ملخص
يروي الباحث أن أشهر الشخصيات السعودية المتصلة بالرحالة الإنجليزية هو مطلق بن بتال المطيري الذي كان رفيقاً لدرب الليدي وساعدها الأيمن، ومرشدها الأول في معرفة سلالات الخيل العربية التي جعلت إسطبلها معروفاً.
مضى وقت طويل على وقع أقدام المغامرة الإنجليزية "الليدي بلنت" في الجزيرة العربية، إلا أن الوفاء الذي استوقف الفيكتورية الأرستقراطية في الزمن القديم لا يزال في ما يبدو حياً يرزق بين ربوع الصحراء والواحات التي شغفتها يومئذ حباً، فقد أحيت "دارة الملك عبدالعزيز" ما اندرس من ذكرى الليدي ليتعرف إليها الجيل الجديد من أحفاد أصدقائها الأقدمين، وممن طاب لها البقاء بينهم حتى بعدما غدر بها رفيق عمرها، و"كأن لم تغن بالأمس".
ولدت آن إيزابيلا نويل (لاحقاً الليدي آن بلنت) كما توثق المصادر الغنية عنها بالعربية والإنجليزية في قلب الريف الإنجليزي عام 1837، حفيدة للشاعر الرومانسي الشهير اللورد بايرون، فورثت منه روح التمرد والشغف بالمجهول، ونشأت في بيئة نخبوية تهتم بالثقافة والفنون، حيث تعلمت الرسم واللغات الأجنبية وركوب الخيل باكراً، لكنها سرعان ما تجاوزت حدود الطبقة الاجتماعية المحافظة، بحثاً عن حرية أعمق، فألهبت خيالها قصص الخيول العربية الأصيلة التي سمعتها خلال أعوامها الأولى، يوم بداية عنفوان إمبراطورية بلادها التي أصبحت سريعاً لا تغيب عنها الشمس، فهي أدركت قبل غيرها أن الجياد ليست مجرد حيوانات، بل رموز للنقاء والنبل والفروسية في نبعها البدوي الأصيل هنالك في الجزيرة العربية، في مضارب عنترة وامرئ القيس وفتيان شمر وعنزة وحرب، وقبائل عربية لم يفسد الأغراب بعد جوهرها المكنون في صدور رجالها وجمال نسائها ونواصي خيلها، كما وثقت عبر يومياتها المحفوظة في مكتبات بريطانيا والأرشيف العربي الممتد.
المؤلف السعودي هشام خالد البتال الذي قرر تقليب صفحات من ذلك الأرشيف في "شخصيات سعودية وخيل عربية في مذكرات الليدي آن بلنت"، استوقفه حجم الهالة التي صورتها السيدة الإنجليزية ورحلتها إلى بلاد العرب حتى سمتها "الحج إلى نجد"، فقرر الإجابة عن بعض تساؤلاته وفضول المولعين بالشخصية الأسطورية عبر "تسليط الضوء على جزء من حياتها وإسطبلاتها ورفاقها والشخصيات السعودية التي قابلتهم من خلال مذكراتها المنشورة وغير المنشورة"، في جهد بحثي مضن لم يكتف فيه الباحث بالرجوع إلى المصادر والنقل عنها، ولكن أيضاً وشحه بالوثائق النادرة عن المغامرة، وقد تضمنت المتوقع والغريب والأكثر غربة، مثل القصائد والأشعار وأخبار المواجهات والمعارك بخط يدها وأيدي تلك الشخصيات التي منحتها مجدها الذي ظل صداه يتردد حتى اليوم، بين رهانات الخيل وأرباب السلالات النادرة.
شخصيات سعودية على الخط
ويروي الباحث أن أشهر الشخصيات السعودية المتصلة بالرحالة الإنجليزية مطلق بن بتال المطيري الذي كان رفيقاً لدرب الليدي وساعدها الأيمن، ومرشدها الأول في معرفة سلالات الخيل العربية التي جعلت إسطبلها معروفاً، فهو أشهر إسطبل خيل في إنجلترا بل وفي العالم، والآخر شخصية زيد بن سعد المطيري، رجل المهمات الصعبة الذي أحضر أجود أنواع الخيل لـ آل بلنت من عمق الصحراء العربية.
لكن الأكثر طرافة في ما دوّن الكتاب هو نشره مقتطفات من مخطوطة عربية من تأليف المغامرة، وهي "كراسة تكتب فيها النوادر من القصص التي دونت في تلك الحقبة"، تضمنت قصصاً وأشعاراً وقصائد لأمثال ابن هذال شيخ عنزة، وابن حميد من شيوخ عتيبة، وابن حميد آخر من شيوخ بني خالد وغيرهم، إضافة إلى إيراد مغامرات الحصول على بعض السلالات النادرة والمحافظة عليها، إلى حد جعل بعض المشكلات الناشئة قضية سياسية واسعة النطاق، استدعت تغطية الصحافة البريطانية.
حدث ذلك حين خرج ضباط بريطانيون في رحلة لصيد الثعالب على الخيل قريباً من القاهرة، لكنهم تجاوزوا إلى أراض وخيل في مزرعة تقع تحت سيطرة آل بلنت"وزوجها، مما دفع حراس الخيل إلى مواجهة أفراد الحامية البريطانية، وكان من أشهر من يتردد عليهم الضابط المعروف في المنطقة بـ"لورنس العرب"، غير أن ذلك لم يثر هيبة الحراس العرب، "فحاصروا البريطانيين واحتشدوا حول النقيب هارمن والملازم روم والعميد يكروفت، وأسقطوا قبعاتهم وضربوهم وخيولهم وأهانوهم إلى أن تراجعوا خارج أسوار الحديقة"، وكان لافتاً أن قائد المجموعة لم يكن سوى السعودي مطلق الذي كان مخلصاً لليدي كما وصفه المؤلف، وموازياً لها في التضحية والمغامرة.
تزوجت آن عام 1869 من الدبلوماسي والشاعر ويليفرد بلنت (1840 - 1922) الذي شاركها حماستها للشرق والاستكشاف، فشكّلا ثنائياً غير تقليدي في المجتمع البريطاني الفيكتوري عبر الجمع بين الشعر والمغامرة، وفي عام 1878 انطلقا في رحلة طموحة إلى المشرق بدءاً من دمشق ومروراً ببادية الشام وشمال الجزيرة العربية وصولاً إلى حائل، عاصمة إمارة الرشيد في نجد، والهدف الأساس اقتناء خيول عربية أصيلة لإحياء سلالتها في أوروبا، مع توثيق الثقافة البدوية كقضية ثقافية وأيقونية.
"أرض لا تعرف الزيف"
ولم تكن الرحلة سهلة، فقد واجهت القافلة رمال الصحراء المتحركة وبرد الليالي القارس وأخطار الغزاة المتنافسين، ومع ذلك وصفت آن الصحراء في مذكراتها بأنها "أرض لا تعرف الزيف، كل شيء فيها صادق حتى الصمت"، كما في كتابها "الحج إلى نجد" الذي يعد وثيقة تاريخية أساسية محفوظة في أرشيف بريطانيا، وقبل الدخول إلى حائل اعتمدت الزي العربي الكامل لتجنب الإحراج الثقافي، وتعلمت كلمات عربية أساسية للتفاعل المباشر مع البدو، مما أكسبها احترامهم لجرأتها واحترامها تقاليدهم، قبل أن تنافس بعد حين سكان الإقليم في فصاحتهم والاهتمام بأشعارهم.
وعند وصولها إلى حائل أواخر عام 1879، استقبلها الأمير محمد بن عبدالله بحفاوة معبراً عن دهشته من امرأة أوروبية تقطع الصحراء بهذه الشجاعة، وقد قدمت له هدايا مثل تليسكوب وبندقية، وكل همها أن ترى الإسطبل الذي يحتفظ به، وهناك أمام عشرات الفحول والإناث الأصيلة، دونت آن ملاحظاتها بدقة علمية قائلة "لقد شكل الرأس المميز وانسياب العنق ولمعان العينين وقوة العظام جمالاً خلاقاً، يعكس فضائل الشعب العربي، فكل فرس منها تحمل روحاً تنظر إليّ كما لو كانت تعرفني منذ زمن"، مشيرة إلى أن الخيل عند البدو "مرآة الإنسان" وترمز إلى البقاء والحرية، وقد أذن لها الأمير بشراء بعض الخيول النادرة مدركاً قيمتها الثقافية، وفقاً لوصفها في فصول كتابها.
في البادية اكتشفت آن جوهر الكرم البدوي والفروسية، مؤكدة "لم أر شعباً يحب خيوله كما يحب أطفاله، بل ربما أكثر مثل العرب، لأنها رمزه للبقاء والحرية"، وهذه الرحلة التي كانت أول عبور أوروبي مكشوف لامرأة إلى نجد، أنتجت خرائط وملاحظات جغرافية دقيقة، مثل قياس ارتفاع هضبة حائل باستخدام الـ "بارومتر"، مما دحض افتراضات سابقة عن المنطقة، وكذلك سجلت تفاصيل بعض سلالات خيل بن سعود وبخاصة حصان "كحيلان" الذي كان يمتلكه عبدالله بن سعود، وفق المصادر غير الرسمية، وهو من سلالة بدوية أصيلة ترمز إلى القوة والسرعة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من يقاوم نظرة "الصقلاوي"؟
وروت أن من الخيل النادرة في نجد تلك الفرس "الصقلاوية العجوز"، فقد كانت من خيل الإمام فيصل بن تركي، والنسل الأخير لهذه الفرس المشهورة كان قد بيع لعباس باشا الذي أرسل من مصر عربة تجرها الثيران لإحضارها، فقد كانت عجوزاً وغير قادرة على السفر سيراً من قلب نجد إلى أرض مصر.
وتشير أمل الحربي إلى أن الليدي وصفت هذه المهرة، والتي تعتبر الممثلة للسلالة الوحيدة الباقية في جزيرة العرب، بأنها "رمادية تبدو عادية للوهلة الأولى، لها أرداف منحنية مترهلة ورأسها عادي لكن أكتافها جميلة، إن هذه الصقلاوية تمتلك شهرة واسعة هنا في نجد، وتعتبر ذات قيمة لكونها الأخيرة في سلالتها".
ووثق المؤلف البتال قصة استحواذ بلنت على "الصقلاوية" ومغامرة مبعوثها في سبيل ذلك زيد المطيري في بادية الشام، وهو الذي قال عن جمالها "إذا قام أي رجل بالنظر إلى وجه الصقلاوي، وحتى لو كان متألماً وحزيناً، فإنه سيشعر بالسعادة".
مع ذلك لم يكن الانسجام الروحي في الشرق مانعاً من التوترات الزوجية المتفاقمة، فبعد عقود أغوت زوجها ويليفرد فكرة "مباحات الشرق"، مستلهماً عادة تعدد الزوجات حين أصر على إدخال عشيقته دوروثي كارلتون إلى المنزل عام 1906 مما أدى إلى انفصال رسمي، فانتهى بتوقيع آن اتفاق تقسيم الممتلكات الذي منحها مزرعة "كريبت بارك" ونصف الخيول، بينما حصل ويليفرد على المزرعة الأخرى، وكتبت في رسالة إلى صديقة تقول "خيولي لا تخون ولا تتكلم إلا بالصدق"، معبرة عن عزائها في الخيول والعرب.
أسست آن بالشراكة مع زوجها أو طليقها لاحقاً "مزرعة كريبت بارك" في ساسكس عام 1878، ثم "مزرعة الشيخ عبيد" التي وقعت فيها المواجهة قرب القاهرة عام 1882، وذلك لتربية الخيول العربية تحت ظروف صحراوية أفضل للحفاظ على ظروفها، وحرصت على توثيق الأنساب بدقة مما جعلها رائدة في السجلات العلمية الغربية للسلالة العربية التي حصلت عليها من القبائل البدوية والحضرية في نجد وبادية الشام، وانتشرت بفضلها لاحقاً في أوروبا وأميركا، إذ يعود أكثر من 90 في المئة من الخيول العربية الحديثة لدماء كريبت بارك، بحسب المصادر المفتوحة.
علاقة حب من نوع آخر مع أمير روسي
لم يكن هذا نهاية المفاجآت في رحلة بلنت، ففي الشرق كذلك التقت الأمير الروسي ألكسندر غورياتش شيرباتوف، فنشأت من حبهما المشترك للخيول العربية علاقة وطيدة، فقد التقيا خلال زياراتهما إلى المنطقة في أواخر القرن الـ19، وتبادلا الخبرات حول تربية السلالات الأصيلة، وكانت العلاقة فكرية بحتة، متجذرة في الشغف المشترك بالحفاظ على نقاء السلالة العربية، من دون أي تلميح إلى بعد عاطفي أو جنسي، بحسب ما يتضح من يومياتها الشخصية التي تذكر زيارة جماعية له مع زوجته في الـ24 من فبراير (شباط) 1902 إلى مزرعة "الشيخ عبيد"، حيث ركز الاجتماع على عرض الإناث ومناقشة التربية لساعتين فقط، لكن آثار تطور تلك العلاقة بدت أكثر في تعاون الثنائي في إصدار كتاب "الحصان العربي الأصيل" الذي نشر كفصل من كتاب "الدارة" بالعربية كاملاً، وهو الذي كتبه شيرباتوف وضمّنه تجارب بلنت في اقتناء الخيول من نجد وبادية الشام، وفق المصادر الإنجليزية.
وفي الكتاب يُبرز شيرباتوف إعجابه بها قائلاً "عمل الليدي آن بلنت في الحفاظ على سلالة الحصان العربي لا مثيل له، فمزرعة كريبت بارك أدخلت إلى الغرب الحصان البدوي الحقيقي بتحمله وروحه النبيلة"، مشدداً على دورها كـ "منارة للمربين مثلنا" من خلال سجلاتها الدقيقة، كما يصف تعاونهما كـ "رابطة بين نيران الصحراء" من خلال المراسلات والرحلات المشتركة التي تناولت فهمهم الأنساب.
وأصبح هذا العمل لاحقاً مرجعاً أساساً لعشاق الخيول في أوروبا الشرقية، حيث استخدم شيرباتوف سلالات من كريبت بارك لتحسين مزرعته في روسيا، وتقول "الدارة" التي تعد بمثابة الأرشيف الوطني السعودي، إن النص الذي نشرته للكتاب بالعربية هو الأول من نوعه، إذ لم ينشر قبل ذلك باللغة العربية على رغم تصنيفه مرجعاً أولياً من جهة الاهتمام الغربي بالخيل العربية وأنسابها وأنواعها ومناطق عيشها وطباعها.
لم تعد آن ترى إنجلترا وطنها الوحيد وقد قالت "هنا وجدت ما يشبهني، حياة بلا أقنعة، وخيلاً بلا خيانة"، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى استقرت في مصر مستمرة في عملها حتى وفاتها في الـ 15 من ديسمبر (كانون الأول) 1917، ويومياتها عن نجد تجعلك تعذرها في اختيار مرقدها بين العرب، فقد كتبت الليدي بقلم المتيم عن مشاهد مذهلة عن الصحراء والبدو، رأت فيها الشرق بعين مفتونة غير عادية، وتقول "في خيال البدو الشماليين كانت نجد أرض أساطير متوحشة، مهد أصلهم وروحهم، حيث تعيش أفكار الفروسية كنبع أبدي يسقي العصر كله"، وتصف رحلتها إلى جبل شمر بأنها "حج إلى جوهر البداوة الأولى، حيث الحرية تنقي العقل من وجع المستقبل والماضي وكأنها رياح تحمل القلب إلى سكينة الفضاء الواسع".
شبهت الليدي آن الصحراء بالبحر في أسرارها وتناقضها، وكتبت أن "الصحراء تشبه البحر في أسرارها المتعددة، آمنة بعيداً من الساحل، بينما تترصد الأخطار على الحافة كظلال خادعة"، ودونت مشهد الليل الصحراوي قائلة "هو صوت غريب الأسرار، حزن يتدفق عند تأخر القمر مختلطاً بضوء الفجر الباهت كحلم متعب"، وكذلك وصفت منظر الحرة بأنه "مذهل بتلاله المكسورة ووديانه السوداء أمام سماء صباحية صفراء كلوحة من أسود وذهب".
وفي نظرتها إلى العرب رأت أن نقاء العرق لا يقاس بالمظاهر، فقالت "ليس من خطأ أكبر من وهم أن العرب الحقيقيين يحملون بشرة فاتحة أو شعراً أحمر، فالبشرة الفاتحة في الصحراء دليل على اختلاط الأعراق، كما في نقاء دم الخيل الأصيلة"، وأُعجبت بسجايا البدو فكتبت "الغضب نادر عندهم كالمطر في القفر"، أما رمال النفود فأسرتها بلونها القرمزي فأضافت، "ليست بيضاء ككثبان المساء ولا صفراء كرمال مصر، بل حمراء مشرقة بندى الفجر البارد".
وقد برهنت على صدقية مشاعرها تلك يوم أوصت بأن تدفن في أرض الشرق الذي اختارته موقعاً أبدياً لرفاتها رافضة العودة لبريطانيا، حيث تركت إرثاً ممتداً لابنتها جوديث مما أدى إلى نزاع قضائي نجح عام 1920 في توحيد المزرعة، وقد اختلف المؤرخون البريطانيون في تفسير مسيرتها، فهل كانت ضحية خيانة زوجية أم أسيرة سحر الشرق؟ لكن الثابت أنها خلدت اسمها في كل مربط عربي أصيل، وفي كل صهيل يعيد إلى الأفق وعدها الأول بـ "الحرية حتى آخر نفس بين الرمال"، كما توحي مذكراتها المعبرة عن شخصيتها العنيدة.