ملخص
تحت الوسم #RawdoggingReality تجاوزت المشاهدات عشرات الملايين. هناك من وجد في الفكرة خلاصاً من إدمان التمرير، وهناك من رآها ضرباً من العبث أو "إعادة تغليف" لفكرة التأمل القديمة، لكن مهما اختلفت التفسيرات، بدا أن العالم المرهق من الشاشات بحاجة فعلاً إلى لحظة فراغ.
في عالم لا يعرف الصمت، ظهرت ظاهرة غريبة يسمونها "راودوغن"، أي الجلوس مع الواقع عارياً من كل الملهيات. لا هاتف، لا موسيقى، لا تلفزيون، لا كتب، ولا حديث، فقط أنت والفراغ لساعة كاملة من الصمت المربك.
على منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام"، انتشرت مقاطع لشباب يجلسون أمام الكاميرا بلا حراك، يعدون الدقائق وكأنهم يخوضون تجربة نجاة في صحراء من السكون.
يقول أحدهم: "بعد أول عشر دقائق شعرت أني أريد أن أهرب، لكن بعد النصف ساعة بدأت أفكر بوضوح، وصارت الأصوات داخل رأسي أكثر هدوءاً".
تحت الوسم #RawdoggingReality تجاوزت المشاهدات عشرات الملايين. هناك من وجد في الفكرة خلاصاً من إدمان التمرير، وهناك من رآها ضرباً من العبث أو "إعادة تغليف" لفكرة التأمل القديمة، لكن مهما اختلفت التفسيرات، بدا أن العالم المرهق من الشاشات بحاجة فعلاً إلى لحظة فراغ.
جيل لم يتعلم الصبر
ينتمي هذا التحدي إلى جيل نشأ على السرعة الفورية، فالمحتوى يستهلك في ثوان، والمشاعر تعبر عنها بإيموجي، والأفكار تختصر في منشور من سطرين.
هذه السرعة في الإيقاع وتدفق المعلومات تخالف الطبيعة البشرية، إذ تشير دراسات علمية حديثة إلى أن الدماغ البشري لم يصمم للتعامل مع هذا الكم الهائل من المحفزات الرقمية المتتابعة التي تميز عصرنا الحالي.
ففي دراسة نشرت في مجلة Frontiers in Psychology بعنوان الدماغ على الإنترنت كيف يغير الإنترنت طريقة تفكيرنا، حذر الباحثون من أن التدفق المستمر للمعلومات عبر الإنترنت يدفع الدماغ إلى نمط من الانتباه المشتت ويضعف القدرة على التركيز العميق والمستدام، لأن الإنسان بات معتاداً على التنقل السريع بين المهام والصفحات بدلاً من الاستغراق في التفكير.
وفي دراسة أخرى نشرت عام 2024 في مجلة Frontiers in Human Neuroscience بعنوان تأثير مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة على وظائف الانتباه، وجد الباحثون أن الاستخدام المفرط لمقاطع الفيديو القصيرة على الهواتف الذكية يؤدي إلى انخفاض النشاط في الفص الجبهي المسؤول عن التنظيم والتركيز والتحكم التنفيذي.
وأوضحت النتائج أن كثرة التحفيز البصري والمعلومات السريعة تجعل الدماغ أقل قدرة على التوقف، وأقل صبراً على المعالجة البطيئة، مما يفسر تراجع التركيز والانتباه في الحياة اليومية.
من هنا، ظهر الميل المعاكس وهي "الرغبة في اللاشيء". في أن نعود إلى لحظة الصفر، إلى ما قبل الرسائل والإشعارات، إلى ما يسميه بعض علماء النفس "التطهير العصبي" أي تنظيف المسارات المرهقة في الدماغ بإيقاف تدفق المعلومات.
الملل ليس عدواً
على مدى عقود طويلة، كان يُنظر إلى الملل كحالة سلبية أو مرض يجب التخلص منه، لكن أبحاثاً علمية حديثة قلبت هذا المفهوم تماماً.
ففي عام 2014، أجرى الباحثان ساندي مان وريبيكا كادي من جامعة سنترال لانكشير البريطانية تجربة لافتة، طلبا خلالها من مجموعة طلاب نسخ أرقام عشوائية من دليل هاتف لمدة 15 دقيقة، وهي مهمة رتيبة لا هدف لها، ثم كلفوهما بابتكار استخدامات جديدة لأكواب بلاستيكية. وكانت النتيجة أن المجموعة التي شعرت بالملل قدمت أفكاراً أكثر تنوعاً وإبداعاً من مجموعة المقارنة.
خلص الباحثان إلى أن الملل يمكن أن يكون محفزاً للخيال، فعندما يتوقف الدماغ عن استقبال المنبهات الخارجية يبدأ في توليد أفكار داخلية لملء الفراغ. ما يعرف بـ "التجوال الذهني" ليس ترفاً ذهنياً، بل آلية فطرية تساعد الإنسان على الابتكار والتأمل.
وأشارت مراجعة بحثية نشرت عام 2023 في مجلة Frontiers in Psychology إلى أن الملل يمثل إشارة من الدماغ تقول: "توقف، ما تفعله بلا معنى، ابحث عن هدف جديد". أي أنه ليس حالة سلبية كما يُعتقد، بل تنبيه داخلي يدعو الإنسان لإعادة اكتشاف المعنى في أفعاله وحياته.
من التأمل إلى "راودوغن"
ورأى البعض أن التحدي الجديد "إعادة تغليف" لفكرة التأمل القديمة، لكنه يختلف في جوهره. فالتأمل عادةً يرتكز على تقنية التنفس، أو ملاحظة الحاضر، أو التركيز على فكرة محددة والتواصل مع الروح. أما "راودوغن" ففكرته أبسط وهي أن تفعل لا شيء مطلقاً، أن تترك دماغك يتجول بحرية، حتى لو وصل إلى أماكن غريبة أو مزعجة.
في اليومين الماضيين ، قضيت وقتًا في التأمل ، وأجد السلام في روحي.
— Chase Hill (@hill_chase54054) October 16, 2025
وهذا ما أوضحه عالم الأعصاب الأميركي أندرو هوبرمان في دراساته، حيث خلص إلى أن الدماغ البشري يحتاج إلى فترات من السكون غير الموجه، لأن ما يُعرف بـ "شبكة الوضع الافتراضي" Default Mode Network تنشط فقط عندما يتوقف الإنسان عن العمل الواعي أو الانشغال بالمحفزات الخارجية. وتعد هذه الشبكة مسؤولة عن معالجة التجارب الماضية وتكوين الرؤى المستقبلية، إذ تتيح للعقل إعادة ترتيب أفكاره وصياغة قصته الداخلية.
وبمعنى آخر، فإن الجلوس بلا هدف ليس مضيعة للوقت كما يبدو، بل فرصة لإعادة تشغيل الذات واستعادة التوازن الذهني.
فوائد محتملة وأخطار خفية
الذين خاضوا تجربة الجلوس مع الفراغ تحدثوا عن شعور غريب يشبه التناقض مثل توتر في البداية يتبعه صفاء عميق بعد دقائق.
يصف أحدهم الأمر قائلاً: "في أول لحظات الصمت شعرت بالضيق، لكن شيئاً ما في رأسي بدأ يهدأ تدريجاً، وكأن الضوضاء الداخلية تنسحب بهدوء".
يقول العلماء إن هذا الإحساس يمكن تفسيره بانخفاض مستوى هرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر، وارتفاع موجات ألفا في الدماغ، وهي الموجات التي ترتبط عادة بالاسترخاء والإبداع.
دراسة أجرتها جامعة كوينزلاند الأسترالية عام 2022 على 268 شخصاً جرّبوا الانفصال الجزئي عن الأجهزة الرقمية، لمدد تراوحت بين 30 دقيقة وساعتين يومياً، وجدت أن هذا الانقطاع المنتظم حسن المزاج وخفض التوتر بنسبة 21 في المئة، ورفع جودة النوم والتركيز خلال أسبوعين فقط.
من أبرز نتائج تجارب "الجلوس مع الفراغ" أن الإنسان يستعيد الإحساس بالوقت.
ففي حياتنا الرقمية، تمر الساعات كأنها دقائق، لكن حين نجلس بلا فعل، تصبح الدقيقة طويلة وممتدة. هذا البطء قد يبدو خانقاً في البداية، لكنه يعيد للزمن معناه الحقيقي، تسلسلاً لا اندفاعاً.
أحد المشاركين كتب على صفحته في "تيك توك": "عندما جلست بلا هاتف، اكتشفت أن رأسي مليء بأصوات لم أسمعها من قبل... أفكار مؤجلة، مشاعر دفنتها السرعة، ورغبات نائمة. كان الأمر مؤلماً وجميلاً في آن واحد".
لكن ليست الصورة وردية تماماً. فبعض علماء النفس يحذرون من أن العزلة الطويلة أو الانقطاع المفرط قد يفاقمان القلق والتفكير السلبي لدى من يعانون اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب أو الوسواس القهري.
كذلك أن الخيط بين "التأمل الهادئ" و"الانسحاب من الواقع" قد يكون رفيعاً، لذا ينصح المتخصصون بالبدء بخمس إلى عشر دقائق فقط يومياً، مع زيادة المدة تدريجاً ومراقبة رد فعل الجسد والعقل.
هل أصبح الملل رفاهية؟
يرى بعض الباحثين أن القدرة على الشعور بالملل باتت نوعاً من الرفاهية في عصر الإنتاج المستمر. فليس الجميع قادراً على التوقف عن العمل أو الانفصال عن الإيقاع السريع للحياة.
ومع ذلك، حتى بضع دقائق من الصمت يمكن أن تُحدث فرقاً. فبحسب تقارير الجمعية الأميركية لعلم النفس (APA)، مجرد خمس دقائق يومياً من الصمت الواعي كفيلة بخفض معدل نبض القلب وضغط الدم، وتحسين المؤشرات العصبية المرتبطة بالتركيز والاستقرار النفسي.
تؤكد دراسات في علم الأعصاب أن الدماغ لا يتوقف عن العمل حتى في غياب المؤثرات، لكنه يحتاج إلى فترات من الفراغ الذهني لإعادة تنظيم الذاكرة والمشاعر.
وبسبب الضجيج الدائم الذي نعيشه اليوم من إشعارات ورسائل ومقاطع قصيرة يبقي الدماغ في حالة استنفار مستمرة تعرف في علم النفس باسم الاستثارة المزمنة. وعندما ينقطع هذا التيار فجأة، يشعر بعض الناس بالفراغ، كما لو أن أحدهم نزع قابس الكهرباء من جهاز ظل يعمل بلا توقف. ومع مرور الوقت، يبدأ الجهاز بالهدوء، ويبدأ العقل باستعادة توازنه الطبيعي.
في النهاية... العودة إلى الداخل
قد تكون هذه الظاهرة مجرد موجة رقمية عابرة، لكنها تطرح سؤالاً جوهرياً، هل نسينا كيف نجلس مع أنفسنا؟
منذ فجر التاريخ، كان الإنسان يعيش مع الصمت، يسمع خطواته وصوت الريح ويفكر. أما اليوم، فنخاف الصمت كأنه فراغ يهددنا. لكن داخل هذا الفراغ تولد الأفكار والأحلام، ويستعيد العقل توازنه. ربما لا يكون "الجلوس مع الملل" تمريناً ضد التكنولوجيا، بل مصالحة مع الذات بعد زمن طويل من التشتت.