ملخص
الهجوم السيبراني على حضانات الأطفال في لندن كشف هشاشة الثقة في مؤسسات الرعاية، بعد سرقة بيانات آلاف الأطفال واستخدامها للابتزاز، في مشهد يعكس لامبالاة مروعة تجاه براءتهم وحقهم في الأمان. وبين قراصنة لا يعنيهم سوى المال وساسةٍ منشغلين بالشعبويات، يبقى الخطر الأكبر في عالم فقد قدرته على حماية أضعف من فيه.
"إنه لأمر جلل أن تقرر إنجاب طفل. فأن تنجب طفلاً يعني أن تسمح لقلبك بأن يحوم خارج جسدك إلى الأبد".
بقيت كلمات الكاتبة والمعلمة الأميركية إليزابيث ستون عالقة في ذهني دائماً. ربما تبدو في ظاهرها عاطفية أو ساذجة أو حتى مفرطة في الرقة، ولكنها بالنسبة إلي كانت التعبير الأصدق عن الإحساس الذي غمرني حين ودعت أطفالي إلى الحضانة (ثم لاحقاً إلى المدرسة)، ليخطوا أولى خطواتهم في مواجهة الحياة خارج أمان المنزل.
كنت محظوظة باختيار حضانة محلية لأطفالي يسودها جو من الدفء والحنان، وكانت ترسل لي يومياً تقارير مصورة عن أنشطتهم، بينما أقاوم في عملي شعور الذنب الساحق الذي يلازم كل أم بعيدة من أطفالها.
"اليوم استمتع طفلك باللعب في حوض الرمل، حاول أن يتذوق بعض الرمل ولم يعجبه!"، قرأت هذه الملاحظة بينما كنت أحسب ما إذا كنت سأتمكن من الوصول في الوقت المحدد لأقلّ صغيري من الحضانة، أم سأخسر غرامة قدرها 10 جنيهات عن كل 10 دقائق بعد السادسة مساء. "اليوم تمرّنا على ’الأيادي اللطيفة’ [التعامل برفق مع الآخرين وحل الخلافات من دون ضرب] وتعلمنا أن نقول معاً: لا للضرب!"، أضحكتني هذه الرسالة، على رغم أن عليّ أن أكون أكثر جدية تجاه درس الانضباط هذا. اليوم أمضينا وقتاً ممتعاً في نشاط العدس! حاول طفلك أن يتناول العدس النيء. نهيته عن ذلك قائلة: لا نأكل العدس النيء!"، ولكنه تجاهلني وأكله على أي حال.
شاركني مقدّمو رعاية آخرون تجاربهم في الحضانات، وحدثوني بعاطفة عن "ملاحظات متابعة الأطفال"، وألبومات الصور، والعلاقة الودية التي تربط العاملين الرئيسين في الحضانة بالأهالي، إلى حد أنهم ينادون بعضهم بأسماءٍ محببة غير رسمية. ويُظهر ذلك مدى الأهمية التي تمثلها الحضانات لجميع من يعتمدون عليها: الأمهات والآباء، والأجداد، والمربين، والأطفال. فالعلاقة مع الحضانة ليست علاقةً تجارية بحتة (على رغم أن تكاليفها قد تكون باهظة إلى حدّ مرهق، بل مدمرة أحياناً، إذ إن مجرد القدرة على إلحاق الطفل بحضانةٍ خاصة في المملكة المتحدة تُعد امتيازاً كبيراً بحد ذاته). ومع ذلك، تبقى الحضانة امتداداً حقيقياً للعائلة، لا مجرد مرفقٍ خدمي. فأنت تسلّم أغلى ما لديك إلى غرباء ليهتموا بملابسه ونظافته وطعامه وتعليمه ونومه وتدريبه على استخدام الحمّام، ويحافظون على "قلبك" آمناً في غيابك. إنها مسؤولية جسيمة، ورابطة تقوم على الثقة والحب معاً.
ولهذا السبب تحديداً اجتاحتني صدمة مروعة وشعور بالغثيان لحظة سمعت بخبر الهجوم السيبراني على حضانة "كيدو" Kido.
كانت التفاصيل مرعبة بحق: إذ سرقت مجموعة قراصنة إلكترونيين تُدعى "راديانت" Radiant صوراً وأسماءً وعناوين لما يقارب ثمانية آلاف طفلٍ من سلسلة الحضانات اللندنية، واستخدمتها للمطالبة بفدية مالية، وفقاً لما ذكرته هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي". وقد نُشرت بالفعل صور وملفات عشرةٍ من هؤلاء الأطفال على موقع المجموعة في الشبكة المظلمة أو "دارك ويب".
عندما شاهدت التقرير الذي أعدته " بي بي سي" هذا الصباح حول الفضيحة، استوقفني تفصيل مزعج على نحو خاص: إذ قال أحد القراصنة إنهم "لا يهتمون بالمعلومات التي سرقوها من الأهالي، وكل ما يعنيهم هو المال". هذا السلوك [الذي يعكس اللامبالاة المطلقة تجاه الأطفال] مؤلم ومحزن للغاية، لأنه يعبر عن عَرَضٍ من داء عالمي أوسع وأكثر قتامة، يؤكد أن كثيراً من الرجال أصحاب النفوذ، من سياسيين، ورؤساء، ورؤساء حكومات، ومبرمجين، لا يعيرون الأطفال أدنى اهتمام. انظروا فقط إلى غزة والضفة الغربية.
على المستوى المحلي، بعيداً من الفظائع الحقيقية والمرعبة للحروب، يمثل [اختراق بيانات الأطفال في الحضانة] الكابوس الأسوأ الذي يقض مضجع كل أب وأم. إنه مثال مصغر على غريزتنا البدائية التي تدفعنا، أولاً وقبل كل شيء، إلى حماية أطفالنا من أي أذى. وفي الواقع، ليس إرسال أبنائنا إلى الحضانة سوى امتداد لهذه الغريزة. ولكن ثمة من انتزع من هؤلاء الأهالي هذا الإحساس الأساسي بالأمان.
ومع ذلك، يحمل هذا الانتهاك معه سلسلة من السيناريوهات المفزعة: فالأشخاص الذين يتسللون إلى الزوايا المظلمة والآثمة من "الشبكة المظلمة" (والتي لا يعرف معظمنا أصلاً كيف يصل إليها) أصبحوا يمتلكون إمكانية الاطلاع على معلومات شخصية دقيقة عن طفلك: وجهه، وموقعه، وملاحظات تتعلق بسلامته، فضلاً عن بياناتٍ عن مكان عملك وسكنك وأوقات وجودك في المنزل أو خارجه. وأنا واحدة من كثير من الآباء القَلِقين الذين يختارون تتبّع أبنائهم عبر التطبيقات أو أجهزة التتبّع مثل AirTags [من "آبل"]. وتبدو فكرة أن شخصاً يضمر نوايا خبيثة قد يعرف أماكنهم أيضاً، أمراً مرعباً.
ثم هناك قلق إضافي يتعلق بالأوصياء المعرضين للخطر: نساءٌ فررن من عنفٍ أسري وانقطعن تماماً عن شركاء سابقين عنيفين، لأن مجرد التواصل معهم قد يعرض حياتهن للخطر. فماذا لو ظهرت مواقع أطفالهن – ومواقعهن - أيضاً على "الشبكة المظلمة"؟
أما القراصنة، وكما أعلنوا صراحة، فلا يبدون أي اكتراث. وقد أفادت "بي بي سي" أنه عندما واجهتهم القناة بشأن استخدامهم بيانات بالغة الحساسية عن أطفال لابتزاز إحدى الحضانات، شددوا أنهم "لا يطالبون بمبلغ كبير من المال" وأنهم "يستحقون تعويضاً مالياً عن اختبار الاختراق الذي أجريناه (المقصود بـ "اختبار الاختراق" penetration test العملية التي يُستعان فيها بخبراء في الأمن السيبراني يحاكون، بطريقة خاضعة للرقابة ومهنية تماماً، هجمات القراصنة الخبيثين على أنظمة المؤسسات والشركات بهدف اكتشاف نقاط الضعف الأمنية فيها ومعالجتها، وليس لأي هجوم خبيث أو ابتزاز).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا يمكن وصف استخدام الأطفال وسيلةً لتحقيق مكاسب شخصية إلا بأنه عمل غير أخلاقي، مهما جرى تبريره أو تلطيفه، فهو يظل سلوكاً أنانياً ومشيناً، وانتهاكاً صارخاً للخصوصية.
ومن المفارقات الصارخة أن خبر هذا الاختراق الفادح جاء في اليوم نفسه الذي أعلن فيه حزب العمال عن بدء تطبيق بطاقات الهوية الرقمية، في خطوة يقول كير ستارمر إنها ستُلزم الناس بإثبات حقهم في العمل داخل المملكة المتحدة، بما يُفترض أنه سيحدّ من رحلات المهاجرين غير الشرعيين في القوارب الصغيرة. وفي الوقت ذاته، تبدو هذه الخطوة محاولةً لكسب تأييد فئةٍ من الجمهور غير المتعمق أو غير المبالي بالتفاصيل، ممن يعتقدون أن حزب "ريفورم" [بقيادة نايجل فاراج] يملك الحل لكل مشكلاتهم، بينما تُقدَّم الخطوة في الوقت نفسه كوسيلةٍ لتقليص تراكم طلبات اللجوء.
أكثر ما يثير قلقي ليس وجود سجل بهذه البيانات، بل مدى التزام المسؤولين بحمايتها فعلياً، ومدى استعدادهم لفرض ضوابط صارمة تحول دون الوصول إليها، ومدى جاهزيتهم لمواجهة أي أخطاء أو هجمات محتملة.
وكيف سيمنعون، بأي ثمن، أن تقع هذه المعلومات الحساسة في أيدي أولئك الذين لا يبالون بتعريض أكثر فئات المجتمع ضعفاً – أطفالنا - للخطر على الشبكة المظلمة طمعاً في المال؟ وبالنظر إلى حال العالم كما هو اليوم، لست واثقة أن أحداً يهتم بما يكفي لمنع ذلك من الحدوث. ماذا عنكم؟
© The Independent