ملخص
تعد الجزائرية الفرنسية فريدة خالفة "أيقونة" في عالم الموضة والأزياء في فرنسا، ولمع اسمها خلال ثمانينيات القرن الماضي كأول عارضة من أصول مغاربية تتعاون مع دور أزياء عالمية. لفتت الأنظار بملامحها العربية وشعرها الأسود الكثيف، وبقدرتها على الجمع بين الأصالة والجرأة، لتشق طريقها من منصة العرض إلى إدارة دور الأزياء ثم إخراج الأفلام الوثائقية.
جاءت المفاجأة الحقيقية حين أصدرتفريدة خالفة سيرتها الذاتية التي كشفت خلالها عن طفولتها التعسة في مدينة ليون، فأثار الكتاب اهتمام الأوساط الثقافية والإعلامية في فرنسا. لم يتخيل أحد أن خلف تلك الملامح الغامضة، ماضياً من المآسي العائلية وأزمات نفسية كادت تودي بها إلى الجنون، لولا فرارها وإصرارها على النجاة. وحين سئلت فريدة عن سبب اختيارها عنوان "طفولة فرنسية" ردت بتلقائية "لأن الطفولة ببساطة كانت فرنسية". فعلى رغم جذورها الجزائرية، ولدت فريدة خالفة في مدينة ليون عام 1960، ولم تجد عنواناً أصدق يعبر عن سيرتها الذاتية.
طفولة جزائرية على أرض فرنسية
لم تجرؤ فريدة خالفة على تدوين مذكراتها إلا بعد وفاة والدتها. عندها فقط، سمحت لنفسها بفتح الأبواب المغلقة في وجه الماضي ومواجهة ذكرياتها الأليمة التي ظلت حبيسة الصمت لأعوام طويلة. وعدا عن فكرة الكتابة، لم تجرؤ فريدة خالفة على الإنجاب أيضاً إلا بعد وفاة والدها، فقد طاردها حضوره كظل مخيف يهدد بالظهور في أية لحظة. لم تكن كتابة السيرة الذاتية مشروعاً مؤجلاً، لكن وفاة أمها أيقظت كل الذكريات من سباتها، فصارت الكتابة وسيلة علاجية للتعافي من جراح الطفولة. وتقول فريدة إنها حين تلقت خبر وفاة والدتها لم تبكِ ولم تشعر بالحزن حقاً، كما لو أن موت أمها تساوى مع حياتها، وحتى بكاؤها في وقت لاحق أثناء الكتابة لم يكن رثاء بقدر ما هو تأثر بوجعٍ قديم أحيته الكتابة.
وتحضر الأم في ذاكرة ابنتها في صورة زوجة تقليدية، مستسلمة وخاضعة لزوج عنيف، أم مضطربة تعتمد على أدوية مضادات الاكتئاب، وبدلاً من أن تحمي أبناءها من التعنيف والتحرش والاغتصاب، تلومهم لأنهم لم يقوموا بواجب حمايتها من والدهم. وتروي فريدة خالفة حكاية أمّ أرغمت على الزواج المبكر، وحين حاولت الفرار ليلة الزفاف، أعادها أهلها لجلادها، وببلوغها الـ32 كانت أنجبت 11 طفلاً، ليحولها الاكتئاب إلى زوجة ضعيفة، باردة وغير مبالية، فاقدة الرغبة في المقاومة والتغيير. ويبقى السؤال الأهم مطروحاً، ضمن كتاب الابنة كما في حياتها، سؤال لم تتوصل إلى جواب له، بعد 30 عاماً من العلاج النفسي "لماذا لم تقم أمي بحماية أبنائها؟".
تقول فريدة خالفة إن البؤس الذي عاشوه في البيت في حي مينكيت، لم يكن سببه الفقر، بل غياب الحب، فـ"الحب لم يكن حاضراً في بيتنا وكل ما تلقيناه من والدينا هو العنف والقسوة". وتصف والداً سكيراً يعود ثملاً ليعنف زوجته وأطفاله، ويغتصب ليلاً ابنته الكبرى، بينما كان الابن محمد هو أكثر من تلقى التعنيف من أبيه، فيقضي ساعات طويلة في غرفة التعذيب ويغادرها متهالكاً، مصاباً وملوناً بالكدمات. تتذكره فريدة بحنين وألم، وتقول إنه كان "أجملنا، واكثرنا طيبة، وحنوناً وملامحه دافئة، لا يؤذي أحداً، كان ذنبه الوحيد أنه ولد لتلك العائلة". وتقر فريدة في مذكراتها بأنها تدين لوالديها بحياتها ولكن ليس الغفران، فلا يمكنها أن تسامحهما لأن في الغفران شيء من العفو والتجاوز ومن قبول الظلم الذي عاشوه.
قد يبدو في رفض فريدة مسامحة والديها حقد دفين، لكنها تؤكد أنها لم تعد تكرههما، إذ إنها تعافت من الكراهية، وتفهمت مسار حياتهما وجذور العنف الذي مارساه، فهما بدورهما كانا ضحيتين لظروف قاسية. فالأب الذي خسر أملاكه وأرضه وهويته في الجزائر، اضطر إلى الهجرة نحو فرنسا، إلى بلد "العدو"، ليبدل عبودية بأخرى. وتشير فريدة عند الحديث عن هذا إلى أن قراءتها للطبيب والمفكر فرانز فانون، ساعدتها في فهم ما فعله الاستعمار بعقول الجزائريين، إذ لم تقتصر آثاره على الجانب المادي والاجتماعي وحسب، إنما أثرت في الصحة العقلية لعشرات الآلاف.
وتكتب فريدة أنها عاشت دوماً على حافة الجنون، تكاد تفقد عقلها في أية لحظة، وذلك العنف الذي مارسه الأب تفشى بين العائلة وغدا معدياً بين أفرادها. وتروي كيف تعرضت للاغتصاب في عامها السابع على يد خالها، معبرة عن خيبتها من صمت أمها وحيادها. وكل تلك الانتهاكات دفعتها إلى محاولتي انتحار قبل بلوغها الـ14، حتى لم تجد أمامها حلاً سوى الهرب إلى باريس للنجاة بنفسها.
في كتابها "طفولة فرنسية"، اختارت فريدة خالفة الكتابة عن حي مينكيت، الحي الذي نشأت فيه واكتشفت فيه روحاً مختلفة عن الأماكن التي قرأت عنها في الكتب. فهو حي شعبي شيد ليؤوي المهاجرين الوافدين من أفريقيا، ويحمل تاريخ الجيل الأول من المهاجرين الجزائريين الذين استقروا في فرنسا مباشرة بعد الثورة. ومن خلال وصفها شخصيات الجيران والمقيمين فيه، سعت فريدة إلى "أنسنة" المهمشين والمحقرين، وإعادة الاعتبار لهم، عبر الكشف عن حياتهم اليومية ومعاناتهم الاجتماعية في الظل والهامش من دون أن يعبأ بوجودهم أحد.
الهروب إلى حياة الليل
في الـ16 من عمرها، قررت فريدة خالفة الفرار من بيت والديها إلى باريس، وهناك أقامت في فندق إنجلترا، أحد أرخص الفنادق في المدينة. وراحت تتردد على الملهى الليلي الشهير "بالاس" الذي كان ملتقى المشاهير والفنانين خلال تلك الفترة. في ذلك المكان، تعرفت إلى كريستيان لوبوتان وجان بول غود وعز الدين علايا وجان بول غوتييه، فشقت طريقها في مجال عرض الأزياء واصبحت أول عارضة مغاربية في فرنسا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حين وصلت إلى باريس، بعد طفولة قاسية ومراهقة مضطربة، التزمت الصمت طوال 15 يوماً، فلم تكن تجيد التواصل ولم تعرف كيف تعبر عن نفسها، مما دفعها إلى الإدمان على الهيروين، كمهرب وكوسيلة للاسترخاء والجرأة في التعامل مع هذا الوسط الجديد. ومع ذلك تمكنت لاحقاً من الإقلاع والتعافي، بعد رحلة علاجٍ واجهت خلالها ذاتها وماضيها ومخاوفها. وفي مذكراتها، رفضت فريدة تقمص دور الضحية واستجداء القراء، بل قدمت نفسها على أنها ناجية ومقاتلة، كتبت سيرتها بقدر من الصدق والحياد متجنبة المبالغة في العاطفة أو الـ"ميلودراما".
ثنائية الانتماء
تشعر فريدة خالفة بأنها فرنسية بقدر ما هي جزائرية، فهي لا تتنصل من أصولها، ولا تنكر انتماءها إلى فرنسا بالميلاد والنشأة. وتعبر عن امتنناها لهذا التعدد الثقافي الذي يجمع بين المغاربي العربي والفرنسي الأوروبي، غير أنها كثيراً ما عاشت تمزقاً بين هاتين الهويتين. ولم تستطع أن تشعر بانتماء كامل لأي منهما، فظل انتماؤها جزئياً ومشوشاً. لكنها وصلت في نهاية المطاف إلى قناعة لا تعترف بالرايات والحدود، وفضلت أن ترى نفسها مواطنة تنتمي إلى العالم بأسره.
في سيرتها الذاتية، قدمت فريدة خالفة نموذجاً عن مراهقة هاربة من جحيم العائلة والإدمان، تحولت إلى سيدة أعمال ناجحة استطاعت أن تحدد طريقها بثبات، وتبرز مواهبها وتقدم إنجازاتها، لتغدو نموذجاً ملهماً لفتيات كثيرات تبدو أحلامهن بعيدة المنال.