ملخص
عند وصول متقي إلى نيودلهي في الـ10 من سبتمبر (أيلول)، أثارت زيارته جدلاً واسعاً، خصوصاً بعد عقد مؤتمر صحافي حضره صحافيون ذكور فحسب، مما أضفى أبعاداً درامية على الحدث.
فتحت زيارة وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي، غير المسبوقة لإجراء محادثات تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع نيودلهي، نافذة جديدة في مسار العلاقات بين البلدين. وتأتي الزيارة في إطار جهود حركة "طالبان" الحاكمة في أفغانستان للحصول على مزيد من الاعتراف الدولي، في وقت تجد نيودلهي نفسها عند مفترق طرق دبلوماسي، بينما تتبلور أولوياتها لتعزيز التعاون مع أفغانستان بشكل أوضح، وأكد متخصصون في العلاقات الإقليمية الآسيوية أن هذه الزيارة تمثل أعلى مستوى من التواصل بين أفغانستان والهند منذ تولي "طالبان" السلطة عام 2021، مع التركيز على الملفات الدبلوماسية والتجارية والاقتصادية.
عند وصول متقي إلى نيودلهي في الـ10 من سبتمبر (أيلول) أثارت زيارته جدلاً واسعاً، خصوصاً بعد عقد مؤتمر صحافي حضره صحافيون ذكور فحسب، مما أضفى أبعاداً درامية على الحدث. وفي اليوم التالي توجه الوزير إلى مدينة ديوبند في ولاية أوتار براديش، موطن المعهد الإسلامي الشهير "دار العلوم". وأوضح متقي أن له علاقة أكاديمية بالمعهد، الذي كثيراً ما كان محل جدل سياسي في الهند، واستهدفته الحكومة الحاكمة بسبب تعاليمه الدينية، ويتهم أحياناً بأنه مصدر الفكر الأيديولوجي لحركة "طالبان"، مع الإشارة إلى أن زعيم "طالبان" السابق الملا عمر درس فيه، وهو ما لم يؤكده المعهد.
وشهدت الزيارة تحولات ملحوظة، ففي أعقاب الجدل حول استبعاد الصحافيات، عقد متقي مؤتمراً صحافياً آخر في السفارة الأفغانية في نيودلهي، حيث جلست الصحافيات المستاءات في الصفوف الأمامية، وطرحن أسئلة دقيقة تناولت غالباً سياسات "طالبان" الدينية، وأجاب متقي بجدية ومن دون تردد.
كذلك شهدت القاعة لحظة رمزية بارزة حين دخل عضوان من وفد "طالبان" حاملين علماً أبيض، هو العلم التقليدي لـ"إمارة أفغانستان الإسلامية"، مكتوباً عليه "لا إله إلا الله"، ووضع خلف مقعد وزير الخارجية أمير خان متقي. وكان العلم السابق للسفارة يرفع علم الحكومة الأفغانية السابقة المعترف بها رسمياً من الهند، كما أزيلت المنصة الخشبية التي تحمل شعار "جمهورية أفغانستان الإسلامية". ومن خلال هذه الخطوة الرمزية أرسلت الحكومة الجديدة رسالة واضحة تؤكد وجودها وسيطرتها، وأشار متقي إلى العلم قائلاً "لقد كافحنا تحت هذا العلم ونجحنا، كل ما ترونه هنا الآن تحت سيطرتنا الكاملة".
بعد سيطرة "طالبان" بموافقة نيودلهي أبلغ بعض الموظفين عن شعورهم بالخوف، حين صرح أحدهم خلال المؤتمر الصحافي "الآن أصبح ممثلو لـ’طالبان‘ هم الممثلين الحقيقيين للسفارة. سابقاً كان لنا مكاننا في أفغانستان، لكن الآن، حتى لو أعادتنا الحكومة الهندية، فإلى أين سنذهب؟".
إصلاح العلاقة أم الاعتراف؟
حتى الآن، لم تعترف بحكومة "طالبان" دولياً سوى روسيا، بينما تبقى دول العالم الأخرى حذرة، ويؤكد القانون الدولي أن الاعتراف بالحكومة ليس مجرد خطوة سياسية، بل إجراء قانوني. ويشير ستيفن تالمون في كتابه "الاعتراف بالحكومات في القانون الدولي" إلى طريقتين هما: الاعتراف الصريح عبر إعلان رسمي، والاعتراف الضمني من خلال إجراءات واضحة مثل توقيع الاتفاقات والاعتراف بالسفراء أو إنشاء السفارات.
وحتى الآن، تمثل إجراءات الهند، بإعادة فتح السفارة، وعقد الاجتماعات على المستوى الوزاري، وتنظيم زيارات متقي، مظاهر اعتراف ضمني، وعلى رغم إصرار نيودلهي على عدم اعترافها بـ"طالبان" رسمياً، واعتبار تعاملها موجهاً للشعب الأفغاني، فإن هذه التفاعلات، عند امتدادها إلى الشؤون الثنائية والمساعدات ومشاريع التنمية، تتجاوز مجرد التواصل التقليدي، وتشير بوضوح إلى أن الهند تتجه بخطى متسارعة نحو الاعتراف الضمني بحكومة "طالبان".
صرح مؤسس ومدير مجلس البحوث الاستراتيجية والدفاعية، هابيمون جاكوب، لـ"اندبندنت عربية" بأن "الهند تعترف بالسيطرة العملية لـ’طالبان‘، لكنها لا تعترف بشرعيتها السياسية أو الأخلاقية، وتتعاون الهند مع لـ’طالبان‘ في كابول في مشاريع المساعدات والأمن والتنمية، لكنها تتجنب أي كلمة أو فعل دبلوماسي من شأنه أن يقر الاعتراف الرسمي"، وأضاف جاكوب "إذا نظرنا إلى البروتوكول الدبلوماسي فعادة ما نرى علمي الدولة الزائرة والدولة المستضيفة خلال الزيارات الرسمية، لكن في زيارة متقي لم يكن الأمر كذلك"، ويظهر هذا التفاعل المدروس بعناية أن الهند توازن بين الدبلوماسية العملية والاعتراف الرسمي، مع ضمان حماية مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والتنموية في أفغانستان، مما يعكس سياسة دقيقة تحاول من خلالها نيودلهي المحافظة على تأثيرها الإقليمي من دون الانزلاق إلى اعتراف رسمي بحكومة "طالبان".
يعلق الكاتب والمحلل السياسي كالول بهاتاشاريا بأن "إعلان نيودلهي إعادة فتح السفارة الهندية في كابول لم يكن مفاجئاً، بل متوقع، إلا أن اللافت للنظر حقاً هو تفضيل ’طالبان‘ للهند على باكستان، فبعد أعوام قليلة من توليها السلطة تدهورت علاقات ’طالبان‘ مع باكستان بصورة حادة، بينما تحسنت علاقاتها مع الهند تدريجاً"، وأضاف أن "تصريحات الجانب الهندي، مثل تلك الصادرة عن وزير الخارجية س جايشانكار، لا تحمل أي إشارة صريحة إلى اعتراف الهند بحكومة ’طالبان‘، فقد قال جايشانكار: ’التعاون الوثيق بيننا لن يفيد التنمية الوطنية إلى أفغانستان فحسب، بل سيسهم أيضاً في الاستقرار الإقليمي‘"، وأكد احترام سيادة أفغانستان وسلامة أراضيها واستقلالها.
بالاستناد إلى مناقشات في الأوساط الدبلوماسية، أشار كالول إلى أن "هذه الزيارة تأتي في وقت تتدهور العلاقات الهندية - الباكستانية، بينما تتصاعد التوترات بين ’طالبان‘ وباكستان"، ويرى متخصصون أن هذا الوضع يمنح "طالبان" فرصة لتقليل اعتمادها على إسلام آباد وإبراز هويتها المستقلة.
ويوضح هارش ف بانت وشيفام شيخاوات، من مؤسسة "أوبزرفر" للأبحاث، أن "تدهور العلاقات مع باكستان يتيح لـ’طالبان‘ إظهار أن بقاءها لم يعد مرتبطاً بإسلام آباد فقط"، ويضيفان أن توثيق العلاقات مع الهند يعزز شرعية "طالبان" الداخلية، ويرى المحلل براهما تشيلاني أن "هذه الزيارة تمثل ضربة لباكستان وخطوة نحو القبول الدولي التدريجي لحكومة ’طالبان‘".
ديناميكيات ما بعد 2021
بعد سيطرة "طالبان" على كابول عام 2021 أغلقت الهند سفارتها وأربع قنصليات، وألغت تأشيرات الطلاب والمرضى والتجار والمسؤولين السابقين الأفغان، وقد تأثر عدد كبير من الأفغان المقيمين في الهند، الذين اعتبروا تقليدياً جيراناً ودودين. في غضون عام استعادت الهند وجودها الدبلوماسي وأرسلت في يونيو (حزيران) 2022 "فريقاً فنياً" إلى كابول لمتابعة توزيع المساعدات الإنسانية، تلا ذلك إصدار تأشيرات لمسؤولي "طالبان" وعائلاتهم، مما أسهم في تعزيز الثقة. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي سمحت الهند لـ"طالبان" بتعيين ممثل لهم في نيودلهي وفتح قنصليتين في مومباي وحيدر أباد، وعلى مدى الأعوام الثلاثة الماضية عقدت اجتماعات رفيعة المستوى، بما في ذلك لقاء يناير (كانون الثاني) الماضي في دبي بين أمير خان متقي وسكرتير الخارجية الهندية فيكرام ميسري.
قبل عام 2021 شهدت أفغانستان صراعات عدة، وظلت مركزاً لمنافسة النفوذ بين الهند وباكستان، اعتبرت الهند "طالبان" وكيلاً لباكستان، ودعمت التحالفات المناهضة لها مع روسيا وإيران في التسعينيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن الوضع تغير الآن، إذ تدهورت العلاقات بين باكستان و"طالبان" إلى حد وصف وزراء إسلام آباد أفغانستان بأنها "دولة معادية". وترى وزارة الخارجية الهندية أن الحفاظ على علاقات قوية مع "طالبان" أساس لحماية المصالح الوطنية، خصوصاً في مراقبة أنشطة "داعش" و"القاعدة" والجماعات المسلحة المعادية للهند، بحسب ما أشار كالول.
وأكدت "طالبان" للهند أن الأراضي الأفغانية لن تستخدم لشن هجمات إرهابية ضدها، وهو وعد كرره متقي خلال زيارته الأخيرة، وقد أيد العالم البارز من ديوبند، أرشد مدني، هذا التأكيد واعتبر التزام متقي جديراً بالثقة.
بصورة عامة حافظت "طالبان" على موقف إيجابي تجاه الهند، وبينما يبقى اختطاف طائرة IC-814 عام 1999 وصمة تاريخية، يشير مراقبون هنود إلى أن وكالة الاستخبارات الباكستانية (ISI) نفذته إلى حد كبير، ومنذ تولي "طالبان" السلطة في 2021 أكدت مراراً أن قضية كشمير ثنائية بين الهند وباكستان، متماشية مع موقف الهند.
السياسة الداخلية الهندية
أصبحت حكومة "طالبان" أداة في الخطاب السياسي الداخلي للحزب الحاكم في الهند - بهاراتيا جاناتا (BJP) - ويشير النقاد إلى أن الحزب غالباً ما يصور المسلمين الهنود كداعمين لـ"طالبان" لتعزيز أجندته السياسية. وبعد عودة "طالبان" إلى السلطة بدأت تظهر تقارير عن مضايقات ضد المواطنين المسلمين في الولايات التي يحكمها الحزب، ففي الـ21 من أغسطس (آب) 2021 اعتقل 15 شخصاً في يوم واحد. ووفقاً لصحيفة "إندين إكسبريس" كان من بين المعتقلين في 10 مقاطعات بولاية آسام خريج ماجستير إدارة أعمال ومعلم وجندي، وواجه جميعهم تهماً بموجب قانون منع الأنشطة غير القانونية (UAPA) تتعلق بنشر رسائل مؤيدة لـ"طالبان" على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي ولاية ماديا براديش اعتقل ستة شباب مسلمين في الـ20 من أغسطس 2021 بتهمة ترديد شعارات مؤيدة لـ"طالبان"، ووجهت إليهم تهمة إثارة الفتنة، أما ولاية أوتار براديش، التي يشغل فيها يوغي أديتياناث منصب رئيس الوزراء، فقد شهدت تصاعداً في الاعتداءات ضد المواطنين المسلمين في الفترة الماضية، وكانت أيضاً الولاية التي زارها وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي، ولم تقتصر إجراءات حكومة الولاية على تأمين الزيارة فحسب، بل أبدت أيضاً موافقتها على زيارة وزير الخارجية الأفغاني إلى تاج محل.
ومن اللافت أن تعامل الهند مع "طالبان" أصبح يشكل تحدياً سياسياً للحزب الحاكم، إذ انتقد المؤيدون المتشددون استقبال زعيم "طالبان"، مسلطين الضوء على التوتر بين براغماتية السياسة الخارجية واعتبارات السياسة الداخلية.
تخفيف التداعيات السياسية
بعيداً من السياسة الداخلية تنظر نيودلهي إلى المنطقة من منظور استراتيجي، يصرح المحلل قمر آغا في حديث إلى "اندبندنت عربية" بأن "هذه الالتزامات الجديدة لا تهدف إلى بناء علاقات جديدة بقدر ما تهدف إلى استعادة العلاقات القديمة التي ضعفت مع عودة ’طالبان‘، لقد استثمرت الهند بكثافة في أفغانستان على مدى ما يقارب عقدين، بما في ذلك تدريب الجنود الأفغان وتوفير المنح الدراسية وبناء البرلمان في كابول".
وقال مسؤول كبير في وزارة الخارجية الهندية "إن وجودنا في أفغانستان واسع النطاق: طرق رئيسة وسدود وخطوط كهرباء ومحطات فرعية ومدارس ومستشفيات، وقد عززت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين الهند وأفغانستان عام 2011 دور الهند في إعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات الأفغانية"، وعلى عكس الدول المانحة الأخرى التي تعثرت مشاريعها أو غرقت في السياسة أكملت الهند مبادراتها، وتقدر مساعداتها التنموية لأفغانستان بأكثر من 3 مليارات دولار.
وتظل التجارة الثنائية مهمة، إذ تجاوزت 1.3 مليار دولار في 2019-2020، مع نحو 900 مليون دولار من الصادرات الهندية و500 مليون دولار من أفغانستان. وتشمل المشاريع الرئيسة سد سلمى والطريق السريع زارانج- دلارام بطول 218 كيلومتراً، الذي أنجزته منظمة الطرق الحدودية الهندية، وقدمت الهند أيضاً حافلات وحافلات صغيرة ومركبات خدمية وعسكرية وسيارات إسعاف للمستشفيات، فضلاً عن أثاث مدرسي وألواح شمسية للقرى النائية، ومرافق صرف صحي في كابول، وعززت مبادرات بناء القدرات حضور الهند عبر مراكز التدريب الفني والمنح الدراسية وبرامج التوجيه في الخدمة المدنية والتدريب الطبي.
هناك أيضاً مشاريع جارية، منها اتفاقية بناء سد شاهدوت المعلن عنها في مؤتمر جنيف 2020 لتوفير مياه نظيفة لمليوني شخص، إلى جانب نحو 100 مشروع تنموي مجتمعي بقيمة 8 ملايين دولار، وتعتبر "طالبان" هذه المشاريع استراتيجية، وفقاً لقمر آغا، وبينما تستفيد أفغانستان من هذه الالتزامات فإنها تحمل أهمية استراتيجية بالغة للهند في ظل السياق الإقليمي مع باكستان.
ما الجديد؟
يمثل البيان المشترك الصادر عن الهند وأفغانستان في الـ10 من أكتوبر (تشرين الأول) 2025 فصلاً جديداً في العلاقات الثنائية، وبموجب البند الثالث "اتفق الجانبان على أن الهند ستعزز تعاونها التنموي، لا سيما في مجالات الصحة والبنية التحتية العامة وبناء القدرات، وكإجراء خاص قدمت الهند 20 سيارة إسعاف للشعب الأفغاني".
ويستعرض البيان أيضاً البرامج الإنسانية الهندية في أفغانستان، بما في ذلك الغذاء ومواد الدعم الاجتماعي واللوازم المدرسية ومعدات الإغاثة من الكوارث والمبيدات الحشرية، وأكدت الهند التزامها مواصلة أنشطة الإغاثة، بينما أشاد وزير الخارجية الأفغاني بالمساعدة الشاملة والسخية التي تقدمها الهند، بما في ذلك دعم اللاجئين الأفغان الذين تمت إعادتهم قسراً.
كما دعا الجانب الأفغاني الشركات الهندية للاستثمار في قطاع التعدين، مما يعزز العلاقات التجارية والاقتصادية الثنائية، ووفقاً لكالول بهاتا شاريا "تشير هذه الشراكات الدبلوماسية الجديدة إلى أنه في المستقبل القريب لن تشكل ’طالبان‘ عقبة ظاهرة في العلاقات الهندية - الأفغانية، ومن المرجح أن تتعمق العلاقات بين البلدين أكثر".