ملخص
لم تكن الاشتباكات الأخيرة بمعزل عن تاريخ طويل من الخلافات الحدودية، إذ تعود جذور التوتر بين الجارتين للنزاع المستمر حول حدودهما المشتركة والذي أعاد للواجهة إرثاً تاريخياً يمتد لأكثر من 100 عام، منذ أن رسم البريطانيون عام 1893 الخط المعروف باسم "خط ديورند".
تجددت الاشتباكات بين القوات الباكستانية ومقاتلي حركة "طالبان" الأفغانية صباح اليوم الأربعاء، مما أسفر عن خسائر بشرية في صفوف الجانبين، في واحدة من أعنف جولات القتال بين البلدين منذ عودة "طالبان" للسلطة عام 2021.
وقالت حركة "طالبان" الأفغانية إن أكثر من 12 مدنياً قتلوا فيما أُصيب نحو 100 آخرين في هجمات جوية نفذتها القوات الباكستانية خلال الساعات الأولى من اليوم في منطقة سبين بولدك بأفغانستان، بينما تواصل إسلام آباد إغلاق جميع معابرها الحدودية، وعلى رأسها معبر طورخم الإستراتيجي.
وذكرت باكستان أن أربعة من مواطنيها أصيبوا في هجمات شنتها "طالبان" في منطقة تشامان المقابلة لسبين بولدك عبر الحدود، بينما تأتي هذه التطورات مع دخول القتال أسبوعه الثاني في ظل تبادل الاتهامات بين الجانبين، إذ تقول إسلام آباد إن كابول تؤوي مسلحي حركة "طالبان - باكستان" وتوفر لهم ملاذاً آمناً للتدريب والتخطيط لهجمات عبر الحدود، وتشاركها الفكر نفسه مع "طالبان" الأفغانية الذي بات مصدر إزعاج لإسلام آباد، بينما تنفي الحكومة الأفغانية ذلك وتؤكد أنها لن تسمح باستخدام أراضيها لاستهداف أية دولة أخرى.
"خط ديورند" الحدودي
غير أن الاشتباكات الأخيرة ليست بمعزل عن تاريخ طويل من الخلافات الحدودية، إذ تعود جذور التوتر بين الجارتين للنزاع المستمر حول حدودهما المشتركة والذي أعاد للواجهة إرثاً تاريخياً يمتد لأكثر من 100 عام، فمنذ أن رسم البريطانيون عام 1893 الخط المعروف باسم "خط ديورند"، ظل هذا الحد الممتد لأكثر من 2600 كيلومتر أحد أكثر الملفات حساسية في جنوب آسيا، إذ يفصل بين الأراضي الأفغانية والباكستانية الحديثة، ويشكل محوراً دائماً للتوتر بين البلدين.
هذا الترسيم الإداري قسّم القبائل البشتونية التي تمتد جذورها العشائرية واللغوية على جانبي الحدود، لتتحول المنطقة إلى حزام قبلي متداخل لا يعترف بالحدود السياسية الحديثة، ومنذ استقلال باكستان عام 1947 رفضت الحكومات الأفغانية المتعاقبة الاعتراف بـ "خط ديورند" كحدود رسمية، معتبرة أنه إرث استعماري فرضه البريطانيون، فيما تصر إسلام آباد على أنه حد دولي معترف به بموجب اتفاقات سابقة.
أزمة ثقة متجذرة وصراع نفوذ إقليمي
هذا الخلاف التاريخي تحول إلى أزمة مستدامة غذتها النزاعات القومية والمذهبية وصعود الحركات الإسلامية المسلحة، ولا سيما بعد ظهور حركة "طالبان باكستان" التي تنشط عبر الحدود منذ عقدين، وبحسب تقرير "مركز إندس للدراسات الباكستانية"، فإن الأحداث الأخيرة بين باكستان و"طالبان" لا تمثل مجرد اشتباكات حدودية، بل تعبر عن أزمة ثقة متجذرة وصراع نفوذ إقليمي على خط نار مفتوح منذ عقود.
ويشير التقرير إلى أن مستقبل العلاقات بين البلدين سيبقى رهيناً بقدرة الطرفين على بلورة اتفاق أمني شامل يضمن ضبط الحدود ويمنع استخدام الجماعات المسلحة كورقة ضغط سياسية في لعبة معقدة تتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق توازنات الإقليم بأسره.
وعلى رغم الجهود الدبلوماسية الجارية فإن مستقبل العلاقات بين البلدين يبقى رهينة لقدرة الطرفين على صياغة اتفاق أمني شامل يضبط الحدود، ويحول دون استخدام الجماعات المسلحة كورقة ضغط سياسية في لعبة معقدة تتجاوز حدود الجغرافيا إلى عمق توازنات الإقليم بأسره.
ويرى "مركز إندس" أن تحقيق هدنة مستقرة ممكن في حال التزام "طالبان" بتعهداتها الواردة في "إعلان الدوحة" الذي نصّ على أن الحركة لن تسمح لأي تنظيم أو جماعة باستخدام الأراضي الأفغانية ضد باكستان أو الدول المجاورة، غير أن تقرير "مركز إندس" يشير إلى أن "طالبان" لم تبد التزاماً فعلياً بهذا البند وتعاملت معه بقدر من اللامبالاة، وهو ما جعل تطبيق الاتفاق موضع شك وأضعف الثقة بين الجانبين.
توترات دائمة على الهوية القومية
وفي سياق متصل قال السفير السعودي السابق لدى لبنان علي عواض عسيري لـ "اندبندنت عربية"، إن الخلاف حدودي تاريخي وقديم بين باكستان وأفغانستان ويولد توترات دائمة على الهوية القومية، خصوصاً في مناطق القبائل البشتونية الواقعة على الحدود بين البلدين.
وبيّن عسيري أن هذا التوتر يتجدد بين فترة وأخرى على شكل غارات جوية باكستانية وردود نارية من الجانب الأفغاني، مشيراً إلى أن هذا التوتر المستمر دفع حكومة "طالبان" إلى تقليص اعتمادها التقليدي على باكستان، والسعي إلى بناء علاقات مستقلة مع دول أخرى مثل الهند، وهو ما يثير قلق إسلام آباد التي كانت ترى في كابل امتداداً إستراتيجياً لنفوذها السياسي والأمني.
ويرى السفير السابق أن الخلاف بين الدولتين يتجاوز كونه نزاعاً حدودياً إلى كونه نتاجاً لتشابك ملفات أمنية وسياسية معقدة، تشمل نشاط الجماعات المسلحة العابرة للحدود والتحولات في مواقف "طالبان" بعد تسلمها الحكم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما عن دور السعودية فيؤكد عسيري أن الرياض حريصة على استقرار الأوضاع داخل البلدين وتعزيز علاقات حسن الجوار بينهما، مشيراً إلى أن الرياض تمتلك علاقات متوازنة مع الطرفين وتقدم دعماً إنسانياً ودبلوماسياً مستمراً، إضافة إلى تشجيعها الحوار البناء لتخفيف التوتر وتقريب وجهات النظر بما يحفظ أمن المنطقة ويمنع أي تصعيد جديد بين البلدين الجارين.
حواضن اجتماعية في المناطق الحدودية
من جهته يرى الباحث السياسي يحيى بوزيدي في حديث سابق مع "اندبندنت عربية" أن هذه المناوشات ليست جديدة في جوهرها، إذ تعود لنحو عقدين من الزمن، وهي جزء من سلسلة مواجهات متكررة بين الجيش الباكستاني وحركة "طالبان باكستان".
وبيّن الباحث السياسي أن المسألة شديدة التعقيد لأن جذورها تتداخل مع وجود حركة "طالبان باكستان" ونشاطها في المنطقة الحدودية، حيث يصعب على باكستان حسم المعركة عسكرياً نظراً إلى وجود حاضنة اجتماعية واسعة للحركة في مناطق القبائل الممتدة بين البلدين، مشيراً إلى أن "طالبان باكستان" تجد ملاذاً آمناً داخل الأراضي الأفغانية، بينما تنفي حكومة كابول أي دعم أو علاقة لها بهذا التنظيم، وتعتبر الاتهامات الباكستانية باطلة.
ويوضح بو زيدي أن الترابط الأيديولوجي والتنظيمي بين الحركتين واضح، ويكفي التشابه في الاسم بين "طالبان أفغانستان" و"طالبان باكستان"، ليكشف عن عمق الارتباط، حتى إن البيئة الحدودية والحاضنة الاجتماعية توافر لها قدرة على الحركة وإعادة التموضع.