المرممة. من نسخ مسحوبة حديثاً لأفلام مثل "طيران فوق عش الوقواق" لميلوش فورمان (افتتح الدورة الحالية) إلى عرض "باري ليندون" لستانلي كوبريك بنسخة 4K مدهشة، مروراً بندوات لكبار الأسماء مثل المجري إيشتفان سابو والهونغ كونغي جون هو، تبدو ليون وكأنها تواصل مهمة الأخوين لوميير، خصوصاً انها ترفع شعار "مهرجان سينمائي للجميع" لجذب الجماهير، بعيداً من نخبوية المهرجانات الأخرى التي تفرش السجادة الحمراء تحت أقدام النجوم.
أفلام مستعادة
ففي خريف من كل عام منذ 2009، تفتح ليون صالاتها (أكثر من 30 هذا العام) أمام أعمال سينمائية مستعادة، بعضها عرض على التلفزيون مرات ومرات، ومع ذلك يهرع الجمهور إلى الصالات المكتظة على مدار اليوم. هناك عامل التسلية والمتعة والترفيه الذي يحفز المشاهدين، لكن هناك أيضاً التمرين على الذاكرة الجماعية. فالفيلم يولد من جديد حين يعرض على شاشة عملاقة وسط صمت مشترك وعيون شاخصة إلى البقعة المستطيلة، كأن المدينة كلها تتنفس المشهد وتعيش على إيقاع أحداثه. أما الهرمية السينمائية، فاستطاع مهرجان لوميير إلغاءها. هذا يتيح للمتفرج أن يجد فيلماً مثل "عندما يلتقي هاري سالي" لروب راينر إلى جوار "أغويري، غضب الله" لفرنر هرتزوغ، من دون أن يلغي أحدهما الآخر، ومن دون أي تمييز بينهما بناءً على القيمة الفنية. هذا التعايش الجمالي بين سينما خفيفة ذكية ولماحة وسينما مؤلف أكثر تعقيداً، هو ما يصنع هوية المهرجان، ويعيدنا إلى فكرة الأخوين لوميير الأولى: السينما، قبل أن تكون فناً، هي فرجة تجمع البشر في فضاء واحد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهرجان لوميير أفلام ولقاءات ومشاركة لحظات لا تُنسى وإعادة اكتشاف وضيوف من أصقاع الأرض، ولكنه قبل أي شيء فهو مكان. يمتد "شارع الفيلم الأول"، حيث معهد لوميير، وقد استعادت أحجاره بريق الماضي بعد خضوعه لأعمال ترميم، ليتحول الحي إلى فضاء للمشاة والزائرين. هذا الشارع يتحول خلال المهرجان إلى "قرية سينمائية"، ملتقى يجتمع فيه المخرجون والطلاب والكتاب والنقاد والسينيفيليون، كما لو أن المدينة بأكملها خلعت رداءها اليومي لتلبس ثوب السينما. حتى أنفاق المترو ومحطات الباص مزنرة بملصقات المهرجان. وهكذا، تبقى ليون وفية لنفسها: مدينة ولدت فيها السينما، وما زالت ترد الجميل للضوء الذي خرج من أحد مصانعها، والذي يحمل بالفرنسية اسم "لوميير".
في قاعة توني غارنييه التي غصت بالمشاهدين خلال حفل الافتتاح (حضره الممثل الأميركي شون بن، وهو أحد ضيوف شرف هذه الدورة)، يتجلى هذا الشغف في صورته الأكثر نقاءً. الانفعال ينتقل مثل تيار كهربائي بين المشاهدين والضحك والدهشة يسريان بين المقاعد كالعدوى. أما في قاعة "الأوديتوريوم"، حيث أجرى مدير المهرجان تييري فريمو حواراً مع ناتالي بورتمان قبل عرض "بعجة سوداء" لدارن أرونوفسكي، فنتابع الأفلام الصامتة المرممة على إيقاع الأوركسترا الوطنية، في حوار نادر بين زمنين: زمن كانت فيها الصورة كافية، وزمن تخلد فيه الموسيقى تلك السينما الرائدة، لتستعيد مجدها الأول. وفي كل دورة، تأتي لحظة التكريم الكبرى: جائزة لوميير، التي مر عليها سكورسيزي ودوبارديو ودونوف وكوبولا وفندرز وكامبيون. هذا العام، يكرم مايكل مان، الثمانيني الصارم، صاحب أفلام صاغت ملامح السينما الأميركية الحديثة مثل "حرارة" و"آخر الموهيكيين" و"علي" و"المخبر". عند تسلمه الجائزة، قال مايكل مان إنه كان يتمنى لو يراه والده.
تتزامن احتفالية لوميير هذا العام مع مرور 130 عاماً على ولادة السينما، تلك المعجزة التي بدأت بلقطة لعمال يخرجون من مصنع في حي مونبليزير. في حفل الافتتاح، لم يفُت المنظمين أن يضعوا أنطوان لوميير (والد الأخوين لوي وأوغوست) في الواجهة، عبر جملته الشهيرة التي ارتدت طابع المفارقة: "السينما فن بلا مستقبل". تأكيداً على عدم صوابية هذا الرأي، عرض المهرجان شريطاً يستعرض قرناً وثلاثة عقود من الصور الأيقونية الخالدة. مشهد مهيب في دقته الموسيقية، كأنه مقال بصري عن جوهر المهرجان: الاحتفاء بالذاكرة عبر الصورة.
يحرص المهرجان في كل دورة على نبش ذاكرة السينما وإعادة إحياء أسماء طواها النسيان، أو همشت بفعل الزمن وتقلبات الصناعة، مواهب تستحق أن تتعرف عليها الأجيال الجديدة. ومن بين أبرز الأسماء التي حظي هذا العام بهذا التكريم المستحق، برز المخرج الأميركي مارتن ريت (1914 – 1990)، أحد أعمدة السينما الاجتماعية الملتزمة في الولايات المتحدة، وصوتها الجريء في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، وهي حقبة عاصفة بالتحولات السياسية والمطلبية. وتميزت أعمال ريت بجرأتها الفكرية ووضوح موقفها الإنساني. شكلت العدالة الاجتماعية وحقوق العمال والمساواة العرقية محور اهتمامه، إلى جانب نقده الصريح للمكارثية وأشكال التمييز الطبقي. إلى ريت، تابعنا استعادة لأفلام الممثل الفرنسي لوي جوفيه (1887 - 1951) الذي عمل مع كبار السينمائيين الفرنسيين، من كلوزو إلى رونوار فدوفيفييه، إضافة إلى نظرة جديدة على أعمال المخرج الشرق ألماني كونراد وولف (1925 - 1982). أخيراً، وضمن سلسلة "التاريخ المتواصل للمخرجات" خصصت للنرويجية أنيا بريين استعادة تليق بمكانة رائدة "الموجة الجديدة" في السينما الإسكندنافية خلال الستينيات.