Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نظرة عمرها 200 عام... حين غير الزجاج وجه التسوق

تحولت الواجهة الزجاجية مع الزمن من تفصيل معماري بسيط إلى رمز للحداثة والتفاعل والتسويق الذكي

أصبحت الواجهات الزجاجية تملأ المدن الكبرى من لندن إلى طوكيو، تعلن العلامات التجارية وتغري عيون المارة (أ ف ب)

ملخص

في حين أن رغبة الإنسان في الرؤية والتأمل قبل الشراء ما زالت هي ذاتها منذ تلك اللحظة الأولى، لكن بعد مرور 200 عام على أول واجهة زجاجية داخل بوند ستريت، يبقى السؤال مطروحاً، هل ما زالت واجهة المحل هي أول إعلان بصري لأية علامة تجارية، خلال زمن يحمل فيه كل واحد منا واجهة صغيرة في راحة يده، ويطل من شاشة هاتفه على متاجر العالم كله؟

في صباح بارد من خريف عام 1825، كان شارع بوند ستريت داخل لندن يلمع ببريق خافت بعد المطر. تمر سيدة أنيقة بثوب من المخمل، تمسك مظلتها بإتقان، وتتوقف فجأة أمام واجهة محل صغير يعرض ملابس جاهزة ملونة خلف لوح زجاجي لامع. لم يكن هذا المشهد مألوفاً آنذاك، فللمرة الأولى لا تحتاج السيدة أن تعبر عتبة المتجر لتتأمل البضائع، يكفي أن تنظر من الخارج، حيث تتلاقى الأناقة مع الشفافية. ذلك الزجاج لم يكن مجرد نافذة، بل بداية لحقبة جديدة في علاقة الإنسان بالتجارة والجمال.

وبعد 200 عام، أصبحت الواجهات الزجاجية تملأ المدن الكبرى من لندن إلى طوكيو، تعلن العلامات التجارية وتغري عيون المارة بلغة بصرية عالمية. وبين تلك اللحظة الأولى خلال أكتوبر (تشرين الأول) من القرن الـ19 واليوم، تحولت الواجهة الزجاجية من تفصيل معماري بسيط إلى رمز للحداثة والتفاعل والتسويق الذكي، مرآة تعكس تطور الذوق الإنساني، وتحول التسوق من حاجة إلى تجربة فنية وإنسانية كاملة.

بدايات لندنية

خلال النصف الأول من القرن الـ19 كانت لندن تعيش ذروة ازدهارها التجاري والثقافي. وكانت شوارع مثل بوند ستريت وريجنت ستريت موطناً لأفخم المتاجر التي تخاطب الطبقة الأرستقراطية الصاعدة، الباحثة عن التميز والترف. خلال تلك الفترة، بدأ أصحاب المحال بتجربة فكرة جريئة، عرض السلع خلف ألواح من الزجاج بدلاً من الاكتفاء بفتح الأبواب للزبائن المميزين أثناء النهار. كانت الخطوة بسيطة في ظاهرها، لكنها أحدثت ثورة براقة في عالم البيع بالتجزئة.

وعلى رغم أن البشرية عرفت الزجاج منذ أكثر من 3 آلاف عام، إذ استخدمه المصريون والرومان في الحلي والنوافذ الصغيرة، فإن صناعة الألواح الزجاجية الكبيرة الشفافة لم تتطور إلا خلال النصف الأول من القرن الـ19، عندما سمحت الآلة البخارية وتقنيات الصهر والتلميع الميكانيكي بإنتاج زجاج مسطح ونقي بدرجة غير مسبوقة.

 

لم يكن الزجاج خلال تلك الأعوام كما نعرفه اليوم، إذ كانت الألواح صغيرة الحجم وثقيلة ومكلفة للغاية، تقص وتركب في إطارات خشبية متينة لتكوين واجهة متكاملة. لذلك لم تكن كل المتاجر قادرة على تحمل كلفة هذا الترف الشفاف. ومع ذلك، جذبت التجربة الأنظار فوراً، وأصبح المارة يتوقفون أمام المحال لمجرد النظر إلى البضائع، وهو سلوك جديد كلياً أثناء تلك الحقبة، عُرف لاحقاً باسم "التسوق البصري" window shopping.

تحولت واجهات المحال في بوند ستريت وريجنت ستريت إلى مسارح صغيرة للعرض، إذ تتنافس المحال على ترتيب البضائع بأجمل صورة واستخدام إضاءة الشموع ومصابيح الزيت بأذكى طريقة، وأصبحت الواجهة الزجاجية أداة تسويقية قبل أن تُعرف كلمة "تسويق" بمعناها الحديث. ومن خلف الزجاج بدأ التاجر للمرة الأولى يخاطب عين الزبون قبل محفظته.

التحول الصناعي

مع منتصف القرن الـ19، كانت الثورة الصناعية غيرت وجه المدن الأوروبية، وبدأت تأثيراتها تمتد إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية، ومن بينها واجهات المتاجر.

فخلال عام 1848 تقريباً، ظهرت تقنية تسطيح الزجاج plate glass التي سمحت بإنتاج ألواح زجاجية كبيرة وسميكة ومسطحة بدرجة مذهلة مقارنة بما سبق. ولم يعد الزجاج مجزأ في إطارات خشبية صغيرة، بل أصبح سطحاً شفافاً واسعاً يتيح رؤية المتجر بأكمله من الخارج. ومع ازدياد تلك المساحات اللامعة، ازدادت قدرة المتاجر على جذب الزبائن، وتحول الزجاج من مادة بناء إلى أداة تسويق صامتة، وصارت الواجهة الزجاجية خلال تلك الفترة أشبه بمكان للفرجة، البضائع على الخشبة، وسكان المدينة هم الجمهور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بدأت تظهر فنون جديدة في العرض، ستعرف لاحقاً باسم فن الفترينات window display، ومعها ولدت مهنة جديدة هي مصمم واجهات العرض Visual Merchandiser الذي يجمع بين الذوق الفني وفهم السلوك البشري، ليحكي قصة العلامة التجارية من خلف الزجاج.

لكن النقلة النوعية الكبرى جاءت مع ظهور الإضاءة الحديثة، فمع انتشار إضاءة الغاز خلال خمسينيات القرن الـ19، ثم المصباح الكهربائي الذي طوره توماس إديسون عام 1879، أصبحت الواجهات تبرق ليلاً كما لم تظهر من قبل.

تحولت الشوارع التجارية إلى مساحات مضيئة، تبرز الأقمشة والمجوهرات والأحذية بألوانها اللامعة خلف الزجاج الشفاف، وتحول التسوق البصري إلى تجربة ليلية آسرة تجمع بين الضوء والانعكاس والرغبة في العودة إلى المحال حين تفتح أبوابها نهاراً.

أثناء تلك اللحظة، لم تعد الفترينة الزجاجية مجرد واجهة، بل لغة تسويقية جديدة، لغة الضوء والشفافية والإغراء البصري التي ستستمر في التطور حتى القرن الـ21.

من لندن إلى العالم

لم تظل الواجهة الزجاجية حكراً على شوارع لندن طويلاً، فقد سافرت الفكرة سريعاً عبر القارة الأوروبية، لتجد في باريس بيئة مثالية للازدهار. فخلال عام 1852، افتتح متجر "لو بون مارشيه" Le Bon Marché أبوابه كأول "مجمع تجاري ضخم" في أوروبا، جامعاً بين المعمار الزجاجي والابتكار التجاري. وكان الزجاج هنا أكثر من مجرد حاجز شفاف، بل وسيلة لتقديم تجربة تسوق جديدة تقوم على الإبهار والانفتاح. ومن باريس، عبر الزجاج المحيط واصلاً إلى نيويورك بعد خمسة أعوام، إذ تبنى متجر "مايسيز" Macy’s الفكرة وأضاف إليها لمسات أميركية جريئة، مساحات زجاجية هائلة تمتد على واجهات متعددة وتعرض السلع كأنها تحف فنية، وتستفيد من إضاءة الغاز التي كانت آنذاك ذروة الحداثة، فتخلق مشهداً لا يقاوم للمارة.

 

ومع مطلع القرن الـ20، أصبحت الواجهة الزجاجية معياراً عالمياً في المتاجر الراقية والمراكز التجارية الكبرى. لم يعد الهدف عرض أكبر عدد من القطع كما في البدايات، بل العكس تماماً، صار التوجه نحو العرض القليل المدروس بعناية ليبرز القيمة ويمنح كل قطعة أهميتها الخاصة.

ظهرت الرفوف المتحركة والدوارة لتغيير الترتيب بسهولة، واستخدام المانيكانات التي تقدم الأزياء بروح بشرية، بل وحتى الدمى المتحركة في بعض الواجهات الراقية التي أضافت لمسة إضافية من الجاذبية إلى المشهد.

ثم جاء بعد ذلك عنصر جديد غير الإيقاع السنوي للتجارة وهو الزينة الموسمية، إذ بدأت المتاجر، حتى تلك التي لا تبيع الزينات أو الهدايا، بتزيين واجهاتها في المناسبات الكبرى مثل أعياد الميلاد والهالوين والحب. وأصبحت هذه المناسبات فرصاً لاستعراض الخيال والإبداع، وتحويل الشارع نفسه إلى معرض احتفالي مفتوح. ومع كل موسم، كانت واجهات العرض تروي قصة جديدة لا عن البضائع فحسب، بل عن الزمن والمشاعر وثقافة المدينة نفسها.

التسويق الشفاف

دخل الزجاج في القرن الحالي مرحلة جديدة تماماً تجاوز فيها دوره التقليدي كوسيط عرض إلى أن أصبح واجهة رقمية تفاعلية. ولم يعد يكتفي بعكس صورة البضاعة بل صار يعكس هوية العلامة التجارية نفسها.

ظهرت الواجهات الذكية التي تعمل كشاشات رقمية شفافة تعرض المحتوى الإعلاني وتتفاعل مع حركة المارة، فمثلاً بدأت بعض مكاتب تأجير وبيع العقارات تستخدم شاشات لمس أمام محالها تسمح للمارة باستعراض صور وتفاصيل العقارات المتاحة، واختيار ما يثير اهتمامهم قبل دخول المكتب، مما يحول الواجهة الزجاجية إلى أداة تفاعلية مباشرة تربط الزبون بالمنتج بطريقة جديدة تماماً. كذلك ظهر الزجاج القادر على تغيير درجة شفافيته أو لونه أو عرض مقاطع الفيديو والصور بمجرد اقتراب الزبون.

 

تحول الزجاج من سطح صامت إلى منصة تواصل حية تجمع بين التصميم والإحساس، ومن عرض البضاعة إلى عرض التجربة، تجربة العلامة التجارية التي تروي قصتها قبل أن يدلف الزبون إلى الداخل. فعلى سبيل المثال، أصبحت بعض العلامات الفاخرة لا تعرض منتجاتها في الواجهات على الإطلاق، بل تكتفي بشعارها أو أيقونتها المميزة، بينما تبقي القطع النادرة والثمينة محجوزة لمن يمتلكون الشجاعة والمال الكافيين لتخطي واجهة المتجر والدخول مباشرة، وطلب رؤية أحدث المنتجات من دون التفكير أساساً في السعر، ليتحول التسوق إلى طقس من الفخامة والتجربة الحصرية.

وعلى رغم هذا التطور المذهل، ما زالت "الشفافية" جوهر المعادلة، فالزجاج لم يعد مجرد مادة بناء بل فلسفة تسويقية تقوم على الثقة والانفتاح، وعلى الرغبة في أن يرى الزبون كل شيء من دون حواجز.

وفي حين أن رغبة الإنسان في الرؤية والتأمل قبل الشراء ما زالت هي ذاتها منذ تلك اللحظة الأولى، لكن بعد مرور 200 عام على أول واجهة زجاجية في بوند ستريت، يبقى السؤال المطروح هو هل ما زالت واجهة المحل هي أول إعلان بصري لأية علامة تجارية، خلال زمن يحمل فيه كل واحد منا واجهة صغيرة في راحة يده، ويطل من شاشة هاتفه على متاجر العالم كله؟

المزيد من منوعات