Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الدراويش"... حين دار الصوفيون داخل الخشب

جسد محمود سعيد في اللوحة الروح الصوفية المصرية وأصبحت من الأغلى ثمناً في الشرق الأوسط

لوحة تجمع بين التصوف المصري والأسلوب الأوروبي الحديث، بين الإيقاع الروحاني والوعي الجمالي، حتى غدت رمزاً لخلطة فنية لا تتكرر. (دار كريستيز للمزادات)

ملخص

نجح محمود سعيد في توظيف الأساليب الغربية التي درسها وتأثر بها في باريس وروما، لكنه أذابها في حس عربي ومصري خالص، فجاءت النتيجة عملاً يفيض بالدفء والروح، لا بالتقنية وحدها. من يتأمل اللوحة يشعر أنه يسمع أهازيج الدراويش ويرى أجسادهم تتمايل في نشوة روحية، حتى يبدو المشاهد وكأنه يشاركهم الرقص والدوران.

في عام 1929، كان الفنان المصري محمود سعيد يمارس عمله قاضياً في مدينة المنصورة، حين قادته المصادفة إلى مولد الشيخ حسنين. هناك، وسط الأهازيج والإنشاد وحلقات الذكر، لفت انتباهه مشهد جماعة من الدراويش يدورون في حلقة صوفية بملابسهم البيضاء وطرابيشهم الحمراء. تلك اللحظة العابرة، التي بدت للآخرين مشهداً من الموروث الشعبي، كانت بالنسبة إليه شرارة الإلهام التي ستخلد في واحدة من أعظم لوحاته وأكثرها قيمة في الشرق الأوسط: "الدراويش".

رأى سعيد في تلك الحلقة انعكاساً لروحه المتمردة، فاستحضر في ذهنه ملامح الدراويش الأتراك الذين شاهدهم في إسطنبول خلال أسفاره السابقة، وبدأ يرسم من ذاكرته مشهداً لا يشبه غيره في تاريخ الفن المصري. لوحة تجمع بين التصوف المصري والأسلوب الأوروبي الحديث، بين الإيقاع الروحاني والوعي الجمالي، حتى غدت رمزاً لخلطة فنية لا تتكرر.

لوحة تنبض بالحركة والروح

ونقل محمود سعيد ما رآه إلى لوح خشبي، رسم عليه لوحته الزيتية الشهيرة بمقاس (68.5 × 97 سم)، صور فيها مجموعة من الدراويش داخل تكية دائرية، يدورون حول محورها بحركة متناغمة تحاكي الدوران الكوني نفسه. ملابسهم البيضاء وطربوشهم الأحمر يخلقان توازناً بصرياً مدهشاً، فيما تلتف الظلال والإضاءات حولهم كأنها أنغام ترى بالعين لا تسمع بالأذن.

نجح سعيد في توظيف الأساليب الغربية التي درسها وتأثر بها في باريس وروما، لكنه أذابها في حس عربي ومصري خالص، فجاءت النتيجة عملاً يفيض بالدفء والروح، لا بالتقنية وحدها. من يتأمل اللوحة يشعر أنه يسمع أهازيج الدراويش ويرى أجسادهم تتمايل في نشوة روحية، حتى يبدو المشاهد وكأنه يشاركهم الرقص والدوران.

وعلى رغم خلفيته الأرستقراطية، فإن الفنان آثر أن يكرس ريشته لتصوير البسطاء من الفلاحين والصيادين، وأبناء الشارع الذين شكلوا روح الحياة المصرية. لقد رسمهم لا كمواضيع فولكلورية، بل ككائنات حية تنبض بالعزة والكرامة، مما جعل لوحاته مرآة نادرة للطبقات الشعبية في زمن كان الفن فيه حكراً على النخبة.

 

القاضي الذي قيدته الأغلال

ولد محمود سعيد في الإسكندرية عام 1897، ونشأ في بيت يجمع بين الوجاهة السياسية والتقاليد المحافظة. أحب الرسم منذ طفولته، لكن والده رأى فيه مشروع قاض لا فنان، فألحقه بكلية الحقوق ثم عينه في السلك القضائي. هناك، داخل أروقة المحاكم، عاش صراعاً صامتاً بين الواجب والرغبة، بين سلطة القانون وحرية اللون.

كتب في مذكراته "كان لدي شعور طوال مدة اشتغالي بالمحاكم أني مقيد في أغلال، وكنت أريد الخروج من هذه الأغلال إلى العالم الحر الطليق".

هذا الاعتراف الصادق يلخص مأساة فنان يعيش جسده في قاعة المحكمة، بينما تحلق روحه في فضاء اللوحة، لكنه لم يترك فنه، بل كان يرسم في لياليه بصبر القاضي ودقة الفنان، إلى أن قرر في الأربعينيات أن يتفرغ كلياً للرسم، بذلك تحول من قاض يحكم بين الناس إلى فنان يحكم بين الضوء والظل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أغلى لوحة مصرية في التاريخ

لم تكن "الدراويش" مجرد عمل فني، بل تحفة تختصر فلسفة محمود سعيد كلها منها الحرية والروح والانتماء. ولهذا تصدرت اللوحة بعد عقود مزادات الفن الحديث، إذ بيعت في دار كريستيز للمزادات العالمية بمبلغ مليونين و546 ألف دولار أميركي، لتصبح أغلى لوحة مصرية على الإطلاق، وأحد أبرز رموز الفن العربي في القرن الـ20.

ذلك الثمن لم يكن مجرد رقم، بل اعترافاً عالمياً بقيمة فنان صاغ هوية مصر البصرية الحديثة، ونجح في أن يجمع الشرق والغرب في لوحة واحدة.

رحل محمود سعيد عام 1964، لكن إرثه ما زال حاضراً في المتاحف والمجموعات الخاصة، وفي وعي كل من يرى في الفن مرآة للروح. أما "الدراويش"، فهي ليست مجرد تصوير لحلقة صوفية، بل تجسيد لحالة الإنسان الباحث عن الانسجام بين الجسد والروح، بين العمل والشغف، بين النظام والحرية.

في كل التفافة من حركات الدراويش، تتجلى سيرة فنان عاش ممزقاً بين قاعة المحكمة ومرسمه، لكنه عرف في النهاية أن الفن وحده يملك القدرة على أن يحرره من الأغلال، وأن يعيد له رقصته الأولى.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات