Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"زعفرانة" رواية توثق التحولات في الخليج العربي

هدى النعيمي تطرح سؤال الهوية بين الأصالة والحداثة

لوحة للرسامة باية محيي الدين (صفحة الرسامة - فيسبوك)

ملخص

تتميز رواية الأجيال بقدرتها على التوغل في عمق التاريخ الاجتماعي، واستثمار الزمن كأداة درامية لرصد التحولات في علاقة الإنسان بالزمان والمكان، مما سعت إليه هدى النعيمي في روايتها "زعفرانة".

توثق رواية "زعفرانة" (الوتد –  الدار المصرية- اللبنانية) سيرة بعض المجتمعات العربية خلال حقبة تاريخية مفصلية، وتضيء محاولات الإنسان إعادة تعريف نفسه وصياغة هويته في ظل ما يحيط به من تحولات كبرى. وامتد الفضاء الزمني للسرد لأجيال متعاقبة عدة، زامنت التحول الذي شهدته منطقة الخليج العربي، في مرحلة ما بعد اكتشاف النفط، وبالمثل تنوعت الفضاءات المكانية للأحداث، فشملت قطر وعمان ومصر وتنزانيا وكينيا. واتساقاً مع هذه الفضاءات المتسعة وتعدد الأجيال، تنوعت الأصوات التي تحملت عبء الحكي بين كل من "مريم" الجدة و"زعفرانة" الحفيدة و"زعفرانة الأولى" وأبنائها "شهلا" و"يعرب" و"صالح"، إضافة إلى صوت "ذيب" زوج "شهلا". وعلى رغم هذه البنية السردية البانورامية التي اتسمت بتشعب الزمن وتنوع الفضاءات وكثرة الشخوص، تمكنت النعيمي من ضبط خيوطها وإحكام تماسكها.

 

 

الدهشة والتواطؤ

انطلق السرد من عوالم واقعية ومألوفة، غير أن الكاتبة أحاطت شخصيتها المحورية "زعفرانة" بغلالة من الفانتازيا، فأكسبتها سمات خارقة وقدرة على التبصر والتواصل مع روح الكون، مما حدا بالسرد نحو الواقعية السحرية، متحرراً من قيود العالم المادي، وخلق في الوقت نفسه مناخاً من الدهشة، أسهم بدوره في تعزيز تواطؤ القارئ مع النص. وتمثلت هذه السمات الخارقة في قدرة "زعفرانة" على الانتقام من أعدائها بمجرد النظر إليهم، فتنكسر ساق ابن عمها الذي أراد بعزمه على الزواج منها أن ينزع عنها مكانتها. ويسقط حجر فوق رأس ابن الجيران الذي تتبّعها فيشج رأسه.

ترتفع حرارة فتى آخر ضايقها، ولا يبرأ من علته إلا حينما تعفو عنه. وتنظر في عين الذئب فينكمش وينسحب، وتنجو فريسته "عفيفة". وتسمع صوت طفل ابنتها، قبل أن تعرف حتى بزواجها. وبرز حضور الفانتازيا كذلك عبر استدعاء بعض الأساطير مثل أسطورة الفتاة والنسر في الجبل الأخضر، وأيضاً عبر بروز موروث شعبي من المعتقدات والطقوس والعادات القديمة، وكذا عبر شخصيات أخرى مثل "عجوز السلوم" الذي ساعد "يعرب" في الشفاء من صداع مزق رأسه لأعوام "لقد انتظرتك كثيراً يا ولدي، دواؤك هنا منذ يوم ولدت... ما إن وضعت جسدي على السرير، حتى سرى في جسدي تيار بارد. رأيت دخاناً يخرج من رأسي" (صفحة 253). وكان الحلم وسيلة وظفتها الكاتبة في خدمة الفانتازيا، إذ جعلته رافداً للخيال، مستفيدة من عدم خضوعه لقوانين المنطق. كما استثمرت وظائفه التمهيدية في بناء التوتر الدرامي وخلق حال من الاستباق الرمزي، كما في حلم "زعفرانة" بخيال غريب يطوف حول سفينة أبيها، ينزع مساميرها، فقد مهد هذا الحلم لموت الأب في رحلة الغوص، بحثاً عن اللؤلؤ، وغرق سفينته وكل طاقمها. أما حلم "مريم" بعد قرار زوجها التخلص من خزانتها القديمة، فقام بدور تفسيري، إذ كشف عن البنية النفسية للشخصية. وأضاء خوفها الكامن والمكبوت في اللاوعي، من ضياع الأمانة التي حملتها لها "زعفرانة"، وثقل هذه الأمانة، وصراعاتها الداخلية حيالها.

مرونة الزمن

وعمدت الكاتبة إلى استخدام بنية زمنية مرنة، مزجت فيها بين الزمن الخطي والاسترجاع، إضافة إلى الاستباقات والمفارقات الزمنية. وأبرزت من خلال هذه البنية علاقة الإنسان بالمكان كثيمة رئيسة للسرد، وكذلك كانت شخصية "زعفرانة الكبرى" بمثابة رابط جمع بين الشخوص، إذ ظلت الرغبة في فك غموضها واكتشاف أسرارها محوراً مركزياً للسرد ومحركاً رئيساً للأحداث. كما كانت الشخصية ذاتها مدخلاً سلكته الكاتبة، لطرح عدد من القضايا، من بينها "حرب ظفار" في عمان، وصراع أهالي المنطقة مع الانتداب البريطاني، وما ترتب عليه من قتل وتهجير وارتحال.

 

 

ولم تكن تلك هي الحرب الوحيدة التي ألقت بظلالها على السرد، وإنما عرجت النعيمي على الغزو الأميركي للعراق، فأبرزت، ضمناً، تماثل معاناة سكان المنطقة جراء الاستعمار، على رغم المسافة الزمنية والمكانية الفاصلة بين الحربين. كما طرقت قضايا ذات طابع اجتماعي مثل الفقر والتفاوت الطبقي وقضايا أخرى ذات طابع نسوي، فرصدت معاناة النساء في تلك الحقبة، نتيجة دفعهن أطفالاً إلى الزواج والتغول على إرثهن ونقص الرعاية الصحية التي تسببت في رحيل كثير منهن أثناء المخاض، إضافة إلى انتقاص حريتهن وسلبهن قرارهن في تحديد خيارات الزواج والحياة، "ليس للفتاة شأن في أمر زواجها، إنما أبواها يقرران متى تتزوج، وعندما يوافقان على الخاطب، فليس لها إلا أن تذعن" (صفحة 14). كما عمدت الكاتبة إلى رصد التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع الخليجي بعد استقلال شعوبه، ودخوله ميدان الحداثة وإرساء القانون وما ترتب على ذلك من نيل النساء حقوقهن في التعليم والزواج ودخولهن في شؤون الحياة، فضلاً عن زيادة الرفاهية وجودة الحياة التي أتاحتها التكنولوجيا.

وأضاءت تلك التحولات على التقابل بين الماضي والحاضر والآباء والأبناء وقسوة الحياة وسخائها. ولم يقتصر التحول بالنص على توثيق التغيرات الواقعية التي لحقت بالمنطقة، وإنما امتد إلى الشخوص، مما منحها سمة الدينامية والتشويق، فتحولت "زعفرانة الأولى" من الدلال لدى أبيها، الخبير بمهنة الغوص وعلوم البحر، إلى اليتم لدى عمها. كما حول العشق وجهتها، فرافقت "حامد" إلى عمان. وحول الحب والحرب أحوالها من سعة الرزق، إلى شظف العيش. أما قلب "شهلا" فتحول من "نبيل" إلى "ذيب". وتحولت حياتها الرغدة في القاهرة إلى حياة خشنة بعد انضمامها إلى المقاومة، واختيارها العيش في الكهوف بين الجبال. كذلك تحولت "فاطمة" من رفضها للحرب ومنع زوجها من الانضمام إليها، إلى المشاركة فيها بنفسها، انتقاماً لزوجها وأبنائها الذين خسرتهم جراء سقوط قذيفة فوق منزلها.

إحياء الذاكرة

وسط هذا الزخم من التحولات، ولا سيما التي رصدت تطورات الواقع الخليجي خلال العقود الأخيرة، عمدت الكاتبة إلى استدعاء التراث، وأبرزت حضوره كمرادف ومرآة للهوية وانعكاس للتمسك بالجذور. ومررت عبر استدعائه، ضمناً، رؤى تحيل إلى نهج شعوب المنطقة الذي جمع بين التمسك بالتراث كأهم مكونات الوعي الجمعي، والسعي إلى الحداثة في الوقت عينه، على نحو يدحض صورة نمطية كوّنها الآخر عن شعوب هذه المنطقة، واعتبارها مجموعة من العشائر في مجتمع قبلي بدائي. وتنوعت صور الموروث في النص، ما بين أساليب الطب الشعبي كفرك أوراق المشموم "الريحان" فوق الجروح ورفع اللوزتين بخرقة من القماش والكي والرقية، إضافة إلى الألعاب الشعبية مثل "الخشيشة" و"القبس"، وكذا عبر استدعاء نشاطي الرعي والغوص، وكانا عصب الحياة الاقتصادية قبل ظهور النفط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كذلك استدعت الكاتبة بعض المهن التقليدية مثل مهنة المطوع، والأزياء التقليدية مثل "البخنق" و"الغشوة" و"الغترة"، وبعض الطقوس الاجتماعية الشعبية مثل "دزة العروس" و"وليمة الهدية" التي يقيمها أهل الزوج للنساء اللاتي جئن له بالعروس. كما استدعت بعض المعتقدات الشعبية حول الجن والسحر ومقامات الأولياء التي اتسقت بدورها مع الخط الفانتازي للنص، ذلك الخط الذي دعمه تكرار الإشارة إلى "كتاب الغزال" الذي ورثته "زعفرانة" عن أبيها، وكان وسيلتها  للتواصل مع روح الكون، "ساعدني ’كتاب الغزال‘ لأقرأ منه وأنا أضع يدي اليمنى على رأس الفتاة. في الجلسة الثالثة، بدأت الفتاة في إخراج ما في بطنها من عصارة. مع تلك العصارة خرجت خيوط حمراء متشابكة. فتحت بعدها الفتاة عينيها وكأنها تفيق من سبات عميق" (صفحة 87).

جسور إلى الواقع

وعمدت الكاتبة إلى تمرير بعض المعارف، وصنعت منها جسوراً للربط بين الواقعي والمتخيل، فاستدعت معارف حول الإمبراطورية العمانية، وأثرها في الساحل الأفريقي الشرقي عبر ما أوردته من تماثل بين عمان وزنجبار. واستدعت معارف أخرى حول الجبل الأخضر والطبيعة في جبال ظفار والقاهرة القديمة ومعالمها. كما مررت معارف حول شخصيات تاريخية مثل الملاح العربي ابن ماجد، والمفكر الهندي المهاتما غاندي صاحب فلسفة اللاعنف. وكما أسهمت هذه المعارف في إضافة أبعاد تأملية للنص، أحالت إلى بعد قومي وعروبي، رسخه تعدد الفضاءات المكانية وكثافة الشحنات العاطفية تجاه تلك الفضاءات، بينما بدت حال من الحنين إلى ماضٍ، شهد تقارباً اجتماعياً، تراجعت حميميته "أما أم جابر فقد ضربت حائط الجيران بيدها مرتين، لترد عليها الجارة الأخرى. وجدت فجأة أن خمساً أو ستاً من النساء قد لحقن بي إلى بيتنا" (صفحة 15).

وفي مواضع متفرقة من النسيج، تسللت إدانات ضمنية لكل صور القمع، سواء التي مارسها المستعمر، أو حتى التي مارسها الآباء تجاه أبنائهم، إذ أبرزت الكاتبة القمع كثقافة متجذرة في المجتمعات العربية، مارسها "حامد" العماني تجاه أبنائه، حين قرر عنهم مصائرهم، فأرسل اثنين إلى القاهرة، والثالث إلى زنجبار. وانتهجها الآباء في حقبة سالفة، بإرغام بناتهم على الزواج. ومارسها في القاهرة أب حرم ابنه "أحمد" من الجامعة خوفاً عليه من نشاطه السياسي. كما مارسها "عزت" على ولده "مصطفى"، حين حرمه حق القراءة والاطلاع. وربما أرادت النعيمي عبر هذا التماثل في القمع، إدانة أساليب التربية الشائعة التي تهيئ مناخاً مناسباً، ينمو فيه الخوف والخنوع.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة