ملخص
كان ينظر إلى نظام الأسدين على أنه كان حكماً طائفياً خالصاً أتاح تسيد الأقليات على الأكثرية الدينية من المكونات، وتدعم تلك الرؤية تصورات تنحدر من أعلى هرم السلطة الحالية إلى أدناه.
لا تزال شريحة كبيرة من السوريين تطلق على الرئيس أحمد الشرع "لقب الشيخ"، فيما يغالي آخرون بوصفه "معاوية هذا العصر"، كل ذلك يتماشى مع وصف جماهيري لسوريا اليوم بأنها الدولة الأموية.
وعلى رغم أن الحكم الأموي كان واحداً من أقصر فترات الحكم الإسلامي تاريخياً، فإن تلك التسمية بحد ذاتها ترتبط بالوعيين الجمعي واللاجمعي للجماهير في محاولتهم لاسترداد مكانتهم على الخريطة الداخلية بعد حقبة طويلة من الحكم الأسدي للبلاد.
حكم الأقليات
كان ينظر إلى نظام الأسدين على أنه كان حكماً طائفياً خالصاً أتاح تسيد الأقليات على الأكثرية الدينية من المكونات، وتدعم تلك الرؤية تصورات تنحدر من أعلى هرم السلطة الحالية إلى أدناه، وبمعزل عن مواقف الشرع وتصريحاته حين كان جزءاً من تنظيم "القاعدة" في سوريا، بأسلوبه ورؤيته وتصرفاته، وإن بدا لاحقاً أكثر براغماتية وتفهماً لما تعنيه قيادة بلاد متعددة الطوائف والعرقيات، فإن كثراً من حوله لم يفهموا ذلك.
وزير الثقافة في حكومة الشرع مثلاً ارتأى أن دمشق لهم إلى يوم القيامة، قبل أن يلحق ذلك التصريح بالحديث عن أن الشريفات من الطائفة العلوية هن من يعملن خادمات في منازل الآخرين، ومن ثم ليخبر وزير الخارجية أسعد الشيباني العالم في مؤتمر بروكسل للمانحين، أن سوريا أخيراً تخلصت من حكم الأقليات، وكذا، بات الحديث الطائفي في سوريا عنواناً لمشهد لم تبدله أشهر التحرير الطوال.
رعاية الأكثرية
ذاك لا يعني أن حكم الأسدين لم يكن طائفياً في مكان منه، ولكنه استتر ما استطاع خلف عباءة القوانين وستارة الدولة، وكان أقل ما فيه أن إدارة كاملة ضمن شعبة الأمن السياسي المنحلة معنية بمتابعة النعوت الطائفية وازدراء الأديان، وأكثره كان أن من الوهم الاعتقاد أن البعث استخدم الأقليات أكثر من وقود بشري لحروبه، فيما حصر المناصب العليا في من يثبت ولاءه التام.
ولولا ذاك لما ورث بشار الحكم عبر وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس، ونائب الرئيس السابق عبدالحليم خدام، ووزير الخارجية السابق فاروق الشرع، تساعدهم سلسلة ممتدة في الجيش والأمن والحكومة ومجلس الشعب، ضمن تنسيق رعته الأكثرية السياسية لا الأقليات التي كانت لتتخبط في موقف مهيب كذاك، بعدما جاء بها حافظ الأسد من الفقر إلى العسكرة.
تطييف الصراع
على رغم ذلك لم يتوان الأسدان (حافظ وبشار الأسد) عن زج اسم طائفتهما في كل مفترق، حتى اقتنعت هي نفسها بأنها تحكم البلاد بمن فيها، على رغم أن انتصار الثورة أماط اللثام جلياً عن حال فقرهم الذي ظل منهجاً معتمداً ليكون الجيش خيارهم ووسيلتهم للعيش، وفي وقت انتظم كثير منهم في أعمال عدوانية ضد سوريين آخرين، لكن آخرين كثراً أيضاً في تلك الأقلية ظلوا يصارعون في أعمالهم ويومياتهم لئلا يموتوا جوعاً.
وقد تكون الإشارة مفيدة حين الحديث عمن هرب من سوريا بعد سقوط النظام، عن النسبة والتناسب، وهنا يتضح من كان فعلاً في موقع المسؤولية العليا، السياسية والميدانية، وكذلك حين الحديث عن أن الحكومات برؤسائها وأعضائها مع القيادة القطرية ورئاسة مجلس الشعب وبقية المناصب، إذ بالكاد شهدت تسللاً بسيطاً لمكونات ثانوية، وعن تلك المليونيات التي كانت تخرج لدعم بشار في حلب ودمشق، مما يعني أن الصراع لم يكن طائفياً بكله، بل جرى تطييفه على غفلة في خطوة تهدف إلى شد عصب الانتماء حفاظاً على مكتسبات جرى تحقيقها بعد سنين عجاف، وهو الذي يدرك - المهتم جيداً - أنه ليس في مصلحة السلطة، وبأن الشرع نفسه لا يريده، فالرجل الذي أعلن نهاية الثورة، قائلاً "نصر بلا ثأر"، كان يعي ما يقوله، ولعله كان يخشى ما قد تذهب إليه الأمور تحت وابل الضخ الإعلامي والتجهيل والاستعداء وسنين الحصار والمظلوميات والأفكار المعششة في الرؤوس.
ما طائفتك؟
اليوم أكثر ما في سوريا هو سؤال الآخر عن طائفته، وهذا السؤال قد يجر خلفه انتهاكات ربما تصل للقتل أحياناً، وهي بعينها وعلى كثرتها لكنها غير محمولة على توجه رسمي سيادي، لكنه أمر متداول ضمن الحيز الأوسع في التعاملات اليومية، وإن لم يكن السؤال بتلك الفجاجة، فيكفي سؤال الشخص من أين هو لمعرفة طائفته، وهذا أمر كانت سوريا أصلاً معروفة به لعقود طوال، لكنه غالباً كان يسأل من باب الفضول يوم كان يمنع على السوريين الاعتداء على بعضهم لأسباب دينية، خلاف ما بدأ بعد الثورة عام 2011 في الأقل، إذ صار المتحدر من غوطة دمشق مثلاً متهماً على حواجز النظام ولو لم يكن كذلك، والعكس صحيح بالنسبة إلى حواجز الثوار.
ومع ذلك لم تكن سنين الثورة تحمل تلك المباشرة والعلانية في التحقيق الطائفي، الأمر انفجر مرة واحدة بعد السقوط حين عادت طوائف البلاد المتباعدة لتختلط في الشوارع، فتلك فتاة هزت مواقع التواصل الاجتماعي قبل أسابيع حين طلب شرطي مرور منها أن تبعد سيارتها عن الطريق العام، ذنب الشرطي أنه كان يتحدث بـ(القاف)، لتخرج ببث مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي قائلة "متى سنتخلص من حرف القاف؟"، إضافة لسيل من الشتائم على العلويين، متغافلة أن (القاف) حرف أصيل في اللغة العربية، وإن كان يجري ربطه بأهل الساحل، ولكنه منطوق كذلك في إدلب وحماة والسويداء وبعض الشرق السوري، تفاعل السوريون كثيراً مع تلك القصة، فأوقفتها الشرطة، وقيل إنه جرى إطلاق سراحها فوراً.
بازار الطوائف
اليوم أسهل ما يكون للسوري إذا لم يرد النزول إلى الشارع أن يراقب مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، ليرى حينها العجب في بلاد لم يعهدها هكذا، فالسوريون يشتمون بعضهم بفجاجة لم تحصل يوماً، غير مبالين بعيش ولا ماضٍ ولا بناء مجتمع، كلمات سني وعلوي وشيعي ودرزي وإسماعيلي ومسيحي ومرشدي وكردي وتركماني وغيرهم تجتاح الفضاء من حولهم، وخلف كل توصيف ديني يجري إتباعه بشتيمة، فالعلويون نصيريون، والسنة سلفيون، والدروز إسرائيليون، والأكراد عملاء، ولا تنتهي التوصيفات والتصنيفات والاتهامات، والأخطر في كل ذلك أن من لا يريد أن ينفصل بمكونه عن سوريا، فهو يريدها خالصة له.
خطأ في بناء المفاهيم
يقول أستاذ علم التاريخ السابق في جامعة دمشق أحمد الجندي في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "السوريين كانوا يتغامزون تاريخياً نحو طوائف الآخرين، لكنهم كانوا مندمجين تماماً في المجتمع، سواء بالإرادة أو قوة القانون، لكن الأمور لم تكن وردية يوماً، وكثيراً ما كانت ناراً تحت رماد، وذلك لأن نظام البعث كثيراً ما ركز على فكرة التعايش لا العيش، والفرق كبير بينهما"، ويضيف "خلال أعوام تدريسي في الجامعة لم أك أعرف مذاهب طلابي، ولم يكن يعنيني وغيري من المدرسين هذا الأمر، حتى خلال الثورة، ولكن اليوم بتنا نشهد اعتداءات طائفية على الطلاب تبعاً لانتمائهم المذهبي، بل وترحيلاً لمكونات معينة من المدن الجامعية تحت التهديد، وحتى مجموعات على تطبيقات المراسلة الإلكترونية تحدد من هم أبناء الطائفة الفلانية الذين يجب الاعتداء عليهم وطردهم! هذا لم يعد خلافاً طائفياً بمفهوم ضيق، بل أصبح تشدداً يهدد كل مفاصل البلاد، والمخيف أن الضعيف يظل ضعيفاً حتى تتبدل الأحوال، مما يعني قابلية أي طرف للاستشراس".
تياران داخل الطائفة الكبرى
ينطلق السنة في رؤيتهم للواقع السوري بأن من حقهم حكم سوريا لكونهم المكون الأكبر في البلاد، ولكن هذا المكون بحد ذاته يصطدم داخلياً بين تيارين، التيار المتشدد الذي اتسم بالعسكرة ووصل إلى الحكم، والتيار الوسطي التاريخي في سوريا من أشاعرة وصوفيين وغيرهم، وهذا التيار على ضخامة عدده لكنه الأضعف بمراحل نظراً إلى سلميته المفرطة، ومع ذلك لا يستبعد محللون اصطدام هذين التيارين في أي مرحلة مقبلة.
وحول ذلك يقول الشيخ مصعب نزهة "التشدد المحمول على خلفية متطرفة لم يكن موجوداً بمفهومه العام إلا مع تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا بعد عام 2011 وانتظامهم في تنظيمات متطرفة مثل ’داعش‘ و’النصرة‘، ومن ثم تأثيرهم الواسع في مقاتلين سوريين آخرين، وهكذا بدأت تتسع الرقعة، ولكن ذلك لا يعني أن كل السنة متطرفون كما يجري التداول. ظلت سوريا مركز إشعاع علمي وثقافي للنهج الديني الوسطي المتسامح في أرجاء العالم، وقد برز من بلادنا شيوخ وعلماء كانوا منارات للفكر، وهم أولاد وأحفاد السنة الذين قلدوا فارس بيك الخوري المسيحي وزارة الأوقاف الإسلامية بعد الاستقلال حين لم يكن يعرف السوريون كيف يفرقون بين أحد وآخر"، ويوضح أن "التيار المتشدد ليس أكثرية اليوم بين السنة، لكنه مسيطر على أهم المفاصل، لذا جرى إقصاء وإعفاء واستبعاد عشرات الأئمة وخطباء المساجد المعتدلين عن منابرهم، ولذا صار الشيخ الذي لا يفقه بالقانون يدير القضاء، ولأن الناس تؤخذ بالقوي، وتنتشي بسطوته، ولأن بهجة التحرير مستمرة، لذا ما زلنا نرزح تحت وطأة طائفية عمياء لم تكتف بإقصاء مكونات أخرى، بل باتت تكفر أبناء الملة الواحدة، اسمعوا اليوم خطاب كثير من أئمة المساجد لتعرفوا أين أصبحت سوريا".
محاكاة للأرقام
لا شك أن الطائفة السنية هي المكون الأكبر بصورة عامة في التوزع السوري، وقد يبدو الأمر دقيقاً في مكان إذا ما جرى مغافلة التغيرات التي حصلت في الحرب، "اندبندنت عربية" تستعرض النسب الديموغرافية الأكثر قرباً من الواقع الحقيقي، مع تفنيد الأمور الجانبية المتعلقة بالتوزيع.
تاريخياً منع نظام البعث مركز الإحصاء المركزي لشؤون السكان من تنفيذ إحصاءات تتعلق بتعداد السكان دينياً وقومياً لأسباب متباينة، فيما اكتفى بإصدار أرقام سكانية عامة، ففي إحصاء عام 2010 بلغ تعداد سكان سوريا نحو 20 مليون نسمة، أما في إحصاء عام 2023 فقد أفاد مكتب الإحصاء أن عدد سكان سوريا قد بلغ 29 مليون نسمة.
بطبيعة الحال يبدو الرقم غير منطقي، لأسباب من بينها أن المركز فعلياً لم يقم بأي عملية إحصاء حقيقي حينها، ولأن الإحصاء أصلاً كان مستحيلاً لتوزع السكان بين مناطق سيطرة النظام وخارجها، وكذلك لوجود ملايين المهجرين، والأهم أن المركز نفسه لم يكن يعمل حينها، مما يعني أن استخدام هذا الرقم الكبير كان يهدف إلى الصب في خانة الاستثمار السياسي عبر الانتخابات والاستثمار الإنساني من خلال الدول الداعمة والمنظمات المهتمة بشؤون الإنسان، وطبعاً مع الأخذ في الاعتبار أن آلة القتل كانت تدور لتحصد مزيداً من الأرواح على الدوام.
مؤنس حسن أحد الموظفين المتقاعدين من هيئة الإحصاء نصح بأخذ رقم وسطي بين آخر ما أعلن عنه وآخر رقم كان مثبتاً فعلياً، أي ما بين 20 مليوناً و29 مليوناً، ليكون الرقم الذي تجري الدراسة عليه يقارب 24 مليون وسطياً.
ويقول مؤنس "لن يتمكن أحد من منح رقم دقيق للسكان السوريين عامة، ولكن الشعوب دائماً بحالة ازدياد سكاني، وهذا لا يعني أن السوريين أصبحوا 29 مليوناً حين الأخذ في الاعتبار هجرة أكثر من 7 ملايين خارج الحدود، ومقتل أرقام أخرى داخله".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يشير تقرير لمنظمة Aid to the church in need الغربية أن تعداد المسيحيين انخفض إلى نحو 300 ألف بحلول عام 2023، أي نحو اثنين في المئة، مما يعني أنها اعتمدت في إحصائها على أن تعداد السكان أصلاً أقل من 20 مليوناً في ذاك العام، فيما تقول تقارير أميركية، وكذلك إحصاءات عدة منظمات حقوقية منها المجموعة الدولية لحقوق الأقليات، إن ما بين 74-75 في المئة من السكان هم من المسلمين السنة، وهم عرقياً أكراد وشركس وشيشان وتركمان، فيما تبلغ نسبة العرب السنة بينهم نحو 50 في المئة، أما العلويون فيشكلون نحو 12 في المئة من السكان، والإسماعيليون والشيعة نحو اثنين في المئة، والدروز ثلاثة في المئة، مع وجود أقليات أخرى من المرشديين والأيزيديين وغيرهما.
على رغم أن معظم الأكراد من السنة ولكن في الحسابات السياسية لا يمكن احتسابهم بناءً على الواقع الطائفي، إنما وفقاً للمكون العرقي، وهو ما يبرر انسلاخهم عن السياق العام في النسب الدينية، ليصير السنة العرب مع بقية المكونات العرقية غير الكردية بين 60 و70 في المئة من مجمل السوريين، وليحتفظ الكرد والأقليات بالنسبة الباقية، وهنا يبرز السؤال الذي لا يمكن إيجاد جواب له، ماذا عن 7 ملايين مهجر في أوروبا وغالبيتهم العظمى من السنة، هل هؤلاء يدخلون في نسبة الأكثرية السنية الفاعلة داخل سوريا؟
في هذا الصدد يقول الحقوقي لؤي جميل "الجواب عن ذلك يعني تغيراً واسعاً في منهج الحسابات، فإن جرى احتسابهم وهم في الخارج فهذا يعني أن حسابات الداخل ستختلف جذرياً، وإن لم يجر احتسابهم فأيضاً ذلك يعني تغيراً جذرياً في النسب، بخاصة أن العدد الذي قرر العودة منهم بعد انتهاء الحرب لا يشكل تأثيراً يذكر، مما يعني ضرورة مراجعة فعلية لتعداد المكونات من جديد في أي سياق انتخابي أو استحقاق دستوري مقبل أو حديث عن أكثريات وأقليات ما لم يهتد السوريون للنظر في جنسية المواطنة لا مذهبيتها تمهيداً لبناء بلدهم بدلاً من تفتيتها أكثر".