Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن دينو بوتزاتي وفدريكو فلليني وفيلمهما المجهض

هل أضحى مشروع "رحلة ج. ماستورنا" في نهاية أمره أساساً لفيلم "مدينة النساء"؟

من فيلم "مدينة النساء" لفلليني (موقع الفيلم)

ملخص

بين المخرج الإيطالي المعروف فدريكو فيلليني والكاتب دينو بوتزاتي مشروع مشترك، لم لم ينبن على رغبة أبداها المخرج عام 1965 لأفلمة رواية، أو حتى قصة قصيرة، من كتابة بوتزاتي الذي كان السينمائيون يتدافعون للحصول على نصوصه لاقتباسها، بل على العكس، من رغبة عبر عنها الكاتب نفسه في أن يتعاون مع فلليني شخصياً لخلق عمل سينمائي يسهم هو في كتابته... لكن المشروع لم يتحقق أبدا

في التاريخ الأكثر سمواً ونخبوية للسينما الإيطالية، هناك بين المشاريع العديدة التي نبعت أسطوريتها من كونها لم تتحقق أبداً، وتضافرت مع كون المبدعين الذين حاولوا تحقيقها هم من أصحاب الأسماء الأكبر في تاريخ الفن السابع الإيطالي، هناك أعمال دخلت عالم الأسطورة من دون أن تتجسد شرائط تعرض بالفعل على الشاشات.

وفي هذا المجال ثمة بالطبع قائمة تضم أكبر الأسماء في تاريخ هذا الفن الإيطالي الكبير، وقائمة موازية تشكل جزءاً مكملاً لها بالطبع تضم عناوين تلك المشاريع التي غدت بدورها مع مرور الزمن أسطورية، بل إن منها ما صار مواضيع لكتب وندوات ودراسات جامعية وغير جامعية تسهم في أسطرتها.

وربما يمكننا أن نقول هنا إن بين تلك الأساطير مشروعاً يتصدر القائمة مصحوباً باسمي صاحبيه الكبيرين: السينمائي فدريكو فلليني (1920 – 1993) من ناحية، والكاتب دينو بوتزاتي (1906 – 1972) المشهور سينمائياً بالفيلم الكبير الذي سيقتبسه مواطنه فاليريو زورليني عن روايته الكبرى "صحراء التتار".

إلحاح كاتب كبير

والحال أن ذلك المشروع المشترك بين المبدعين الإيطاليين الكبيرين، لم ينبن على رغبة أبداها فلليني في عام 1965 لأفلمة رواية، أو حتى قصة قصيرة، من كتابة بوتزاتي الذي كان السينمائيون يتدافعون للحصول على نصوصه لاقتباسها، بل على العكس، من رغبة عبر عنها الكاتب نفسه في أن يتعاون مع فلليني شخصياً لخلق عمل سينمائي يسهم هو في كتابته مع المخرج الصاعد.

ومن هنا ولد المشروع الذي لن يتحقق أبداً، لكنه في مجمله وبكل تفاصيله سيكون الشغل الشاغل لمؤرخي السينما وليس في إيطاليا، بلد المبدعين فحسب، بل في العالم الأنغلو سكسوني. ولقد كان ذلك الاهتمام الأخير في خلفية كتاب صار من معالم تاريخ السينما، صدر بالإيطالية أولاً قبل أن يصدر بالإنجليزية بعنوان "رحلة ج. ماستورنا: الفيلم الذي لم يصنعه فيليني"، عن دار نشر بيرغهان بوكس ​​التي أحاطت صدوره بهالات إعلانية كبيرة وذلك لأنه يحمل اسمي فلليني وبوزاتي، وذلك لكونه يضم سيناريو وحكاية المشروع من أولها إلى آخرها، ولا شك أن القارئ قد أدرك هنا أن المشروع الذي نتحدث عنه إنما هو نفسه ذلك العمل السينمائي الكبير الذي بات مع مرور السنين من الحضور في تاريخ الفن السابع وفي تداولات أهل المهنة إلى درجة يخيل معها إلى كثر أنه قد تحول ذات يوم فيلماً، لكنه مختف. وقد يمكن أن نقول على أية حال إن هذا التصور ليس وهمياً، وهو ما سنعود إليه بعد سطور، إنما بعدما نقدم للكتاب الذي يعتبر واجب الحضور في كل مكتبة سينمائية لدى الهواة والمحترفين الحقيقيين.

الكتاب والحكاية

يحتوي الكتاب على السيناريو المقترح، ولكن المعلق بعد ذلك لهذا المشروع السينمائي الشغوف، والذي سيبقى معلقاً زمناً طويلاً في ارتباطه بهموم المخرج الإيطالي الكبير وتدور أحداثه حول موسيقي يقتل في حادثة تحطم طائرة، وإذ "يفيق" من موته لا يكون أمامه إلا أن يستكشف الحياة في الآخرة.

وهذا على أية حال ما يذكره في مقدمة وضعها للكتاب، مترجمه إلى الإنجليزية ماركوس بيريمان وأعيد طبعها بإذن من الناشر، وذلك استناداً إلى الوثائق التي تم جمعها وتعود إلى بداية تاريخ هذا المشروع الذي لم يكتمل. وتفيدنا الوثائق على أية حال أن بداية الحكاية كلها تعود إلى حين حدث لفلليني أن وقع في عام 1965عقداً مع المنتج دينو دي لورينتيس لإنتاج فيلم خيال علمي مقتبس من رواية فريدريك براون "يا له من عالم مجنون". ولكن، على رغم أن هذه الفكرة وحتى من قبل توقيع العقد قد أثارت اهتمام فيليني بعدما كان قد تحدث عما هو مشابه لذلك من خلال المقطع المتعلق بسيناريو سفينة الفضاء المتخيلة والهرب المضلل في فيلم "ثمانية ونصف"، إلا أنه سرعان ما غير رأيه، حيث، بدلاً من "يا له من عالم مجنون"، وجد نفسه يسعى إلى كتابة نص أصلي خاص به بعنوان "رحلة جي. ماستورنا"، كان في الحقيقة وليد فكرة أوحى بها إليه الكاتب دينو بوزاتي، الذي كان منذ حين قد راح يتحدث عن رغبة عارمة لديه في أن يتعاون مع فلليني. صحيح أنه كان يسعى أول الأمر لكي يقنع السينمائي باعتماد واحدة من رواياته أو قصصه القصيرة كأساس ممكن لمشروع التعاون بينهما، قبل أن يدرك أن فلليني يفضل التعامل مع أفكار تخلق أصلاً للسينما. وهكذا أوجد الفكرة التي رأى فلليني أنها يمكن أن تحقق له رغبته في التعاون مع السينمائي تعاوناً بدا له ذات لحظة أنه قد حصل عليه، حين اشتغل مع الأخير على السيناريو الذي سرعان ما سيصل إلى المنتج.

غلطة العمر!

إذاً، ها هو فلليني يرسل بعد أشهر من العمل مع بوتزاتي، إلى دي لورينتيس رسالة طويلة تعد بمثابة تمهيد أولي للسيناريو. أتبعها بأكثر من 7 آلاف كلمة يروي فيها أحداث الفيلم، ويصف شخصياته الرئيسة، ويشير إلى مزاجه وروحه، جامعاً بعض الحلقات تحت عناوين مشتركة. فعلى سبيل المثال، تحت عنوان "مشهد المشاعر والإحساس والفكر"، كتب: "منطقة الفكر بقادتها الثقافيين، عالم المدرسة الثانوية الكلاسيكي الخيالي، والعالم الوثني، والآلهة اليونانية، وأبطال هوميروس. مرشده في هذا العالم هو معلمه القديم، المادي، تابع كاردوتشي، وعديم الإيمان بكل ما هو خارج العالم المادي".

واللافت أن فلليني قد اختتم كل ذلك مكرراً مرات عديدة حيرته في شأن النهاية التي ستكون للفيلم، معلناً ضرورة تأجيل أي قرار في شأن النهاية إلى ما بعد البدء في التصوير. ومهما يكن من أمر هنا، لن يكون من الصعب على أية حال، تخمين ما الذي كان عليه رأي دي لورينتيس، وفي الأقل بالنسبة إلى ما يثيره المخرج - الكاتب من هذا الغموض. فقبل 15 عاماً من ذلك، كان دي لورينتيس كما هو معروف، قد أعاد نصاً لفيلم "يوليسيس" إلى أورسون ويلز، "لافتقاره إلى الجاذبية التجارية، والوضوح". غير أن دي لورينتيس الذي عاد وانسحب من فيلم "ثمانية ونصف" لفلليني نفسه، تاركاً لأنجيلو ريزولي، منافسه الرئيس في عالم الإنتاج الثقافي حينها، إنتاج أحد أعظم نجاحات فيليني، في تصرف سيعتبره الجميع غلطة اعتبرها هو خطيئة عمره وظلت تؤلمه سنوات طويلة. ولاحقاً على رغم الفشل التجاري الذي كان من نصيب فيلم "جولييتا الأرواح" الذي عاد هو وانتجه لفلليني، ظل هذا الأخير بالنسبة إلى دي لورنتيس مخرجاً يمكن التعامل معه حتى وإن لم يكن سينمائياً يراهن عليه.

المهم، بالنسبة إلى المشروع الذي نتحدث عنه هنا، وبعد أشهر عدة، وبمساعدة برونيلو روندي، وطبعاً بفضل مساهمة دينو بوزاتي، نما النص إلى أكثر من 33 ألف كلمة. وحذفت بعض المشاهد، وأضيفت مشاهد أخرى، ووضعت النهاية، مقدمة بأحد التعليمات السينمائية القليلة في النص، وهو التعليق الصوتي. يومها أثير كثير من اللغط، حول نصوص فلليني، أو غيابها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كرامة الفن

على أية حال، سيصرح توليو بينيلي، كاتب السيناريو المشارك وصديقه المقرب، بأنه، خلافاً للاعتقاد السائد، تمسك فلليني بنصوصه بشدة. ومن الواضح أن فلليني كان يرى أن التعديلات ستكون مجرد وصف إجمالي للمشاهد التي ستصور، وقصص مصورة لفظية، تضفي فقط على إيقاع الفيلم وبنيته، عناصر تقنية، حتى من دون أن تكون في حاجة إلى الإشارة إلى أي شيء يتعلق بآليات التصوير (حركة الكاميرا، الإضاءة، العمق، وما إلى ذلك) أو إعطاء الممثلين حوارهم، لكن المخرج الشاب لم يكن في اعتقاده على صواب، حيث إنه مع تطور تفاصيل مرحلة ما قبل الإنتاج اكتشف أنه بدأ بفقد السيطرة على المشروع تدريجاً، وأن نوعاً من التوافق الخارج عن سيطرته، بدأ يلوح يحاول أن يحصر مساهمته هو في تلك الأمور التقنية عبر الاستغناء عن إضافاته التي كان يراها جوهرية. وهكذا قرر في نهاية الأمر الانسحاب من المشروع، ولكنه لم يرمه في البحر، بل إنه احتفظ منه بإضافاته وابتكاراته السيناريستية التي سيجعل منها لاحقاً عماد فيلم مقبل له هو بالتحديد "مدينة النساء"، من دون أن يدرك عند ذلك أن هذا الفيلم بالذات سيكون أكثر أفلامه فشلاً، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع. أما بالنسبة إليه فإن الموضوع بأسره بات متعلقاً بكرامة الفنان ودفاعه عن إبداعه بالتأكيد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة