ملخص
"أكثر ما يخيفني أن يأتي يوم لا أستطيع فيه تحمل كلفة وصول ابنتي إلى المدرسة، بسبب الزيادات المستمرة في أسعار النقل، التي تترجم فعلياً إلى زيادة لا تقل عن 500 جنيه شهرياً، يفرضها قائد الأتوبيس الذي ينقلها إلى المدرسة"... ما فعله البنزين في المصريين
"أتعمد ألا أصطحب أطفالي إلى السوق، فطلب بسيط قد يعجزني، أكتفي مثلاً بشراء حبتين من التفاح حين يلحون على الفاكهة، فقط ليشبهوا زملاءهم في المدرسة، لا أشتري بالكيلو، ولا يكفيني الدخل حتى نهاية الشهر، أعيش على الاستدانة، وشعرت بالعجز حين قرأت عن زيادات متوقعة في أسعار منتجات عدة، بعد القرار الأخير برفع أسعار المنتجات البترولية".
بتلك الكلمات عبر الأربعيني محمد عبدالحسيب عن شعوره عقب قرار الحكومة المصرية رفع أسعار الوقود بنسبة وصلت إلى 13 في المئة، لتشمل الزيادة جميع المنتجات البترولية بواقع جنيهين لليتر الواحد، وأبدى عبدالحسيب تخوفه من اتساع قائمة السلع "الممنوعة" على أسرته، نتيجة ارتفاعات متوقعة في الأسعار تطاول مزيداً من السلع والخدمات.
وتعد هذه الزيادة الثانية في أسعار الوقود خلال العام الحالي، وقد تخطت الحدود القصوى التي سبق أن أعلنتها الحكومة، التي نصت على ألا تتجاوز نسبة التغيير في سعر بيع المستهلك، صعوداً أو هبوطاً، 10 في المئة من السعر الساري.
وارتفع سعر ليتر البنزين 95 من 19 جنيهاً إلى 21 جنيهاً، والـ92 من 17.25 إلى 19.25 جنيه، والـ80 من 15.75 إلى 17.75 جنيه لليتر الواحد، وارتفع سعر السولار من 15.5 إلى 17.5 جنيه.
وتنعكس الزيادات الأخيرة في أسعار الوقود على مجموعة واسعة من السلع الأساسية، إذ تتوقع شعبة المخابز بالقاهرة ارتفاع أسعار المخبوزات بنسبة تراوح ما بين 15 و20 في المئة، إلى جانب زيادة متوقعة في أسعار الخضراوات والفاكهة تصل إلى نحو 50 قرشاً للكيلو، ويرجح أن تؤدي الضغوط الحالية إلى الخروج من منظومة الإنتاج الحيواني.
لا خطة للإنفاق الشهري
وبضحكة هستيرية تحمل سخرية من واقع يصفه بـ"الخانق"، يقول عبدالحسيب "نريد مسؤولاً يخرج علينا ليخبرنا صراحة متى ستنتهي خطة الإصلاح الاقتصادي، وإذا كانت هناك ضرورة لرفع الأسعار، فلماذا تشمل الزيادة السولار الذي ترتبط به كلفة النقل العام؟".
ويضيف عبدالحسيب أنه منذ الزيادة الأخيرة يضطر إلى السير مسافة كيلومترين من الشارع الرئيس إلى منزله، لتفادي كلفة التوصيلة الداخلية، موضحاً "لا أستطيع الاستغناء عنها في الذهاب إلى العمل، لكنني أتخلى عنها في طريق العودة، حتى أوفر ما يمكن توفيره".
ويعمل عبدالحسيب في القطاع الخاص، ويتقاضى دخلاً يقارب الحد الأدنى للأجور البالغ 7 آلاف جنيه، ويقول "المواصلات اليومية وحدها تكلفني نحو 40 جنيهاً، لكن الكارثة أن الأسعار كلها تقفز بعد أي زيادة في السولار، بصورة جنونية"، ويتابع "حين يطلب أولادي الفاكهة أشعر بالخوف خصوصاً أن أسعارها ارتفعت بصورة مخيفة، حتى في نهاية الموسم. الدخل لا يكفي ولم أعد أضع أي خطة للإنفاق الشهري، وأشعر أنني تلقيت الضربة القاضية، ولم أعد أجادل في الأسعار، بل أبحث عن الأرخص بغض النظر عن الجودة".
ويختم قائلاً "طوال الصيف لم تنخفض أسعار الفاكهة، تبدأ من 40 جنيهاً، وبعض الأنواع تجاوزت 100 جنيه، وهي أرقام لم نكن نسمع بها من قبل، الفاكهة كانت ترتفع في أول الموسم وتنخفض في نهايته، أما الآن فهي لا تنخفض أبداً".
ويؤكد المتخصص في الشأن الاقتصادي الزراعي بمركز البحوث الزراعية محمد إبراهيم أن الزيادات الأخيرة في أسعار المنتجات البترولية "تشكل عبئاً كبيراً على المواطنين"، نظراً إلى اعتماد القطاع الزراعي بصورة أساسية على السولار في تشغيل المعدات مثل الجرارات وآلات الحرث والمضخات.
وحول الأسباب الأخرى للأزمة أوضح إبراهيم في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن ارتفاع أسعار الوقود سينعكس على كلفة إنتاج المحاصيل، ومن ثم على أسعار جميع السلع في السوق، مؤكداً أن المواطن هو من يتحمل هذه الكلف في نهاية المطاف، سواء من ناحية كلفة الإنتاج أو النقل، من دون أن يقابل ذلك تحسن ملموس في مستوى الدخل أو زيادة كافية في الأجور.
وأضاف أن هذه الزيادات تعد مخالفة لقرارات لجنة تسعير المنتجات البترولية، التي تنص على ألا تتجاوز نسبة الزيادة أو الانخفاض 10 في المئة كل ثلاثة أشهر مقارنة بالسعر السابق. مشيراً إلى وجود خلل واضح في التزام هذه الضوابط، ومتسائلاً: "لماذا لا تطبق المعايير التي حددتها اللجنة؟ ولماذا يجري تجاوزها؟"، وتابع "إذا شهدت الأسعار العالمية للبترول تراجعاً حاداً، هل ستلتزم اللجنة حينها بعدم خفض الأسعار محلياً بأكثر من 10 في المئة فقط؟". مشيراً إلى أن الالتزام بالضوابط يبدو انتقائياً، إذ يجري تجاوز السقف المحدد عند رفع الأسعار بينما يراعى عند التخفيض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك يشرح رئيس شعبة الخضراوات والفاكهة بالغرف التجارية يحيى السني في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، أن تأثير قرار رفع أسعار الوقود سيظهر بصورة تدريجية على أسعار الخضراوات والفاكهة، نظراً إلى اعتماد عملية الإنتاج والنقل بصورة أساسية على السولار. موضحاً أن الآلات الزراعية المستخدمة في الحصاد والري والتجهيز كلها تستهلك السولار، كذلك فإن عمليات النقل تعتمد عليه بصورة كاملة، مما يؤدي إلى زيادة ملحوظة في الكلف وانعكاسها المباشر على أسعار البيع.
وأضاف السني أن هذه الزيادات لا تقتصر على الوقود فحسب، بل تشمل مستلزمات الإنتاج كافة، مؤكداً أن السوق بدأت تشهد حالاً من الركود منذ اليوم الأول لتطبيق الزيادة، بسبب عزوف عدد كبير من المواطنين عن الشراء.
الدخول تتآكل
ولا يختلف حال الثلاثيني محمد عصمت عن حال كثير من أبناء الطبقة المتوسطة، التي باتت تتآكل بفعل الضغوط الاقتصادية المتلاحقة، إذ يقول لـ"اندبندنت عربية"، "أكثر ما يخيفني أن يأتي يوم لا أستطيع فيه تحمل كلفة وصول ابنتي إلى المدرسة، بسبب الزيادات المستمرة في أسعار النقل، التي تترجم فعلياً إلى زيادة لا تقل عن 500 جنيه شهرياً، يفرضها قائد الأتوبيس الذي ينقلها إلى المدرسة".
ويضيف "لم أستوعب بعد الزيادات الأخيرة، خصوصاً أن الرواتب لا ترتفع بالوتيرة نفسها، الضغوط على أسرتي تتزايد، من أتوبيس المدرسة إلى كلف مواصلاتي اليومية إلى العمل إلى أسعار السلع الأساسية"، ويتابع "تخلينا عن أي تنقلات غير ضرورية، وأتوقع أن تتآكل نسبة 15 في المئة إضافية من دخلي بسبب الإجراءات الجديدة. الدخل يفقد قيمته يوماً بعد يوم، وغرام الذهب أصبح يعادل راتب شهر كامل، لذلك أقيس مستوى المعيشة الآن على الذهب، لأنه لم يعد هناك مقياس أكثر واقعية منه".
ويؤكد رئيس شعبة الدواجن باتحاد الغرف التجارية، عبدالعزيز السيد، في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن الزيادات الأخيرة في أسعار الوقود سيكون لها تأثير مباشر في قطاع الدواجن، بخاصة مع اقتراب فصل الشتاء، الذي يتطلب تشغيل أنظمة التدفئة على مدى الساعة، خصوصاً في المناطق الشمالية من البلاد.
وأوضح السيد أن التدفئة خلال فصل الشتاء تعتمد بصورة أساسية على السولار والغاز، ومع ارتفاع أسعارهما، فإن كلفة الإنتاج ترتفع بصورة كبيرة، مشيراً إلى أن صناعة الأعلاف أيضاً تتأثر بارتفاع أسعار الطاقة، مما يؤدي إلى زيادات متتالية في أسعار الأعلاف، ومن ثم تتضاعف الكلفة الإجمالية للإنتاج، بينما لا يقابل ذلك قدرة شرائية كافية لدى المواطن.
وأضاف أن استمرار هذا الوضع قد يدفع بعض المنتجين إلى الخروج من المنظومة الإنتاجية، في حال لم تعد أسعار البيع النهائية تغطي كلف الإنتاج، لافتاً إلى أن المشكلة ليست بسيطة أو آنية، بل ذات تأثيرات ممتدة، قائلاً "لا يمكن التقليل من خطورة الموقف، فالأعباء تضاعفت، والمواطن غير قادر على تحمل زيادات جديدة في الأسعار".
انتظروا مزيداً من الركود والفقر
وحول مدى تأثير هذه القرارات مجتمعياً يوضح المتخصص في علم الاجتماع، سعيد صادق، أن نسبة الفقر في مصر وفقاً لتقديرات البنك الدولي بلغت نحو 66.2 في المئة، مشيراً إلى أن رفع أسعار الوقود سيؤدي بطبيعته إلى ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات، مما سيفاقم من معدلات الفقر، بخاصة أن شريحة كبيرة من المواطنين لم تتعاف بعد من آثار الزيادات السابقة.
واعتبر صادق أن القرار يعد "كارثياً" من الناحية الاجتماعية، إذ يزيد الأعباء على المواطن، ويؤدي إلى تفاقم المشكلات الأسرية والمجتمعية، ويضعف الثقة العامة في المستقبل، لا سيما في ظل التصريحات الحكومية المتكررة حول تحسن الأوضاع الاقتصادية، التي تتناقض مع هذه القرارات المتخذة.
وأضاف صادق أن المواطن بات يوسع من قائمة "الممنوعات" التي لا يستطيع شراءها، وصدقية الحكومة تآكلت بعدما أصبحت الأسعار ترتفع مع كل زيادة في الوقود، لكنها لا تنخفض أبداً عند تراجع الأسعار العالمية.
ويتفق المتخصص الاقتصادي رشاد عبده مع الآراء السابقة، إذ يقول لـ"اندبندنت عربية" إن أزمة أسعار الوقود في مصر لا ترتبط فقط بارتفاع الأسعار العالمية، بل تعود بالأساس إلى سعر صرف الدولار، معتقداً أن المواطن هو من يتحمل فرق السعر عند كل زيادة في قيمة الدولار أمام الجنيه.
وأوضح عبده أن الحكومة لم تعد تدعم الطاقة كما في السابق، بل أصبحت فعلياً تدعم الدولار، لأنها تشتري المنتجات البترولية من الخارج بالدولار، وتحمل الزيادة بالكامل على المواطن، وأضاف أن دخول المواطنين لا تواكب هذه الزيادات المستمرة، مما يؤدي إلى تآكل الدخل الحقيقي وارتفاع مستويات المعاناة، متسائلاً عن مدى قدرة الحكومة على التزام تعهدها الأخير بتثبيت أسعار الوقود مدة عام، خصوصاً أن اتفاقها مع صندوق النقد الدولي ينتهي بنهاية العام المقبل، ومن المتوقع أن تتبع ذلك موجة جديدة من الضغوط الاقتصادية.
واختتم عبده "هناك دول لا تنتج بترولاً ومع ذلك تخفض أسعار الوقود، أما في مصر فيبدو أن إرضاء صندوق النقد الدولي أصبح أولوية تتجاوز مصلحة المواطن".
وفي ظل تصاعد الأعباء المعيشية، يصف الخمسيني محمد سليمان حاله بأنها أشبه بمن يحمل صخرة ويصعد بها إلى قمة جبل، على أمل أن تتحسن الأحوال، يقول لـ"اندبندنت عربية"، "أشعر بإحباط متزايد، فالمستوى المعيشي يتراجع على رغم عملي في أكثر من وظيفة. في عقود سابقة كانت لدينا اختيارات عدة في وسائل النقل، تتناسب مع ذوي الدخل المحدود، أما الآن فأصبح كل شيء عبئاً على الجميع".
ويتابع "نعيش في طاحونة لا تتوقف، نحاول زيادة دخلنا لمواجهة الزيادات المتتالية، لكن هناك من لا يمتلكون القدرة على ذلك، فتكون حياتهم أكثر بؤساً، بينما أنا بالكاد ألاحق الإنفاق على الأساسيات من الإيجار والمواصلات والطعام البسيط، وسط انفلات مخيف في الأسعار"، ويختم حديثه قائلاً "ماذا بعد هذه الإجراءات؟ وإلى متى سنظل عالقين في هذا الوضع المأسوي؟".