ملخص
في سنواته الأخيرة انتقل الكاتب السويسري ماكس فريش كان ليعيش في برلين، فهو يكتب بالألمانية لغته الأم عادة، وآثر الصمت منصرفاً إلى "ضروب لهو أخرى" بحسب التعبير الذي أمكن لاحقاً قراءته، في كتاب أخير له صدر بعد رحيله بعنوان "مقتطفات من يوميات برلينية"
لدى أي حديث عن الكاتب السويسري ماكس فريش (1931 - 1991)، لا بد دائماً من البدء من التأكيد أن جزءاً أساسياً من أهميته إنما يكمن في كونه واحداً من أولئك المبدعين الذي يكذب وجودهم وإبداعهم تلك المقولة المأثورة عن غراهام غرين، الذي يتساءل في أحد مشاهد فيلم "الرجل الثالث" الذي كتبه للسينما وأخرجه الإنجليزي كارول ريد عما جعل سويسرا خلال 300 سنة من الديمقراطية لا "تبدع" سوى ساعة الكوكو التي تعلق على جدران البيوت.
ماكس فريش كان، إلى جانب فردريك دورنمات، واحد من كبار الكتاب الأوروبيين، على رغم كونه سويسرياً، إذاً! لكنه لم يكتب كثيراً، بل مرت خلال النصف الثاني من حياته سنوات عجاف راح يخيل لبعضهم عندها أنه إما رحل عن عالمنا وإما أن عقيرته قد نضحت. ومنها تلك الحقبة بين 1973 و1980 التي غاب فيها تماماً من دون أن يتنبه كثر إلى أنه في تلك المرحلة المتأخرة من حياته، كان قد انتقل ليعيش في برلين، فهو يكتب بالألمانية لغته الأم عادة، وآثر الصمت منصرفاً إلى "ضروب لهو أخرى" بحسب التعبير الذي أمكن لاحقاً قراءته، في كتاب أخير له صدر بعد رحيله بعنوان "مقتطفات من يوميات برلينية"، حاملاً تاريخاً يتعلق بصفحات الكتاب المنشورة تتعلق بتلك الأعوام التي ذكرناها بالذات، مما يعني أنه خلال فترة صمته تلك كان يكتب، وليس ما في الكتاب سوى مقتطفات مما كان يكتبه.
أما سبب تأخر صدور الكتاب لعقدين في الأقل بعد رحيله، فيتعلق بكون ما فيه نصوص، خصوصاً بدا واضحاً أن فريش كتبها لنفسه ولقلة من المحيطين، أو المحيطات، به خلال إقامته البرلينية، ومن هاته الأخيرات الصبية ماريان كيلر التي كانت تصغره بنحو 30 سنة وكانت على الأرجح مبرر إقامته في برلين، هو الذي كان يائساً من أمور كثيرة ويتوق إلى الاختلاء بنفسه وصاحبته.
مخطوطة في مصرف
ومع ذلك، وكما يمكننا أن نفهم من صفحات الكتاب، لم يخلد فريش في حياته البرلينية إلى عزلة مطلقة، بل كان يحيط نفسه في أمسيات كثيرة برفاق كتاب له من بينهم بالطبع غونتر غراس، الذي كان يقيم في حي مجاور له.
والطريف في الأمر أن المرحلة البرلينية ستنتهي مع افتراقه عن ماريان الألمانية لتبدأ في حياة الكاتب مرحلة نيويوركية بدأت مع تعرفه على صبية، أميركية هذه المرة، هي أليس كاري. وربما ليبدأ يوميات نيويوركية لم يعثر عليها بعد على الأرجح.
ومن هنا نكتفي في هذا السياق بالحديث عن اليوميات البرلينية التي نحن في صددها. وتفيدنا مقدمة محرري الكتاب أن فريش اشتغل، يومياً تقريباً خلال تلك السنوات السبع، على ملء خمس كراسات سميكة، حدد هو فيها على أية حال أنها يجب ألا تنشر أو يطلع عليها أحد قبل مرور 20 سنة على رحيله وهو ما كان بالفعل، بحسب ما ذكرت الصحافة الألمانية والأوروبية عموماً، التي احتفلت في عام 2014 بصدور الكتاب، ذاكرة أنه بالفعل، وفي عام 2011، جرى "سحب المخطوطة من صندوق خاص كانت أودعت فيه في أحد المصارف في زيوريخ، وجرى نشر عدد كبير من صفحاتها وفقراتها، تشكل متن الكتاب الأساسي" لدى ناشر فريش المعتاد "شوهركامب".
عائد من مملكة الموتى
ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون واحداً من أول التعليقات على صدر الكتاب من قلم الكاتب فولكر فيدرمان المعروف بإصداره واحدة من أفضل السير التي كتبت لفريش، وهو علق عن الكتاب البرليني بقوله على صفحات "الخيماني تسايتونغ": "يا للروعة يبدو الأمر وكأن ماكس فريش قد عاد لنا من مملكة الأموات!"، بحسب ما نقلت مجلة "بوك" الفرنسية في ذلك الحين.
ولقد ذكر فيدرمان في مقالته أن ماكس فريش كان نشر خلال حياته كتابين يضمان يوميات له تتعلق بمرحلتين سابقتين من حياته: الأولى مرحلة 1946 - 1949، والثانية مرحلة 1966 - 1969. وهما كتابان نظر إليهما كثر من المعلقين باعتبار كل منهما، وعلى طريقته، قمة في مجال تلك الكتابة الذاتية، إلى درجة أن ناقداً كبيراً في اللغة الألمانية لم يتردد، ودائماً بحسب مجلة "بوكس"، عن التأكيد بأنه يعتبر "الكتابين مختبراً حقيقياً في مجال الكتابة النثرية، الذاتية غالباً، وعلى لسان الغائب في أحيان أقل. كتابة تتوزع على فقرات ومقاطع تبدو للوهلة الأولى متفرقة، لكنها سرعان ما تتكشف على مجرى القراءة المتأنية، والمسحورة على أية حال، ذات علاقات متبدلة في ما بينها مشغولة تبعاً لعمران بادي الدقة ومشغولاً بعناية لا تضاهى".
والحال أن هذا التميز الذي رصده النقاد في الكتابين السابقين، لا مكان له في هذه اليوميات البرلينية التي يبدو معها وكأن ماكس فريش الجديد لم يعد هو ذاته ماكس فريش القديم، إذ في "اليوميات البرلينية" يبدو الكاتب وصاحب أعمال خالدة، مثل "سور الصين العظيم" و"دون جوان عاشق الهندسة" و"هومو فافير" و"الرحلة" و"أندورا"، يبدو في كتابات تتوزع بين القصص والمسرحيات، وهي جديرة بأن تجعل الأخيرة منها من فريش خليفة لبريخت حتى وإن كان هذا "المنصب" لم يرقه أبداً، يبدو في الكتاب الجديد المتأخر رجلاً عجوزاً يلتهم آخر أيام حياته، تستبد به السمنة والخرق والإدمان على الشراب، ناهيك بشكوك جدية راحت تساوره من حول إيمانه السابق بقدرة الكتابة على تغيير العالم إلى ما هو أفضل، وإمكان إعادة خلق العالم باللغة كما كان يرى في شبابه وعبر عنه مراراً وتكراراً غالباً على لسان شخصياته المسرحية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رغبة في الانتحار
أما هنا في هذه اليوميات التي تبدو بدورها عائدة من عالم الموتى فـ"ها هو فريش، بحسب الكاتب فايدرمان، يبدو مسكوناً منذ السطور الأولى من الكتاب بهاجس الموت، والقرف من الوجود، والرغبة في الانتحار"، ولكن لعل من الأفضل هنا التريث بعض الشيء قبل الحكم النهائي على هذا الكتاب، بحسب ما رأى معلقون آخرون من الذين لفتوا النظر إلى أن ناشر الكتاب، لم يضم فيه سوى عدد محدود من تلك النصوص الأخيرة لفريش، وقد اعتبر من تلقائه أن الباقي قد لا يكون جديراً، الآن في الأقل، بالنشر، إما لأنه حكم عليه بأنه مغرق في الذاتية إلى درجة يمكن معها تأجيل نشره، وإما لأنه غير مكتمل بحيث إنه لا بد من إعادة النظر فيه، وربما انتظار العثور على نصوص إضافية لفريش نفسه قد تعوض على تلك "النواقص"، فإن تبدت استحالة ذلك، يكون من الأفضل إما تغييب تلك النصوص نهائياً، وإما اللجوء إلى مختصين في أدب فريش لإعادة كتابة النصوص "تعميماً للفائدة".
ولحد علمنا لم يحصل أي من هذين الأمرين حتى اليوم، وفي الانتظار، وحتى وإن كان كثر من المختصين بأدب فريش قد استاءوا من تلك الحكاية كلها معتبرين الأمر انتقاصاً من احترام الناشر لرغبة الكاتب الذي، لمجرد أنه طلب انتظار 20 عاماً قبل نشر كتابه، إنما عبر عن إرادته الواضحة في أن يصل الكتاب إلى القراء كما هو من دون أدنى تدخل ومن دون أدنى اقتطاع. أما الطامة الكبرى في هذه الحكاية فهي أن الناشر الذي أخذ الحكاية كلها على عاتقه، لم يجد أن من الضروري في خضم السجالات، أن يلجأ إلى من اعتبرته الصحافة الطرف المعني أكثر من أي طرف آخر بماكس فريش ويومياته البرلينية، أي زوجته التي كانت على قيد الحياة حين صدور اليوميات، ومن هنا، لئن كانت هي قد تمسكت إزاء الحكاية بأسرها بصمت ملوكي هو صمت ذي الكرامة الجريحة، بالنظر إلى امتلاء اليوميات بصفحات تسيء إليها وإلى ذكراها، فإن ثمة من المعلقين من تحدثوا عن أنه كان من الضروري للناشر أن يستشيرها قبل "الإقدام على فعلته"، لكنه لم يفعل، بل أبقاها خارج الموضوع بأسره. فهل كان ذلك بناء على طلبها؟ لم يستطع أحد، ومرة أخرى، على حد علمنا، أن يجيب عن هذا السؤال الذي لم تجب هي عنه أبداً.