ملخص
يتخذ هذا الكتاب من دينيس ديدرو (1713- 1784) وفلسفته، نقطة وصل لربط الشحصيات والأحداث والتفاصيل التي ترسم صورة مكتملة لقرن كامل من الفكر والثقافة والأدب في التاريخ الأوروبي الحديث، في سياق مشروع يتناول أساساً التراث الأدبي والثقافي الممهد للثورة الفرنسية.
يرسم المفكر الإنجليزي جون مورلي (1838 – 1923) في كتابه "دينيس ديدرو والحركة الموسوعية"، صورة دقيقة لحال الأديب والمفكر في أوروبا القرن الـ18، عموماً، وفي فرنسا ما قبل الثورة بصفة خاصة، بحسب مقدمة مدرس الفلسفة في كلية الآداب – جامعة القاهرة كرم عباس، لترجمته لهذا الكتاب إلى اللغة العربية (المركز القومي للترجمة القاهرة – 2025). فهو يبين كيف أنه كان يعاني من البؤس والشقاء واضطهاد رجال الدين وملاحقة رجال الشرطة، عبر رسم صورة دقيقة للمجتمع الفرنسي في تلك المرحلة، مع التركيز على دينيس ديدرو: تعليمه اليسوعي المبكر، وانشقاقه، وتسكعه في شوارع باريس، ودوائره الثقافية وأزمات النشر وزواجه التعيس، وعلاقاته العاطفية واعتقاله ومواقفه الفكرية والإنسانية مع فولتير وروسو ودي لمبير وهولباخ وغيرهم، ودوره في "الحركة الموسوعية" التي جمعت نخبة من المفكرين والعلماء والفلاسفة لغرض كتابة مقالات ودراسات في شتى جوانب المعارف البشرية.
ملابسات التحول
يشرح الكتاب الذي صدر بالإنجليزية عام 1897، "ملابسات التحول من الثقافة المدرسية القديمة إلى حالة الحداثة والعقلانية، وكيف تم الانتقال في الفلسفة والأدب من التركيز على المشكلات التجريدية النظرية إلى المشكلات الواقعية، وكيف حلت صورة المثقف المهموم بمشكلات مجتمعه محل الصورة التقليدية لرجل اللاهوت المنخرط في مشكلاته النظرية المجرَّدة، وكيف أن فساد رجال الدين وانتشار ممارساتهم الضالة كان كفيلاً بإثارة استياء الناس على نطاق واسع.
ولعل هذا ما جعل الساحة الشعبية مفتوحة أم الأفكار الفلسفية الثورية، بحسب ما ورد في مقدمة المترجم. وكما جاء في تصدير المؤلف، وهو مفكر سياسي اشتهر بأنه "آخر الليبراليين العظماء"، فإن هذا الكتاب يختتم سلسلة دراسات حول التراث الأدبي والثقافي الممهد للثورة الفرنسية، وهو على عكس المجلديْن السابقين- أحدهما عن فولتير والآخر عن روسو – لأنه يعتمد على المنهج الوصفي في المقام الأول، إذ يتجاوز ذكر النصوص أو تحليلها، بما أن القارئ المثقف لديه بعض المعرفة بشكل أو بآخر عن فولتير وروسو، أما بالنسبة إلى ديدرو ودائرته، "فلا نفترض أن هذه المعرفة موجودة أو كافية، لذلك رأيتُ هنا أن أستطرد بشكل موسع وتفصيلي قدر الإمكان في طرح الأفكار والمبادئ التي وجدتْ لنفسها رحابة لدى الناس عشية الثورة الفرنسية بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة آنذاك".
مع فولتير وروسو
واتكأ المؤلف على نسخة أعمال ديدرو التي صدرت في 30 مجلداً، والتي قام بتحريرها كل من أسيزات وموريس تورنيه. كما اتكأ على كتاب "حياة ديدرو" لروزنكرانز المنشور عام 1866. ورأى مورلي أن أن روسو كان مدفوعاً بالعاطفة والمشاعر، وفولتير كان سيد العقلانية اللامعة والفذة، "أما ديدرو فهو وحده من بين هذا الثالوث الشهير، الذي كان يحمل في ذهنه فكرة عن المنهج العلمي، وهو الوحيد الذي أظهر شعوراً تجاه عقيدة معينة، وبمفاهيم عضوية وتكوينية واسعة النطاق" ص 21.
ورغم أنه كان أقل موهبة من فولتير وروسو، في قدرته على التعبير الأدبي، "فإنه كان متفوقاً عليهما في اتساع وواقعية المبدأ الفني"، فقد أسس لمرسة طبيعية واقعية وجدانية في النقد الأدبي، وكان يأمل في فرض أشكال جديدة من الدراما، سواء في الإبداع التخيلي، أو في النقد، "فقد كان يعمل على استدعاء الأنماط الفنية للمدرسة الكلاسيكية داخل وقائع الحياة العامة". وتوحدت روحه تلك مع ميْل فلسفته إلى وضعه بين قلائل كانوا متأملين عظماء وحقيقيين للطبيعة الإنسانية والوجود البشري، ل"كونه عبقرياً فريداً وفعالاً لا بد أن يثير اهتمامنا حتى بعيداً عن المكانة التي يحتلها في تاريخ الأدب والرأي".
تلي الفصل الأول الذي شمل ذلك التمهيد، سبعة فصول: مرحلة الشباب، المؤلفات المبكرة، الفلسفة الجديدة، الموسوعة، الحياة الاجتماعية،المسرح، و"ابن أخي رامو". وهذا العمل؛ "ابن أخي رامو"، يعتبره مورلي من أكثر أعمال ديدرو تميزاً، لتناوله موضوعاً شديد الأهمية في سياق الحياة الفكرية في باريس خلال القرن الـ 18، "يتعلق بالنقاشات الحادة والمشاعر القوية التي تدور حول الموسيقى مثلها مثل النقاشات التي تدور حول اللاهوت والفلسفة".
هزلية تراجيدية
وبحسب جون مورلي، فإن هذا العمل جاء على خلفية صراع نشب بين أنصار الموسيقى الفرنسية من جانب، وأنصار الموسيقى الإيطالية من جانب آخر، ومن ثم يجب النظر إليه "بأكثر من كونه مجرد تسلية أدبية". ولاحظ مورلي في هذا الصدد أن النقاد اختلفوا في تحديد موضوع أو هدف "الهزلية التراجيدية الوحيدة" لديدرو. يرى البعض أنها مجرد صورة ساخرة من عادات المجتمع المعاصر. ويصر آخرون على أنها تهدف إلى أن تكون سخرية لاذعة من نظرية المصلحة الذاتية، من خلال عرض مثال ملموس على عملها بكل قبحه. ويعتقد تفسير ثالث أنه كان رداً على مسرحية باليزيو الكوميدية "الفلاسفة" والتي سخرت من الشخصيات البارزة في عصر التنوير وصوذضرتهم أعداءً للبشرية.
ويشتبه تفسير رابع في أن الأجزاء الشخصية والدرامية؛ "ليست سوى خلفية لمناقشة المقارنات بين المدرستين الفرنسية والإيطالية للموسيقى". والحقيقة – يقول مورلي – هي أن تلك المحاورة "ليست أكثر ولا أقل من صورة حية ووصف لشخصية أصلية، رسمها رجل عبقري اعتاد على مراقبة الطبيعة البشرية والمجتمع بنظرة حرة صريحة، والتأمل فيهما بعمق وتدقيق" ص 209. ويرى مورلي أن ديدرو تعامل مع "رامو" كما تعامل شكسبير مع "فالستاف"؛ "إنه الفنان الذي يعيد إنتاج شخصية غريبة الأطوار أسرت خياله وأشعلت شرارته الإبداعية".
فضل فرنسيس بيكون
أما أصل الفضل في موسوعة ديدرو ودي لمبير، فهو كما يرى مورلي ما طرحه فرنسيس بيكون عن التصنيف المنهجي للمعرفة، "ففكرة بيكون هذه هي التي ألهمت ديدرو ووجهته". تم الإعلان عن "الموسوعة" في 1750 في النشرة التمهيدية التي كتبها ديدرو بنفسه. وبنهاية عام 1751 كان المجلد الأول في متناول الجمهور، ثم تبعه المجلد الثاني في يناير / كانون الثاني 1752، "وسرعان ما أدرك رجال الدين مدى خطورة المشروع وأسلحته التي تتصاعد في مواجهة معسكرهم" ص 95. كان اليسوعيون يشعرون بالغيرة دائماً من مشروع لم تتم دعوتهم للمشاركة فيه، وسارعت الأرثوذكسية إلى تحريك كل آليات حليفتها: السلطة الزمنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انتظر ديدرو مصيراً غريباً في محنته، فقد أُجبر على تسليم كل أوراقه ومسوداته للسلطات، وظنت عصبة اليسوعيين أنه بانتزاع مواد المجلدات القادمة، يمكنهم بسهولة تشويهها وتوجيهها لخدمة أغراضهم الضيقة، لكنهم لم يستطيعوا فك شفراتها فاضطرت الحكومة في مايو / أيار إلى اللجوء لديدرو ودي لمبير لاستئناف العمل الذي أثبت أعداؤهما عجزهم عن إنجازه. تواصل صدور الموسوعة حتى المجلد السابع وبلغ عدد المشاركين فيها نحو أربعة آلاف واجهوا مؤسسة منظمة لها محاكم خاصة وامتيازات مادية وسجون وقيود تحت تصرفها. ويقول مورلي في هذا الصدد: "يجب أن نفهم أن الدين الرسمي في هذا العصر كان مزيجاً غريباً بين الانهيار البيزنطي والوحشية المتعصبة التي اتسم بها العمل المقدس" ص 101. في مارس / أزار 1759 أصدر مجلس الدولة مرسوماً يقضي بحظر المجلدات السبعة الكطبوعة بالفعل، وحظر طباعة أي مجلدات أخرى في المستقبل، ومع ذلك لم تتوقف عملية الطباعة ولو لمدة أسبوع واحد".
تصادُم فكرتيْن
فالمرسوم الذي صدر ضد الموسوعة يمثل لحظة مركزية لتصادم فكرتين حول تكوين المؤسسات والسيطرة عليه: الفكرة الأولى تتلخص في استبعاد السلطة السياسية في مجال ووظيفة توجيه الرأي العام؛ وهي تعني ضمنياً العلمانية المطلقة للحكومة. الفكرة الأخرى كانت تقوم على أن للجكومات الحق في أن توجه الفكر وتنظم التعبير عنه. وقد عمل اليسوعيون على أساس هذه النظرية ولجأوا إلى القوة القمعية والذراع العلمانية كلما سنحت لهم الفرصة. أما اليانسيون فقد رفضوا هذا المبدأ، ولكنهم كانوا يمارسونه كلما واتتهم الفرصة.
وهذا إلى جانب عدم الرضت عن الأمور المالية لدى ناشري الموسوعة، دفع لمبير إلى اتخاذ قرار بالتخلي عن هذا العمل الملعون دفعة واحدة وإلى الأبد"؛ بحسب ما ورد في إحدى رسائله لفولتير. ًوكاد ديدرو أن يفعل الشيء نفسه، لولا أن فولتير نجح في إقناعه بالعودة إلى "الموسوعة". وبناء على هذا وقع عبء إدارة المشروع على ديدرو وحده لمدة سبع سنوات، "فلم يكن عليه أن يكتب مقالات عن أكثر الموضوعات إرهاقاً وتنوعاً فحسب، بل كان عليه أيضاً أن يوزع الموضوعات بين المؤلفين وأن يحرر مخطوطاتهم ويصحح المسودات وأن يشرف على إعداد الرسومات وأن يكتب النص الذي يشرحها"، وسط مخاوف من أن تصدر الحكومة أمراً باعتقاله. لكن لو بريتون استولى على متن عشر مجلدات كان يفترض أن يضمها إصدار واحد، عام 1765، وشرع في تقليص وحذف وقمع كل فقرة أو سطر أو عبارة بدت له أنها قد تثير غضب الحكومة، ثم دفع بالعمل إلى المطبعة بعد أن أحرق جميع المخطوطات والمسودات الأصلية.