Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيروت بلا عناوين... الأرقام ضاعت و"أبو عفيف" يتكفل بإرشادنا

أمشي في أزقة العاصمة كما لو أنني أفتش عن ذاكرتها، أرفع الكاميرا نحو لوحات نيلية بهت لونها على واجهات الحجر... مدينة تشبه دفتراً قديماً نسيه الزمن في درج مكسور

مدينة بيروت لم تعرف نظام أسماء الشوارع باكراً، إذ لم تكن هناك في العهد العثماني أسماء واضحة للشوارع (صورة مصممة عبر الذكاء الاصطناعي)

ملخص

يؤكد متخصصون في التاريخ الحضري والتنظيم المدني أن العاصمة اللبنانية ما زالت تدفع ثمن غياب التخطيط المتكامل، بعدما تحول نظام ترقيم الأبنية من نموذج منظم في ثلاثينيات القرن الماضي إلى فوضى رقمية اليوم. ويرى المتخصصون أن تحديث نظام المعلومات الجغرافية وإطلاق قاعدة بيانات موحدة باتا شرطين أساسيين لإدارة المدينة ومواكبة مفاهيم "المدن الذكية"، مؤكدين أن بيروت في حاجة إلى إرادة بلدية فاعلة تعيد رسم خريطتها على أسس علمية حديثة.

أصور الرقم "17" وقد غطاه غبار السنين، ألتقط لوحة أخرى محيت ملامحها، فلا يبقى إلا الدكان، رائحة البن تقودني إليه، صاحب المكان يعرف الزبائن بأسمائهم، لا بعناوينهم، هنا "الزاوية" تعرف باسم صاحبها لا بالرقم المعلق فوقها، وحين أطلب "ديليفري" لا أقول للسائق "المبنى رقم كذا"، بل "عند الدكانجي أبو عفيف"، لأن بيروت، على رغم مرور قرن على الحداثة، لم تتعلم بعد لغة الأرقام، لا نظام موحد ولا رمز بريدي ولا خريطة تليق بعاصمة كانت تدعى يوماً "سويسرا الشرق".

فالأرقام سقطت من الجدران والخرائط شاخت والمعالم الشعبية صارت الدليل الوحيد، حتى إشعار آخر، يبقى "أبو عفيف" أسرع من أي رقم، في مدينة تاهت بين الماضي والمستقبل صار البشر خرائطها الحية. كل وجه عنوان وكل زاوية ذاكرة، ولأن العنوان في بيروت هو الحكاية كان لا بد من أن نعود إلى البدايات... إلى زمن لم تكن فيه الشوارع تحمل أسماء، بل حكايات.

من الدروب إلى الشوارع: ذاكرة بيروت في الحقبة العثمانية

يكشف الناشط والباحث في الشأن التراثي والبيئي لمدينة بيروت الدكتور سهيل منيمنة، أن "مدينة بيروت لم تعرف نظام أسماء الشوارع باكراً، إذ لم تكن هناك في العهد العثماني أسماء واضحة للشوارع، باستثناء شارعين رئيسين فحسب، كانا يعرفان باسم "الدرب الكبير" و"الشارع الجديد".

وأوضح أنه "في الحقبة العثمانية، لم تكن الشوارع تسمى الشكل المتعارف عليه اليوم، بل كانت تعرف باسم ‘الدروب‘، فكان هناك الدرب الكبير، وهو ما يعرف اليوم بشارع الأمير بشير في وسط بيروت، والشارع الجديد الذي كان يعتبر شارعاً تجارياً أساساً آنذاك، وكان التركيز الأكبر على تسميات ‘الحارات‘ مثل حارة الفلان أو المنطقة الفلانية أكثر من أسماء الشوارع بحد ذاتها"، وأضاف "مع مجيء الانتداب الفرنسي عام 1920 بعد عامين من انتهاء الحرب العالمية الأولى بدأت تسمية الشوارع في بيروت بأسماء جنرالات فرنسيين شاركوا في الحرب، فظهر لدينا شارع ويغون وشارع فوش وشارع ألنبي وشارع ستر، وغيرها من الأسماء التي تعود إلى ضباط في الجيش الفرنسي، من هنا بدأ نظام التسمية الحديث للشوارع في بيروت بالشكل الذي نعرفه اليوم".

وأشار منيمنة إلى أن "مهمة اختيار الأسماء كانت تقع على بلدية بيروت، التي كانت بدورها ترفع الاقتراحات إلى مجلس الوزراء لإقرارها رسمياً، وهو ما كرس أسماء الشوارع الحالية التي ما زالت معتمدة حتى اليوم".

كيف أعاد الفرنسيون رسم خريطة بيروت

وتابع الناشط والباحث في الشأن التراثي والبيئي "اعتماد العثمانيين على تسميات الحارات والمناطق كان مرتبطاً بطبيعة التخطيط العمراني العثماني، الذي لم يكن يعطي أهمية كبرى لفكرة الشوارع بالمعنى الحديث. ويستدل على ذلك من عملية التخطيط التي جرت في مدينة بيروت بين عامي 1914 و1916، التي هدمت خلالها معالم كثيرة بحجة تحديث المدينة. وكانت المناطق في السجلات العثمانية تعرف بأسماء ‘المزارع‘، مثل مزرعة الصيفة ومزرعة الأنطارة ومزرعة العرب (التي عرفت لاحقاً بعلي البربير) ومزرعة السيوفي في الأشرفية"، وأضاف "حين جاء الانتداب الفرنسي غير حتى هذه التسميات، فالكلمة العثمانية ’مزرعة‘ حولت إلى اسم المنطقة كما نعرفها اليوم، مثل الأشرفية والأنطارية والمزرعة، أما كلمة ’العرب‘ فقد شطبت من تسمية ’مزرعة العرب‘، فأصبحت المنطقة تعرف فقط باسم المزرعة، وهو ما يعكس السياسة الفرنسية آنذاك في التعامل مع الرموز المحلية".

نظام الترقيم في الثلاثينيات

وعن بدايات ترقيم الشوارع قال منيمنة "بدأت عملية ترقيم الشوارع في أوائل الثلاثينيات، خلال الانتداب الفرنسي أيضاً، وبدأوا حينها بوضع اللوحات الزرقاء المعدنية على جدران الأبنية، وكانت تحمل أرقام العقارات أو الشوارع، وقد أثبتت هذه الخطوة أهميتها في تسهيل المراسلات والتنقل والإدارة العامة، إذ كان لكل شارع رقم واضح، ولكل مبنى رقم خاص به".

"بصراحة، السؤال اليوم لماذا لا نعود إلى هذا النظام القديم الذي كان عملياً ومنظماً؟ هل هو الإهمال أم الجهل أم تعمد ترك الأمور في الفوضى؟"، يسأل منيمنة مؤكداً أن بيروت مرت بمراحل بلدية كثيرة لم تكن على قدر تطلعات أهلها، وأثرت السياسة والأمن في إدارة المدينة بصورة كبيرة، مما أدى إلى تعطل العمل التنظيمي فيها.

وعن الأسس التي كان يتم اعتمادها لتوزيع الأرقام على الشوارع والمباني، أوضح أنه "في بلدية بيروت يوجد دليل خاص باسم ’دليل بيروت‘، يتضمن أسماء الشوارع والمناطق وأرقامها، فمثلاً منطقة المزرعة قد تكون مسجلة في الدليل برقم معين، ولها شوارع مرقمة داخلها، مثل شارع رقم 1 وشارع رقم 2 وشارع رقم 3… وهكذا"، وأضاف "الترقيم كان في الأساس ترقيم شوارع لا أبنية، أي أن كل شارع كان يحمل رقماً متسلسلاً وفق الخريطة البلدية، أما المباني الواقعة على الشارع العام فكان يمنح كل منها رقماً عقارياً خاصاً بها، يوضع على اللوحة الزرقاء المثبتة على واجهة البناء، هذه الأرقام ما زالت موجودة على بعض الأبنية القديمة في بيروت حتى اليوم".

وتابع أن "كل عقار يملك رقماً خاصاً به، وإذا كان العقار يضم أكثر من بناء، فلكل بناء رقم متسلسل خاص، مثلاً إذا كان العقار رقم 12 يضم مبنيين فقد يمنحان الرقمين 13 و14 تباعاً، هذا النظام كان منظماً ودقيقاً لكنه لم يحدث منذ أعوام طويلة".

وعن الجهات المسؤولة عن تحديث هذا النظام اليوم قال منيمنة "الجهة المعنية أولاً هي بلدية بيروت، كما يمكن أن تكون وزارة الأشغال العامة أو مجلس الإنماء والإعمار شريكاً في أي مشروع شامل، وإذا كانت البلدية غير متجاوبة أو غير نشطة في هذا الملف، فعلى الجهات المركزية أن تتدخل".

من دفتر الشروط إلى التنفيذ الناقص

رئيس بلدية بيروت السابق الدكتور بلال حمد يؤكد بدوره أن "مشروع تسمية الشوارع وترقيم الأبنية كان من أبرز المشاريع التنظيمية التي أعدها المجلس البلدي خلال ولايته"، ويقول "أعددنا دفتر الشروط الكامل بالتعاون مع دار الهندسة، وهدفنا كان توحيد أسماء الشوارع واللافتات لتسهيل حركة السير والتنقل داخل العاصمة".

ويضيف أن "المشروع لم يكن لتغيير الأسماء، بل لتثبيتها وتنظيمها بلوحات واضحة وحديثة تغطي كل شوارع بيروت"، موضحاً أن "التنفيذ بدأ فعلاً بعد انتهاء ولايته في عهد رئيس المجلس البلدي جمال عيتاني، لكن العمل جاء مشوهاً وناقصاً في أماكن كثيرة من المدينة، فيما المقاول المكلف انسحب بعد تدهور العملة، على رغم أنه كان ملزماً قانونياً تأمين المواد مسبقاً"، مشيراً إلى أن "كثيراً من المقاولين يتهربون من التزاماتهم، وهناك ما أسميه نفاقاً مقنعاً في المشاريع العامة".

"أسباب التعثر لا تقتصر على الأزمة المالية، بل تشمل أيضاً سوء الإدارة وضعف المتابعة"، وعلى رغم كل العوائق، يصر حمد على أن المشروع لا يزال قابلاً للتطبيق "دفتر الشروط موجود، والمطلوب فقط إرادة جدية من المجلس البلدي الحالي لاستكمال ما بدأناه، لأن بيروت في حاجة ماسة إلى تنظيم أسمائها وترقيم أبنيتها بما يليق بعاصمة لبنان".

قاعدة بيانات رقمية تبدأ من السماء

في مدينة تتقاطع فيها الأزقة القديمة مع الأبراج الحديثة ما زال الوصول إلى عنوان في بيروت مهمة تحتاج إلى سؤال المارة أكثر من استخدام الخريطة، لا نظام رقمي يوحد الأبنية، ولا رموز تسهل حياة المواطنين أو الإدارات، وفي زمن باتت فيه المدن تدار عبر الأقمار الاصطناعية والبيانات ما زالت العاصمة اللبنانية تبحث عن رقم ثابت يعرف مبناها، وعن نظام يعيد إليها قدرتها على التنظيم والمعرفة.

في السياق يشرح المدير العام للتنظيم المدني إلياس طويل أن "مشروع ترقيم الأبنية في بيروت والمناطق اللبنانية هو عمل متكامل يفترض أن يبدأ من داخل نطاق كل بلدية، بالتعاون مع الجهات التقنية المتخصصة... والانطلاقة يكون من صورة جوية عالية الدقة تشمل كل المحتويات العمرانية، فيما لدينا اليوم شركات لبنانية وأخرى في الجيش قادرة على تأمين صور جغرافية دقيقة تحمل بيانات رقمية مباشرة يمكن البناء عليها لتحديث النظام البلدي"، ويضيف أن "الخطوة التالية تتمثل بإدخال هذه البيانات إلى برنامج متخصص لترقيم الشوارع والوحدات السكنية، بحيث يتم إنشاء قاعدة بيانات متكاملة تشمل الأشغال البلدية، وصيانة الطرق والإنارة والصرف الصحي والبنى التحتية كافة، عندها تصبح كل المعطيات مرئية ومترابطة، ويمكن استخدامها في مراقبة الجباية وتتبع الوحدات التي دفعت أو تأخرت عن الدفع، مما يتيح نموذجاً رقمياً متطوراً لإدارة المدينة".

من اللوحات النيلية إلى الرموز الذكية

يوضح طويل أن "هذه المنظومة ليست جديدة على لبنان، إذ كانت الأبنية في الخمسينيات ترقم بلوحات معدنية زرقاء (نيلية) لا تزال بقاياها ظاهرة على بعض جدران بيروت القديمة"، لافتاً إلى أنه "في تلك الحقبة كانت كل بناية تحمل رقمها الواضح، ومن خلاله يستدل على موقعها بدقة، سواء في الأشرفية أو الحمراء، ومع تطور التكنولوجيا يمكن اليوم إدخال هذه الأرقام مباشرة على الخريطة أو عبر نظام تحديد المواقع العالمي GPS لتصل إلى العنوان فوراً".

ويرى طويل أن "العالم انتقل من الأرقام المادية إلى الرموز الإلكترونية، تماماً كما في خرائط ’غوغل‘، إذ يمكن لأي شخص إدخال الرمز أو الكود للوصول إلى الموقع المطلوب بدقة"، مضيفاً "في الدول المتقدمة العنوان لم يعد اسماً لشارع فحسب، بل رقماً بريدياً محدداً لكل وحدة سكنية، ومن خلاله تصل كل الخدمات من البريد إلى الدليفري مباشرة إلى الباب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين ضعف التنفيذ وضرورة التعميم الوطني

يتطرق طويل إلى أسباب تأخر تطبيق النظام في بيروت قائلاً "لا أعرف تحديداً خصوصية العاصمة في هذا الملف، لكن من الواضح أنهم بدأوا التفكير أخيراً في تفعيله، من غير المنطقي أن تبقى مدينة بحجم بيروت بلا نظام ترقيم ذكي"، ويشير إلى أن "بعض المناطق اللبنانية، مثل سوليدير في وسط بيروت، اعتمدت هذا النظام منذ التسعينيات وفق معايير عالمية دقيقة، مما يؤكد أن المسألة ليست مستحيلة بل تحتاج إلى إدارة فاعلة وإرادة مؤسساتية"، مشدداً على أن "مشروع ترقيم الأبنية وإدراجه ضمن نظام المعلومات الجغرافية ليس ترفاً عمرانياً بل ضرورة وطنية لتنظيم العمل البلدي وتسهيل حياة المواطنين. العنوان الواضح ليس مجرد رفاهية حضرية، بل هو أساس كل خدمة، من جباية الضرائب إلى وصول الإسعاف والبريد إلى المنازل، حين نعرف أين نقف يمكن عندها أن نبدأ إدارة المدن كما يجب".

من الانتداب الفرنسي إلى بيروت الحديثة

من ناحيته، يؤكد المهندس الاستشاري محمد سعيد فتح، عضو مجلس بلدية بيروت السابق رئيس لجنة التخطيط في المجلس البلدي سابقاً، أن "فكرة ترقيم الأبنية ليست وليدة اليوم، بل تعود جذورها إلى فترة الانتداب الفرنسي، حين كانت بيروت تدار وفق نظام ترقيم متكامل شبيه بما يعتمد في العاصمة الفرنسية باريس"، ويقول "في باريس يستخدم نظام طاقي ومعياري دقيق، وقد استقدم هذا النظام إلى بيروت خلال فترة الانتداب، لكن الحرب اللبنانية أوقفت العمل به، وكنا على وشك إحيائه مجدداً لولا الظروف الاقتصادية والسياسية التي حالت دون ذلك"، ويلفت أنه "في زمن ما قبل الاستقلال كانت بيروت مدينة صغيرة تتألف مبانيها من طابق أو طابقين وحدائق محيطة، مما جعل عملية الترقيم سهلة وواضحة، أما اليوم وبعد عقود من التمدد العمراني باتت الحاجة ملحة إلى نظام حديث يقوم على تقنية نظام المعلومات الجغرافية، التي تتيح إدخال كل مبنى على خريطة رقمية محدثة تظهر صورته وعدد طوابقه وسكانه ومساحاته"، موضحاً أن "المشروع أطلق بالشراكة مع مديرية الشؤون الجغرافية في الجيش اللبناني لإعادة ترقيم الأبنية والشوارع، خصوصاً تلك التي استحدثت بعد المخططات القديمة، لكن الأزمة المالية أوقفت التنفيذ قبل استكماله"، ويضيف أن "المشروع كان متقدماً ومتكاملاً إلى درجة أن إنجازه كان سيمنح بيروت خريطة رقمية موحدة تشمل المباني والشوارع وصورها ومعلوماتها كافة، إلا أن الانهيار المالي الذي أصاب البلاد، خصوصاً تجميد أموال بلدية بيروت في مصرف لبنان أدى إلى توقفه".

"حينها كانت أموال بلدية بيروت تقدر بـ970 مليار ليرة لبنانية، أي نحو 650 مليون دولار، لكنها اليوم لا تتعدى 11 مليوناً بعد انهيار العملة، لم تعد هناك قدرة على استكمال المشروع أو تمويله"، يقول فتح مؤكداً أن "هذا النظام، لو اكتمل، كان سيسهل عمل الإدارات العامة، إذ يتيح عبر طبقات الخريطة الرقمية الوصول إلى أدق التفاصيل من الشوارع والتخطيطات إلى شبكات الإنارة والأنفاق والمياه".

ومن التجارب التي ألهمت المشروع يشير فتح إلى "بلدية الحازمية في قضاء بعبدا، التي نجحت في تطبيق نظام الـGIS لتحديد مواقع الأبنية والجباية وتنظيم الخدمات بكبسة زر، إضافة إلى إمكان تطوير تطبيق إلكتروني للمواطنين يستخدم كما في Google Maps للوصول إلى العناوين بدقة".

التكنولوجيا أول الحلول للقضاء على البيروقراطية

وعن الجانب العملي للمشروع يقول فتح "المواطن هو المستفيد الأول، فبدلاً من البيروقراطية التي تضيع فيها الملفات يمكن إنجاز المعاملات ودفع الرسوم إلكترونياً، كما في باريس أو لندن"، لكن لتحقيق ذلك يؤكد أن "بيروت تحتاج إلى بنية تحتية رقمية مفقودة حتى الآن، فحتى خرائط البنى التحتية الأساسية غير محدثة، ولا أحد يعرف بدقة مواقع المجاري أو خطوط المياه".

ويشير إلى أن النظام لا يقتصر على التخطيط العمراني، بل يشكل قاعدة بيانات شاملة تسهل عمل البلدية والدفاع المدني وهيئة السير وخدمات الطوارئ، وحين تكون المعلومات كلها مرتبطة جغرافياً يمكن التدخل السريع في حال الأعطال أو الحوادث، وتتحول المدينة إلى منظومة ذكية متكاملة، ويضيف أن "البلديات الذكية ليست فكرة مستقبلية بل واقع تطبقه مدن مثل جدة والدمام وموسكو وغيرها، إذ تعرض على الشاشات الكبيرة كل تفاصيل المدينة من الكهرباء إلى المياه إلى الألياف البصرية، ويمكن رصد أي عطل لحظة وقوعه"، لافتاً إلى أنه "في بيروت، أنجزنا نحو 40 في المئة من المشروع، لكن ما زلنا في حاجة إلى استكماله لندخل العصر الرقمي فعلاً".

عوائق التمويل والإدارة… والفرصة الضائعة

يستعيد المهندس فتح الأسباب التي أجهضت المشروع فيقول "ما ينقصنا ليس الفكرة، بل الإدارة والتمويل، بيروت كانت أغنى بلدية لكنها فقدت مواردها بعدما وضعت أموالها بالليرة اللبنانية في مصرف لبنان، وبات الصرف يخضع لإجراءات بيروقراطية طويلة تمر بالمحافظ ووزارة الداخلية وديوان المحاسبة"، كاشفاً عن أن "بلدية بيروت كانت تملك مشاريع جاهزة لم تنفذ، منها إنتاج طاقة كهربائية نظيفة لتقليل التلوث الناتج من المولدات، ومشاريع للنقل العام ومعالجة النفايات، لكن كل ذلك توقف مع الانهيار".

يصف فتح العقبة الأعمق بأنها "المصالح الشخصية داخل الإدارة البلدية"، موضحاً أن "بعض الموظفين يرفضون الميكنة لأنها تحد من التواصل المباشر مع المواطنين، ومن ثم من فرص الفساد"، ويرى أن تجربة "سوليدير" وسط بيروت تقدم دليلاً على إمكان تطبيق النظام بنجاح، إذ "كل مبنى هناك يحمل رقماً واضحاً يمكن الوصول إليه فوراً، والمشروع أنجز بمعايير فرنسية دقيقة منذ التسعينيات"، أملاً أن "يتمكن المجلس البلدي الحالي من إعادة إطلاق مشروع ترقيم الأبنية وتوحيد الخريطة الرقمية لبيروت، فتنظيم المعلومات هو الخطوة الأولى نحو مدينة يمكن إدارتها فعلاً، لا مدينة نعيش في فوضاها".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات