ملخص
مطلع الأسبوع الماضي أثارت قصة تبديل جثة طفل برجل الأهالي، ودعت أمير المنطقة إلى اتخاذ إجراءات مشددة لمنع تكرار الحادثة.
تتكرر بين الحين والآخر في السعودية حوادث مؤلمة تتعلق بتبديل جثامين، مخلفة وراءها صدمة وحزناً عميقين لدى الأسر التي تفقد ذويها مرتين، مرة بالموت والفراق الذي لا لقاء بعده، وأخرى بخطأ إداري يبدل جسد أحبتهم ويسلبهم حق الوداع الأخير.
وثمة وقائع عديدة خلال العقدين الماضيين تنوعت بين تبديل جثث أطفال حديثي الولادة، وأشخاص من جنسيات مختلفة، وأحياناً بين مدن وقرى متباعدة، لتثار على إثرها تساؤلات واسعة حول إجراءات التسليم والتوثيق داخل المرافق الصحية ومغاسل الموتى.
وأحدث تلك القضايا وقعت في مدينة الرس بمنطقة القصيم وسط البلاد الأسبوع الماضي، حين تبدلت جثة طفلة تدعى سيلا خالد الحنيني (13 سنة) بجثمان شاب من ذوي الإعاقة يبلغ من العمر 19 سنة، ليتم تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها وفق الشريعة الإسلامية من دون علم ذويها.
في حين أثارت الواقعة موجة من الاستغراب والغضب بين الأهالي ورواد مواقع التواصل الاجتماعي، الذين طالبوا بضرورة إعادة النظر في آليات تسليم الجثامين وتوثيق الهويات، وتشديد الرقابة على الإجراءات داخل المستشفيات والمغاسل المعتمدة.
قصة وفاة الطفلة
وتعود تفاصيل القضية، بحسب رواية والد الطفلة سيلا خالد الحنيني في لقائه مع قناة "العربية" لصباح يوم السبت حين أبلغ من المستشفى بوفاة ابنته، وتوجه على الفور لرؤية الجثمان واستكمال إجراءات الاستلام للمضي في دفنها، غير أن النظام الإلكتروني تعطل لأكثر من ساعتين، فبقي بانتظار إتمام المعاملة.
وخلال فترة الانتظار، عاين والد الطفلة جثماناً مغطاة كتب عليه اسم ابنته وسبب الوفاة، فاستكمل التوقيع على الأوراق اللازمة، قبل أن يبلغ المسؤولين بأن مراسم الغسل والصلاة والدفن ستقام في اليوم التالي، إذ كانت العائلة خارج القصيم في رحلة إلى مكة المكرمة.
وفي اليوم التالي، كما يروي الحنيني أن العائلة تواصلت مع مغسلة الأموات، فأبلغت بأن مراسم الدفن ستقام بعد صلاة الظهر بتوقيت القصيم، وعند وصولهم لتغسيل الجثمان، فوجئوا بأبواب المغسلة مغلقة. وبعد حضور الموظفين، أبلغوا بأن الأمر لا يستدعي حضوركم.
غير أن أسرة الطفلة رفضت ذلك وأصرت على استكمال الغسل، لتكتشف في تلك اللحظة أن خطأ فادحاً قد وقع، إذ جرى تغسيل الجثمان والصلاة عليه ودفنه على أنه شاب يبلغ من العمر 19 سنة.
ويضيف والد الطفلة أن العاملين في المغسلة حاولوا إقناع العائلة بإنهاء الإجراءات والتوقيع على أوراق رسمية لإغلاق الموضوع، إلا أنهم رفضوا بشدة، لتحتدم النقاشات داخل المغسلة.
عندها طلب التواصل مع والد الشاب الذي جرى دفنه، فحضر بعد نحو 40 دقيقة، ليتبين أنه كان موجوداً فقط أثناء عملية الدفن من دون أن يرى الجثمان.
وهنا كما يروي عندها تصاعدت حيرة الأب، وبدأ يتساءل بمرارة "أين ابنتي؟ إذا كان قد دفن بالأمس رجل، واليوم دفن رجل عمره 19 سنة، وإذا كان هذا رجل وهذا رجل، الذي أشرف على غسيل الجثمان يقول إنه غسل رجلاً، فأين ذهبت ابنتي؟".
خطأ مزدوج
أما تفاصيل الجانب الآخر من القصة، فتروى على لسان ضبيب عايش المخلفي، والد الشاب المتوفى، في مقابلة مع قناة "العربية"، إذ يصف تسلسل الأحداث منذ تسلمه الجثمان وحتى اكتشاف الخطأ.
يقول في روايته إن الإجراءات بدأت يوم السبت عند 11 صباحاً بعد اكتمال أوراق التسليم، موضحاً أنه سئل عن موعد الصلاة على ابنه فأجاب بأنها ستكون بعد صلاة العصر، قبل أن يسلم رقم موظف البلدية للتنسيق.
ويتابع في حديثه أنه وصل إلى محافظة الرس قادماً من قريته التي تبعد نحو 30 كيلومتراً قبل صلاة العصر بنصف ساعة، ليجد الجثمان جاهزاً للدفن على أنه لرجل. لم يتمكن من رؤية الوجه للتأكد من الهوية، لكن تفاصيل الجسد بدت له قريبة من بنية ابنه، فظن أنه هو.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب المخلفي تهيأ الجميع للصلاة، ونودي للصلاة على الرجل، فأدوا الصلاة وأتموا الدفن. وبعد انتهاء العزاء في المقبرة، عاد الأب لمنزله، إذ كان منشغلاً بأبنائه الخمسة من ذوي الإعاقة، وكان المتوفى الخامس بينهم.
غير أن المفاجأة الكبرى كما يروي جاءت في اليوم التالي، حين تلقى اتصالاً يطلب منه الحضور لتولي دفن ابنه، فظن بداية أن هناك التباساً، مؤكداً للمستشفى أنه دفنه بالفعل في اليوم السابق. لكن المتصل أبلغه بوجود خطأ في الأوراق، وأن الجثمان الذي دفن لم يكن لابنه.
وبحكم طول المسافة، لم يتمكن من الوصول في وقت الصلاة بالمسجد، وحين وصل إلى المقبرة وجدهم على مشارف الانتهاء من الدفن من دون أن ينتظروه، وهو الخطأ الثاني الذي وقعوا فيه المسؤولين بعد خطأهم في تبديل الجثمانين.
نظام مزاولة المهن الصحية
الواقعة التي جمعت عائلتين في حزن مضاعف دفعت أمير منطقة القصيم إلى توجيه لجنة تحقيق عاجلة، وبناء على ما خلصت إليه اللجنة، وجه أمير المنطقة الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بإحالة القضية إلى النيابة العامة، والكتابة إلى الجهات ذات العلاقة لدراسة ومراجعة الاتفاقات المبرمة بين الجهات المشاركة في تسليم واستلام الجثامين، بما يضمن تطوير الإجراءات التنظيمية ومنع تكرار مثل هذه الحالات مستقبلاً.
وأوضحت إمارة القصيم في بيانها عبر منصة "إكس" أن اللجنة باشرت أعمالها ورفعت نتائجها، إذ تبين عدم وجود شبهة جنائية، وأن ما جرى كان نتيجة "إهمال وقصور إداري".
كما وجه أمير المنطقة بتطبيق نظام مزاولة المهن الصحية في حق الممارسين المقصرين، واتخاذ ما يلزم نظاماً ضدهم.
ويعد نظام مزاولة المهن الصحية، المرجع الأعلى لتنظيم العمل الصحي في البلاد، وفق موقع وزارة الصحة، ويضع النظام أطراً واضحة لمحاسبة كل ممارس يخل بواجباته أو يقصر في أداء مهماته المهنية.
وتنص مواد النظام على إحالة الممارس إلى لجنة النظر في مخالفات أحكام النظام متى ثبت وقوع خطأ أو إهمال ترتب عليه ضرر، وتفصل العقوبات التي قد تفرض بحسب جسامة المخالفة، وتشمل الإنذار أو الغرامة بما لا يتجاوز 100 ألف ريال، أو بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر، وإيقاف الترخيص موقتاً عن مزاولة المهنة لمدة لا تتجاوز سنة، أو إلغاء الترخيص نهائياً وشطب الاسم من سجل الممارسين الصحيين.
الحوادث السابقة
وعلى مدى العقدين الماضيين، وثق أرشيف الصحف المحلية سلسلة من وقائع مشابهة التي أثارت جدلاً واسعاً حول سلامة الإجراءات المتبعة في تسليم الجثامين داخل المستشفيات ومغاسل الموتى.
ومن تلك الحوادث كانت في عام 2010، شهد مستشفى الجبيل العام بالمنطقة الشرقية واقعة مشابهة، حين سلمت إحدى الأسر السعودية جثمان شاب يبلغ من العمر 18 سنة عن طريق الخطأ، لتكتشف بعد يومين أن الجثة التي تسلمتها لا تعود لابنها.
وبررت الشؤون الصحية آنذاك الحادثة بأنها نتيجة "ارتباك العائلة من هول الصدمة" أثناء معاينة الجثمان بعد حادثة مرورية أودت بحياته.
وفي عام 2011، تفاجأت أسرة فيليبينية بواقعة غريبة حين تسلمت نعشاً قادماً من الرياض يحمل اسم ابنهم المتوفى، لتكتشف عند فتحه في مطار "نينوي أكوينو الدولي" أن الجثمان الذي بداخله لا يعود لابنها، بل لرجل يحمل ملامح عربية.
وبحسب الصحيفة "مانيلا بولتين" الفيليبينية، أن الأسرة أصيبت بالصدمة والخوف فور اكتشاف الخطأ، فسارعت إلى إعادة النعش للجهات المعنية لاستبداله بالجثمان الصحيح.
وفي عام ذاته، شهدت مدينة الخبر حادثة مؤلمة أخرى تنتمي إلى السياق ذاته، حين تسبب خطأ أحد موظفي ثلاجة الموتى في تسليم جثة طفل حديث الولادة إلى أسرة غير أسرته.
تسلمت العائلة الجثمان وأتمت إجراءات الدفن بعد الصلاة عليه في مقبرة الثقبة، معتقدة أنه طفلها، بينما كان والد الطفل الحقيقي، لا يزال في المستشفى يبحث عن جثمان ابنه الذي لم يسلم بعد.
ولم تمض دقائق على انتهاء مراسم الدفن حتى تلقت الأسرة اتصالاً عاجلاً من المستشفى يطلب منهم إعادة الجثمان فوراً بعد اكتشاف الخطأ، وفي تلك الأثناء عاش والد الطفل صدمة حين اكتشف بأن جثمان طفله دفن من أسرة أخرى عن طريق الخطأ.
وفي عام 2015، وفي محافظة الدوادمي غرب العاصمة الرياض، سجلت واحدة من أكثر الحوادث غرابة، حين اضطرت أسرتان إلى الالتقاء على أحد الطرق السريعة لتسليم كل منهما جثة فقيدها، بعد أن قام المستشفى بتبديل الجثامين بالخطأ.
وتبين لاحقاً أن أسرة كانت تحمل جثمان رجل ستيني توفي في حادثة مرورية، بينما تسلمت الأخرى جثمان شاب يبلغ من العمر 27 سنة توفي في حادثة مماثلة.
وفي عام 2024، فتح تجمع الشرقية الصحي تحقيقاً عاجلاً في واقعة تبديل جثتين داخل مستشفى القطيف المركزي، إثر تسليم جثمان بالخطأ إلى أسرة لا تربطها صلة بالمتوفى.
وتعود تفاصيل الواقعة لنقل جثة متوفى من محافظة الأحساء إلى مستشفى القطيف المركزي، وبعد إجراء عملية التشريح، جرى تسليم الجثمان إلى ذوي المتوفى الذين نقلوه إلى الأحساء تمهيداً لدفنه.
لكن المفاجأة كانت في مغسلة الموتى، إذ اكتشفت العائلة أن الجثة لا تعود لابنها الأربعيني، وأنها تخص شخصاً آخر تماماً، عندها ألغيت مراسم الدفن وأعيد الجثمان لمستشفى القطيف المركزي، لتبدأ الجهات المعنية تحقيقاً موسعاً لمعرفة مصدر الخطأ واتخاذ الإجراءات اللازمة.
وعلى رغم الإجراءات التصحيحية التي أعلنت عقب كل حادثة، فإن تكرار مثل هذه الأخطاء يشير إلى حاجة ملحة إلى تطوير أنظمة التوثيق الرقمي والتدقيق المزدوج عند تسليم الجثامين، بما يضمن حفظ كرامة الموتى وصون مشاعر ذويهم من الألم المتكرر.